جوى للانتاج الفني
الرئيسيةعلى الخشبة"عد عكسي".. دُمى هنادة الصباغ تشعر وتُزيح المُمثلين إلى الوراء

“عد عكسي”.. دُمى هنادة الصباغ تشعر وتُزيح المُمثلين إلى الوراء

لا تُفوّت التشكيلية هنادة الصباغ فرصةً دون الإشارة إلى التحجيم الذي طال مسرح العرائس، بعد أن كان للحكواتيّة والمُخايلين مساحة في حياة الناس، ومن ثم كان إيمانها بما يُمكن للدمى أن تحمله من طروحاتٍ سياسيةٍ واجتماعيةٍ وفلسفيةٍ، واشتغالها في هذا الميدان سنواتٍ تنوّعت فيها المحطات، حافزاً نحو خطوةٍ مُتقدّمة تأليفاً وإخراجاً في العرض المسرحي “عد عكسي”، المُستمر حالياً على خشبة مسرح الحمراء، وعلى ما تقوله الصباغ فالعمل مشروعٌ تعمل عليه منذ أعوام، للتأكيد على أن هذا النوع الفني تقزّم بتأطيره وتوجيهه نحو الصغار، في حين أن ميادينه أوسع وأبعد من ذلك بكثير.

يبتعد العرض عن الشكل التقليدي المُتعارف عليه في مسارحنا، ويُمكن عدّه نقلةً حقيقية، باتكائه على مجموعة دمى منحوتة من الطين ومصنوعة من معجونة الورق، بما يتناسب مع الشخصيات التي تُؤديها، وكما تُوضح صباغ لـ “فن وناس”، هذا العمل يجعل من مصمم العرائس، نحاتاً ومصمم أزياء وكوافير وماكيير، وميكانيزم للحركة.

تقول أيضاً: “استغرق الرسم والتصميم مني خمس سنوات دون تفرغ كامل، وكان العمل يسير بتأنٍ مع الموسيقي سامر الفقير، الذي رافقني منذ كتابة النص، ووضع موسيقا العرض بناءً على إيقاع الدمى، هواجسها ومخاوفها وأفراحها، بحيث رافقها موسيقياً، بجمالياتٍ وإضافاتٍ مُنتظمة ومدروسة”.

ومن اللافت أيضاً، غياب الحوار بين الشخصيات، مقابل أصواتٍ لهمهماتٍ وضحكاتٍ، وشيءٍ من الصخب والعويل، غير أن هذا التحييد مقصودٌ بذاته، أرادت الصباغ منه، الإشارة إلى قدرة الدمية على إيصال الأحاسيس بلا كلام، إذ إن الشخصية التي يحكي عنها العرض تعيش صراعاتٍ ومآسٍ كثيرة، فكان الرهان كما تقول على جدارة الدمى في جذب المتفرج، مع ما يُرافقها من موسيقا ومؤثرات، مُضافاً إليها الإضاءة والشاشة التي وضعها صاحب الرؤية البصرية المتميزة أدهم سفر قبالة الجمهور، ليُتابع العرض العائد إلى الماضي، بعين الشخصية التي ماتت روحها حسرة، وكانت تستعيد مراحل وحوادث وذكريات مرّت في حياتها.

استخدمت الصباغ دمى مسرح الطاولة، التي تعتمد ظهور الممثل على الخشبة، بمعنى إدارته العلنية للدمية، بشكلٍ يُنافي ما اعتدنا عليه في تواريه خلف الستارة، لكنها تجاوزت القاعدة كما فعلت في العرض عموماً، وأظهرت الممثلين على الخشبة يحركون الدمى بالعصي، دون أن يُقلل هذا من حضور العرائس، وقدرتها على شد المتلقي، بحيث لا يُبالي بحضور الممثل إطلاقاً، وهنا تُضيف “لا بد من الإشارة إلى دور الممثل القوي، القادر على إمساك وتحريك الدمية بحرفية عالية، بحيث يُسقط أناه تماماً، على عكس الممثل العادي الأناني، والذي يُريد أن يكون مرئياً على الخشبة، لكنه في حالتنا أعار أحاسيسه للدمية لتتكلم بلسانه وتُوصل شعوره”.

يحمل “عد عكسي” عبر اسكيتشات مُتتابعة، أبعاداً روحية، تحكي عن مراحل عمرية لشخصية، تُشبه ما يعيشه الناس عموماً من زواج وهجرة وفقدان وسعادة في أعياد الميلاد وحفلات التخرّج والجنازات والأيام الموحشة، لكن وبمزيدٍ من التفصيل، تقول الصباغ لـ “فن وناس”: “خطرت لي الفكرة عندما توفي والدي، تساءلت عن معنى الحياة عند هذا الإنسان الذي رحل راضياً، ما الذي جعله سعيداً خلال حياته رغم مروره بإخفاقات ونجاحات، وأدركت أن الجوهر كان في اللحظات الجميلة التي عاشها مع أسرته، حتى أنه قبل رحيله كتب رسالة لأمي شكرها فيها على العشرة الطيبة”.

في العرض كانت الشخصية/ الدمية تستدعي عبر الصور، أجمل اللحظات مع العائلة كولادة طفل وزواج ابنة، وكأنها تعي في النهاية أنها الشيء الوحيد المُتبقي لها، وفي السياق ذاته، جاءت فكرة الأبواب المفتوحة في “عد عكسي”، دلالةً على تزاحم التجارب في الحياة وتشعّب الطرق والاتجاهات، فمراتٍ تمر الدمية باكتئاب وتُفكر في الانتحار، وفي غيرها تسير خلف رغباتها وأهوائها، وفي أخرى تعيش الفراغ والإحباط والحب، تعتلي المناصب وتشعر بالغرور، تستجيب أحياناً لهواجسها الداخلية ومخاوفها، وتُغامر بالمشي على جسر مُتهالك، لتتعلّم في النهاية كيف تثق في نفسها، وكيف أن المسارات المختلفة ضرورة ليكون لها وعيها، ومن ثم تدعونا لنحيا ببساطة، طالما أن كل شيء سيمضي، كما تُوحي الساعة الرملية المُعلّقة في أعلى المسرح.

العمل في مسرح العرائس المُوجّه للكبار، ليس جديداً على الصباغ، إذ سبق أن قدّمت عام 2017 عرض “حياة من ورق” في القباني، وهي حاصلة على الماجستير من جامعة سانت بطرسبورغ في سينوغرافيا مسرح العرائس وتصنيع الدمى، وفي رصيدها العديد من ورشات العمل خارج سورية، إضافةً إلى أنها درّست في المعهد العالي للفنون المسرحية وبعض الجامعات الخاصة، إلا أن ما يحتاجه هذا الفن برأيها، ينطلق أولاً من الدراسة الأكاديمية، فالهواة ومُحبو الدمى، لا يعرفون عنه شيئاً، وعلى حد تعبيرها، فهو اختصاص مظلوم عربياً، وينحصر ضمن الحِرف أو مسرح الطفل، مشيرةً إلى الشباب مُحركي الدمى في “عد عكسي”، والذين يعمل بعضهم في هذا المجال لأول مرة، لكنهم جميعاً آمنوا بالدمى وصدقوها، وتعاطوا معها باهتمامٍ وشغفٍ كبيرين.

أمّا عن مستقبل هذه النوعية من العروض، ومدى اهتمام الجمهور بها قياساً بما اعتاده، تقول الصباغ “تلقيتُ ردود فعلٍ إيجابية منذ قدّمت “حياة من ورق”، رأيتُ في وجوه الناس دهشة وتساؤلاتٍ، وكلّي ثقة بأن العروض الشبيهة ستترك أثراً مع تكرارها وتكثيفها محلياً في أماكن مختلفة، ستشد الناس لرؤية ما هو مختلف، ونحن بحاجة دائمة لتطوير أدواتنا، كما فعل البعض من المخرجين الذين استعانوا بالأقنعة والدمى كنوع من التغيير والتحديث، هذا نوعٌ من الاختلاف سيكون له جمهوره ومتابعوه، ثقتي نابعة أيضاً من حديثي مع حضور العرض، يُسعدني أنهم استمتعوا”.

لبنى شاكر – صحفية وناقدة فنية

مقالات ذات صلة

- Advertisment -

الأكثر شهرة