جوى للانتاج الفني
الرئيسيةأيقونةقبل "نهاية رجل شجاع".. العمل المفصلي في تاريخ التلفزيون العربي

قبل “نهاية رجل شجاع”.. العمل المفصلي في تاريخ التلفزيون العربي

الكتابات حول مسلسل (نهاية رجل شجاع)، التي لم تنقطع على مدى ثلاثين سنة، تكاد تجمع على عدّه أحد أفضل الأعمال التلفزيونية العربية، وهناك من أعتبره عملاً مفصلياً في تاريخ التلفزيون العربي، وتحول كبير في نوعية الأعمال التلفزيونية السورية والعربية، والمسلسل الذي غير وجه الدراما السورية.

شاركت عدة أسباب مجتمعة في منح مسلسل (نهاية رجل شجاع)، ذلك التقدير الواسع، في مقدمتها رواية حنا مينة التي استند اليها، وتحمل الاسم ذاته، وقد صدرت طبعتها الاولى عن دار الآداب للنشر والتوزيع في بيروت عام 1989. فقد صور الروائي العريق (ربان الرواية البحرية) في روايته هذه – كما في معظم رواياته الأربعين- أجواء المدن البحرية، وأريافها ومرافئها، ببراعةٍ وعمق، فهو – كما قال في اللقاءات معه – كان: «عتالاً في مرفأ اللاذقية، وهو لا يكتب إلا ما رآه وعاشه، وعاناه معاناة صادقة».

مهدت لظهور (نهاية رجل شجاع) تحولات هامة في الدراما التلفزيونية السورية بدأت منذ الثمانينات، مع أن السنة الأولى منها لم تشهد إنتاج أي عمل تلفزيوني درامي بسبب تحويل أستوديو الدراما في الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون إلى نظام جديد. إلا أن ذلك فتح عصر الإنتاج الدرامي التلفزيوني الملون. وإلى ذلك شهدت مطالع الثمانينات بدايات تحقق حلم الدراميين السوريين بالخروج بالكاميرا من بين جدران الأستوديو، وقد أتاحت التطورات التقنية الجديدة، وخاصة في مجال الكاميرا المحمولة تحقيق هذا الحلم القديم، فأنجز المخرج فردوس أتاسي في عام 1982 تمثيلية (الميلاد). أول عمل درامي تلفزيوني تم تصويره كاملا باستخدام الكاميرا المحمولة.

في عام 1984 بدأ التلفزيون خطوة هامة ستظهر نتائجها سريعاً في مجال دعم الإنتاج الخاص. فبعد أن توفرت للمرة الأولى عربة النقل الخارجي لتنفيذ عمل درامي، حيث أخرج طلحت حمدي بواسطتها مسلسل (السنوات العجاف)، قام التلفزيون بتأجير العربة إلى المنتج فيصل مرعي ليتم استخدامها في تصوير مسلسل (غضب الصحراء). ومنذ ذلك الوقت بدأ اعتماد المخرجين التلفزيونيين السوريين على الكاميرا المحمولة، والتصوير خارج الأستوديو ينمو باستمرار حتى صار صفة مميزة لعملهم.

رواية مبدعة (حنا مينة)، ومشروع مجدد (أيمن زيدان)، ومشهدية بصرية ممتعة ( نجدة أنزور).. أقانيم ثلاثة ضمنت نجاح العمل لكنها لم تكن لتكتمل لولا سيناريو المبدع (حسن .م يوسف)

المخرج نجدت أنزور                                                                          الفنان أيمن زيدان                       
الكاتب حسن م. يوسف                                                         الكاتب الراحل حنا مينا                                     

رفدت التسعينات الدراما التلفزيونية السورية بجيل جديد من المخرجين التلفزيونين الذين أكدوا على أهمية الصورة في الدراما التلفزيونية، وبقدوم نجدت أنزور مترافقاً بحديثه عن (اللغة البصرية)، والذي اعتبر معه أن العمل التلفزيوني الذي يمكن متابعته دون الصورة (على السماع) هو ليس عملاً تلفزيونياً، بدأ التنافس المشهدي بين المخرجين، وقد ساهم هذا التنافس بدفع هذه الدراما خطوات إضافية إلى الأمام، ربما بفعل التطابق الضمني بين الحديث عن (اللغة البصرية) والحديث عن (اللغة السينمائية). وقد تزامن هذا مع دور أساسي في هذه المرحلة لعبه الفنان أيمن زيدان، خريج أول دفعة من المعهد العالي للفنون المسرحية، فهذا الفنان القدير والطموح والواسع الأفق تسلم إدارة واحدة من أوائل الشركات الخاصة التي تأسست في تلك المرحلة، وأكثرها نفوذاً وثراءً، وقد عمل على ترسيخ تقاليد متطورة لصالح توفير شروط عمل مريحة، وتحسين أجور الفنانين والفنيين. والتوجه نحو الإنتاج الضخم اعتماداً على نصوص لكتّاب كبار، ومخرجين متميزين، وعلى هذا تم الاتفاق مع حنا مينه على شراء روايته (نهاية رجل شجاع) عام 1993 بمبلغ مليون ليرة سورية. وكُلف الصحفي والقاص والسيناريست حسن. م. يوسف بإعداد السيناريو والحوار لها، فأجرى تعديلات على بعض الشخصيات لتتناسب وعملٍ درامي تلفزيوني. فنفى نية وفعل الانتحار عن بطل العمل (مفيد الوحش)، وعدّل شخصية حبيبته (لبيبة الشقرق). واستبدل المشهد الأخير في الرواية بمشهد توج المسلسل، ففي حين تُختتم الرواية حيث يردي مفيد رقيب دورية الجمارك (زريق) قتيلًا ثم يوجّه المسدس إلى صدغه وينتحر. اختتم المسلسل بإمساك مفيد (المُقعَد على كرسي متحرك) برقبة الزلقوط لخنقه فيصطدم الأخير وهو يحاول تحرير نفسه ببوابة السور الخشبي المحيطة بالجرف البحري فتُفتح البوابة وينزلق الكرسي المتحرك، ويهويان معاً إلى قاع البحر، وحين تأتي لبيبة تجد أن كل شيء قد انتهى وتظل تتأمل البحر في مشهد ختامي لا ينسى.

بعد إنجاز السيناريو والحوار «بدأت رحلة البحث عن مخرج – كما يقول أيمن زيدان- فعندما نقوم باقتراح جديد، علينا أن نبحث عن اقتراح بصري جديد أيضا. المصادفة وحدها هي التي قادت إلى المخرج نجدت إسماعيل أنزور، وذلك من خلال سهرة تلفزيونية. تواصلنا معه، وهكذا توفرت عناصر المشوار من نص ومخرج وطاقم الممثلين». وكان هذا خياراً أثبت صحته فقد وضع أنزور مفهومه عن اللغة البصرية أمام المشاهد الذي تابع بشغف ما لم يره من قبل. وخاصة زوايا التصوير غير المألوفة. ووضع أمام الكاميرا إمكانيات الإنتاج الكبيرة، متنقلاً بكاميراه الوحيدة (كالسينمائية) بين مدن وقرى الساحل السوري، وفي البحر أيضاً، مسترجعاً برهافة بصرية أجواء الزمن الذي تدور فيه أحداث الرواية – المسلسل. مرفقا ذلك بموسيقا مبهرة أبدعها طارق الناصر. وشارة مؤثرة كتب كلماتها حسن م يوسف وغناها ياسر فهمي. وعلى امتداد 27 حلقة تلفزيونية تابع المشاهد أحداثاُ حيوية بعيدة عن الحوارات المملة بأداء بارع ل 86 ممثلاً من نجوم الدراما السورية. ومن الذي خطوا في هذا المسلسل خطوتهم الأولى على طريق التألق والانتشار.

على خلفية الاحتلال الفرنسي في الأربعينات يدور الصراع الوطني والاجتماعي في الرواية، يختزله حنا مينه بحكاية الفتى مفيد الوحش الذي عانى من قسوة أبيه، وأهل قريته، فغادرها دون عودة. ثم وجد نفسه بمواجهة سطوة المتنفذين وظلم المستعمرين، فنمت نزعة العنف في داخله، وخاض العديد من المشاكل والشجارات، إلى أن أصابه مرض السكر بسبب سوء العناية في السجن، واضطر الأطباء إلى بتر ساقه، ليخرج رجلاً آخر، مليئا، بالكأبة ولا يحلم سوى بامتلاك ساقين صناعيين ليعود إلى الحياة، لكن عدواً قديماً قطع أحلامه قبل أن تتحقق. لم يشأ الروائي الواقعي أن يدفع بطل روايته للاتحاد مع المظلومين الآخرين لأجل رد الظلم كما يفترض بكاتب متحرر، وإنما اختار إضاءة الوجه النقيض، وجه البحث عن الخلاص الفردي. ففقدت حياة بطله معناها رغم قوته وشجاعته.

في (نهاية رجل شجاع) المسلسل، وجدت الرواية المبدعة حاملاً بصرياً وسمعياً مبدعاً، تناول حياة أهل البحر لأول مرة في الدراما التلفزيونية السورية. وأوصل مقولة الرواية بلغة بصرية راقية دون خطابية أو مباشرة، فانتشرت الرواية، ورسخ المسلسل في الذاكرة.

مقالات ذات صلة

- Advertisment -

الأكثر شهرة