جوى للانتاج الفني
الرئيسيةعلى الخشبةليلة مرتجلة .. محبوكة التفاصيل!

ليلة مرتجلة .. محبوكة التفاصيل!

أن ينقل المسرحيُّ قصصاً من وحي الواقع إلى الخشبة أمرٌ ليس سهلاً، فهو يحتاج إلى تكثيف للفكرة، واحتوائها في مكان ضيق، وحوارات متتالية غير مملة لطرح القضية والمشكلة ومن ثم الوصول للذروة فالنهاية.

هذه العناصر كلها لم تَخْفَ على المخرج والكاتب يزن الداهوك الذي قدم في المسرح الدائري”فواز الساجر” بالمعهد العالي للفنون المسرحية عرضه الجديد “ليلة مرتجلة” الذي جمع في بطولته الممثلين الشباب “فادي حواشي، ميرنا المير، مازن الحلبي، شيراز لوبية، عمر نور الدين، براء بدوي”

تناغم متقَن

يجتمع أبطال الحكاية ليلعبوا شخصيات متنوعة مؤدين أدوار خريجي دفعة واحدة من قسم التمثيل في المعهد العالي للفنون المسرحية، كل منهم وجد طريقه في مجال الفن، البعض اشتهر والبعض مازال مغموراً يبحث عن فرصة، و تبدأ القصة باجتماعهم جميعاً في منزل صديقَيهما “قيس وأنس” ذات ليلة بغية التسلية والسمر، لكن ما تلبث أن تنتقل تلك السهرة من مرحلة الانسجام والحب إلى مرحلة المكاشفة والصراع بين المغمورين منهم والمشهورين، ليتنامى صراع الأفكار والمبادئ الفنية والقيم النبيلة مع الأفكار التجارية والسعي للبحث عن عمل بطريقة عملية بغية العيش دون الاكتراث الجاد والحاد لقضايا الفن والمسرح، ويبدأ كل شخص منهم “بشد اللحاف” لطرفه.فالشابان المغموران قيس وأنس (لعب دورَيهما مازن الحلبي وعمر نور الدين) متمسكان بمبادئهما الفنية وقيم المسرح والتعليم الأكاديمي، يحاول صديقهما “عدنان” (براء بدوي) أن يجلبهما لعمل فني “هابط” يُبَث عبر منصات الفيسبوك، فهو تحولَ لمتعهد يسعى للربح عبر هذه الأعمال، ورغم محاولات إقناعه لصديقيه للعمل معه يفشل في ذلك، فهما متمسكان بالمسرح وأدواته رغم فقرهما المادي.

يأتي للسهرة فيما بعد سلام والتي تؤدي شخصيتها شيراز لوبية وهي تحمل خبر توقيعها على بطولة عمل لأول مرة، يبارك لها الجميع لكنها لم تكن فرِحة كثيراً فقد تعرضت للتحرش وخضعت له في سبيل الحصول على هذا الدور، وكان قد أرسلها للشركة المنتجة الممثل الشهير صديقها وابن دفعتها وائل، الذي لعب دوره فادي حواشي، ليأتي للسهرة مع ليلى صديقتهم في الدفعة أيضاً، والتي أصبحت مشهورة بسبب أدوارها وجمال شكلها.

لم تكن هذه السهرة عابرة لدى الجمهور فأداء الشباب الستة كان متقناً للغاية، والتناغم في الحوار شكل نوعاً من المتعة التي مسّت الحاضرين في كل لحظة، والحوارات كانت سريعة لا تهدأ، بسيطة عفوية وواقعية، لا مجال للصمت الواسع فيها ولا للملل أو البرود، مع اعتماد العرض على فضاء مسرحي مكون من طابقين، أحدهما في الأعلى ويمثل سطح منزل قيس وأنس الذي تدور فيه الأحداث والثاني المنزل نفسه بما فيه من ردهات بسيطة.

التناغم كان في طاقة الشباب وتسليمهم الجمل لبعضهم، وتنقلهم بجنون من حالة شعورية لحالة أخرى، من الضحك والتمثيل و “التأفيل” إلى المكاشفة والبكاء ومن ثم الانهيار بعد الاعتراف بالحقائق، وقد وصل التناغم والانسجام نفسه للجمهور وشعر به، فالعيون تتحرك نحو الشخصيات والأحداث دون كلل، والمفاجآت تتوالى واحدة تلو الأخرى.

شخصيات بأداء عالٍ

من اللافت أن يتمحور موضوع المسرحية حول المشكلات التي يعاني منها خريجو التمثيل في المعهد العالي للفنون المسرحية وعلاقاتهم ببعضهم وأن يُقَدَّم هذا الطرح داخل المعهد نفسه، ما يثير لدى المتلقين شعوراً ممتعاً في سبر أغوار الحكاية وكواليسها من ذات المكان الذي خرَّجَ مجموعة كبيرة من الفنانين.

في الأدوار التي لعبها الشباب لم يكن التفاوت كبيراً أو واضحاً، فالجميع أعطى ما لديه بكل اندفاع، يأتي فادي حواشي بشخصية وائل الفنان المشهور بلغة جسد متقنة تظهِره بمظهر ذاك الشاب الذي يحاول إخفاء تعاليه، فينجح بإقناع الجمهور بذلك، واستخدم عبارات ونبرة صوت لا تخلو من المراءاة والفوقية، فكان ذكياً وناضجاً بتقديمه الشخصية دونما غلوّ، ولعل شخصية براء بدوي كانت الأكثر قرباً من الجمهور لخفة دمها وكسرها أي جمود كان الممكن أن يكون موجوداً في المسرحية، فعدنان يمثل شخصية ممثل تحول لما هو أشبه بتاجر فني كي يحصل على المال، فبات منطقه ومنطوقه شبيه بأولئك التجار، يفتح “بازار” ليبيع النص مع ممثليه، وقد أدى براء شخصية عدنان باندفاع لم يخفت لحظة، واستقطب الأنظار نحوه، ولعل شخصيته هي الأكثر إنهاكاً بين أبطال العرض لما فيها من انفعالات مبالغ بها تستلزم حضوراً وطاقة عالية من ناحية حركات الجسد والصوت والمواءمة بين الانفعالات الداخلية والخارجية، وفي كل ذلك كان براء “قد المسؤولية”.

في حين أطلت ميرنا المير بهدوء بسيط جذاب، ركزت على شكلها وشَعرها وحركات الزهوّ لكنها لم تنسَ أن تلعب على أوتار أدواتها في الوقت المناسب لتظهِر ما لديها، لا سيما بعد أن وجدت نفسها مخدوعة بحب وائل، ومواجهتها لحبيبها السابق أنس، لحظة جعلتها تطلق العنان لانفعالاتها، متخليةً عن قناع الشهرة والجمال الذي تمسكت به لتؤدي ما يلزم بكل ثقة وفي الوقت الملائم.

أما مازن الحلبي فكان أكثر الممثلين في العرض الذين اشتغلوا على انفعالهم الداخلي، فالشخصية تتطلب ذلك، برع بتصدير لغة جسده وحركات عينيه وحزنه ولا مبالاته بكل ما يجري حوله، فباتت هذه الشخصية التي تتسم بالتعنت تارةً واللا مبالاة تارة أخرى محوراً لكثير من الحوارات الصادقة التي طُرِحَت، فلفت الأنظار واستقطب الاهتمام لا سيما في الحركة الأخيرة التي أداها باكياً خاضعاً وهو يرتدي قناع زي الميكي ماوس الكبير الذي يعمل فيه بائعاً للبالونات في الشوارع، الأمر نفسه فعله عمر نور الدين الذي كانت شخصيته تركز على المشاعر المرتبكة المشتعلة المتورطة في حب سابق انتهت حكايته، لكن لم ينتهِ أثره، وهذا الحب كان لليلى صديقته في الدفعة التي تواجدت في السهرة ولم يكن يعرف كيف يتعامل معها، أظهر عمر حالة الارتباك قبل مجيئها وفي أثناء وجودها من خلال نظراته وتصرفاته الحائرة، انهارت فيما بعد كل قدراته بعد أن ثَمِل كما انهارت المبادئ والقيم في تلك الليلة، فتحول إلى وحش ابتلع الخشبة بجدارة حين واجه حبيبته السابقة، فكان عمر ناضجا بأدائه، إن في مرحلة الهدوء الذي يسبق العاصفة، أو في مرحلة الانفجار.

شيراز لوبية تؤدي دورها بانفعالات عميقة داخلية مليئة بالصمت والحزن، كانت تحاول أن تخفي ما ترغب البوح به، تخبطت مشاعرها بصدق، واجهت الحقيقة في النهاية بطريقة ذكية، فباتت عيناها كحجر ناطق لا يستطيع الحراك كثيراً لهول الصدمة، فلم تُغالِ أو تبالغ، لتظهر وكأنها نسمة العرض.

قضية مستحقة الطرح

ينتمي العرض للمسرح الواقعي، فهو يطرح قضية يعيشها الوسط الفني اليوم ولم يسبق أن طُرحت بهذا التكثيف والذكاء، وهذه القضية لها علاقة بمعاناة الشباب الممثلين في دخول المعترك الفني وتحقيق حلم الشهرة من خلال البحث عن فرصة عمل في وسَط ضائع المعايير، يدخله كل من هبَّ و دَب، ويتحكم به منتجون تجار لا أصحاب فكر، ولا يأبه بمن درس التمثيل أكاديمياً لسنوات وبين من درسه سنة أو من دخله بالواسطة.

العرض خلال ساعتين من الزمن ناقش تمسك الخريجين بمبادئ الفن والقيم السامية من خلال شخصيتي أنس وقيس، وطرح قضية التحرش بالنساء من خلال شخصية سلام التي تبحث عن المجد من خلال دور بطولة، فتقدم جسدها للمنتج لتحصل عليه، وقُدم من خلال شخصيتي ليلى ووائل النزعة الاستغلالية لدى بعض الممثلين ممن يضحك لهم الحظ والدنيا بدور صغير، فيصبحون مشهورين لسبب قد يكون سخيفاً، ومن خلال عدنان نشاهد الربح الهائل الذي ينكبُّ على منتجي الأعمال الفنية الرديئة التي تُعرَض عبر فيسبوك ومنصات وسائل التواصل، فيحصد الممثل فيها مالاً وشهرة دون الحاجة للبحث عن دور جدي في مسلسل أو فيلم ما.

الجميل في الحكاية المطروحة أن جميع الشخصيات لديها وجهات نظر صحيحة بدون استثناء، ومن الممكن أن يتعاطف المتلقي مع الكل أو على الأقل لا يستطيع إدانة أفكار أحدهم، فالمتمسك بالفن الأصيل والقيم والمبادئ على حق، والذي وصل للشهرة ويحاول أن يتطور أكثر على حق، والباحثة عن فرصة عمل بأي طريقة بعد طول انتظار على حق، والعامل في المسلسلات الفنية الرديئة التي تُبَث على وسائل التواصل أيضاً معه حق، لذا وضع الكاتب والمخرج يزن الداهوك بذكاء كل الفرضيات الموجودة في الوسط الفني اليوم أمامنا، ويبقى على الجمهور أن يحاكم نفسه والواقع معاً.

ربما قد يعيب على العرض أنه موجه بشكل أكبر للعاملين في الوسط الفني أو المتعمقين في كواليسه من فنانين وكتّاب ومخرجين وإعلاميين فنيين، فمن لا يهتم بهذه الأمور من المحتمل أن يجد قصة العرض غريبة عليه ولا يستوعبها كثيراً، لكن رغم ذلك لا بد أن تلمس فيه شيئاً، على اعتبار أنها واضحة للجميع وتخلو من أي تعقيدات وماورائيات ورموز.

يناقض مخرج وكاتب العرض يزن الداهوك هذا الرأي ويقول لمجلة فن وناس إن الجمهور اليوم بات يعلم كل شيء عن الوسط الفني من خلال وسائل التواصل ما يعني أن من يرغب بحضور العرض ستصله الفكرة التي يُراد إيصالها.

ساعد نص يزن المتميز وفكرته وتحريكه للممثلين والقصة والمكان، ضمن رؤية إخراجية وسينوغرافيا وإضاءة خدمت العرض بكافة معطياته فمنحته رونقاً إضافياً دونما تشعُّب واسع في زيادة المستلزمات الفنية الموجودة في المسرح، لتأتي الأدوات متناسبة مع المساحة الصغيرة للفضاء المسرحي.

المتعة .. شرعية الفن

يُعَرَّف الارتجال على أنه إنجاز عفوي مباشر لفكرة فنية من غير تصميم أو تدوين سابقَين، ورغم أن العرض كان تحت عنوان “ليلة مرتجلة” إلا أن الفكرة بدت وكأنها محبوكة من جميع جوانبها ومُحَضَّرة بعناية من حيث الأسلوب والطرح والتناغم فيما بينها، لا تفكك ولا ضياع، بل قصة مسرحية مدروسة تناسب كل الشرائح بثقافاتها وأعمارها، يدخل فيها المتلقي متسائلاً ليخرج مستمتعاً ويريد المزيد.

جوان الملا – صحفي وناقد فني سوري

مقالات ذات صلة

- Advertisment -

الأكثر شهرة