جوى للانتاج الفني
الرئيسيةمساحة حرةياااااا قمر مشغرة..

ياااااا قمر مشغرة..

… “يا قمر مشغرة…!!!”

وانطلق الموال الفيروزي الهادر عبر أثير إذاعة دمشق، عند تمام الساعة الثانية من بعد ظهر ذلك اليوم التشريني، وكان يوم سبت، رقمه ستة في روزنامة أيام “أكتوبر” حسب التعبير المصري، ورقمه عشرة في رمضان التقويم الهجري.

كان يوماً مباركاً حسب قول من كانوا قد عاشوا “نكسة” سابقة قبل حوالي ست سنوات، لكنه غدا يوما ما أكثر ما صُبّت عليه من لعنات الخصوم والأعداء، في الطرف المقابل…

شقيقي الذي كان مجنّداً على الجبهة السورية روى لي كيف كانت فرحة الحماس الشبابية، مع رفاقه، لحظة سماع الموال البديع في المذياع، لحظة تزامنت مع إشارة القيادة بأن تنطلق المدفعية في مهامها إلى جانب باقي الفصائل، في الجبهات العربية المتكاملة والمتكاتفة آنذاك… الحكاية طويلة ولكم تناقلها فيما بعد الأبناء عن الآباء والأجداد منذ 51 عاما.

لكن الحكاية التي لم تنل حظّها من الانتشار، والتي أنقلها اليوم، جرت وقائعها في موقع آخر من كوكب الأرض، تحديدا في الطرف الشمالي من البحر المتوسط، على شاطئ يُعرف بأنه “لازوردي” جنوب فرنسا، حيث توجد إمارة صغيرة مستقلة وادعة، معروفة أولا بجمال طبيعتها، وبجمال أميرتها، النجمة السينمائية الأميركية غريس كيلي، التي انسحبت من عرش النجومية الهوليودية لتعتلي عرش الإمارة الصغيرة إلى جانب حاكمها الوسيم الأنيق الدبلوماسي الذي اختار بأن تكون إمارته، القابعة على صخرة هائلة إسمها “موناكو” مع صخرة أصغر بقليل إسمها “مونت كارلو”، أقول اختارها لتكون مقصدا لعشاق الجمال واللهو والهدوء الممتع…

كان لهذه الإمارة إذاعة تحمل إسمها الفرنسي “راديو مونت كارلو”، تبث برامج خفيفة منوعة باللغة الفرنسية للترفيه عن الجماهير المحيطة بالمنطقة، غير أن العلاقات الدبلوماسية مع الجمهورية الفرنسية الديغولية التي كانت تبحث عن وسيلة للتقرب من العالم العربي، سعيا ربما إلى محو ذكريات الانتداب الفرنسي وإرساء علاقات مصالح حديثة، جعل موناكو توافق على مشروع اقترحته فرنسا وارتأت أن تستعين من خلاله بالإمكانيات التقنية لافتتاح إذاعة ناطقة باللغة العربية، تحت راية الإمارة الجميلة، مع الاستفادة من وجود جهاز بث لفرنسا في جزيرة قبرص يمكن ربطه بشريط “كيبل” بحري…وهكذا كان…

الافتتاح الرسمي للإذاعة كان في مطلع شهر أيار 1972، بفريق عمل مصغّر من مذيعي المنوعات العرب، قدم للاستقرار في مدينة مونت كارلو، وفريق عمل إخباري صغير يعمل في العاصمة باريس، فيما كانت التقنيات تجمع بين الفريقين ببراعة شديدة.

ويسأل سائل: وما علاقة كل هذا بذكرى حرب تشرين؟

كان لا بد من التوضيح!!! إذ أن الإعلامية المصرية الكبيرة سناء منصور كانت آنذاك هي حجر الأساس في الإذاعة الوليدة، وهي التي كرّست الصورة الترفيهية الزاهية التي صارت طابعا لها، كما أنها أول من أعلن رسميا بصوتها عن ميلاد البث المباشر للإذاعة في ربيع 1972، بعد قرابة سنة من البث التجريبي الذي كان مقتصرا على برامج موسيقية مسجّلة بصوتَيْ سناء منصور المحترفة، وهيام المبتدئة!!!

بعد الافتتاح الرسمي للبث البرامجي، كان ظاهر هذه الإذاعة ترفيهيا عفويا ضاحكا، حيث يتناوب على تقديم البرامج من استوديوهات مونت كارلو الفرنسية 4 مذيعين عرب: سناء منصور المصرية المحترفة بالرغم من صغر سنها، والمستجدّون في المهنة الإذاعية الثلاثة، مجدي غنيم المصري، حنا مرقص الفلسطيني ومهيار حيدر السوري… وهنا بيت القصيد…

بعد تقريبا سنة ونصف من افتتاح الإذاعة رسميا، نبأ انطلاق حرب تشرين / أكتوبر 1973، وقع عليهم كالصاعقة …تساءلوا: كيف لنا أن نضحك و”نفرفش” مع المستمعين على إيقاع الأغاني الغربية الراقصة والحرب قائمة في بلادنا؟

بمنتهى الجرأة، وفي غياب الإدارة المستقرة في باريس، اتخذت المذيعة المصرية الشجاعة قرار اعتماد الموسيقى الكلاسيكية في البرمجة العامة، ونقل أخبار الجيوش العربية حسب ما تورده برقيات وكالات الأنباء…

إلى أن وصلت أصداء هذه التطورات في البث للإدارة الفرنسية من خلال تهنئة مندوب الجامعة العربية للمدير العام “لموقف الإذاعة المشرّف” من القضية العربية، إلى جانب احتجاج الطرف الآخر لموقف الإذاعة المناهض!!!

ثمّ… وبناءً على ما سبق، حضر المدير العام للمؤسسة من باريس، وطلب من سناء منصور التوقف عن هذا التغيير في خط الإذاعة، فهددت بالاستقالة، ثم كتبتها ورفعتها للمسؤول، ثم فوجئت بعد قليل بأن زملاءها حذوا حذوها وتقدموا باستقالاتهم، أيضا…متكاتفين في موقفهم…

لم يطل الأمر بالإدارة، وبعد استشارات سريعة مع مصادر عليا، فوجيء الموظفون الأربعة الشجعان بأن الإدارة رضخت لموقفهم الصامد، وأن بعض عقلاء الجهات العليا تفهّموا أن الموقف الشجاع، على عكس التوقعات، كان لمصلحة الإذاعة الوليدة.

وهكذا وبسبب هذه الحكاية، أصبحت هذه الإذاعة في مقدمة وسائل الإعلام المتابَعة آنذاك..

تحية كبيرة للرعيل الأول في هذه المؤسسة الإعلامية التي أثبت العاملون فيها آنذاك قدرتهم على تغيير المسار… وتحية خاصة للإعلامية الرائدة سناء منصور…

وإذا سألتم عن غياب اسم كاتبة هذه السطور من الأحداث المذكورة، فالجواب بكل بساطة أنها كانت بعد طالبة جامعية تداوم في السوربون وغير قادرة على الاستقرار في الإمارة البعيدة لكن دؤوبة على تقديم كل ما هو ممكن من خلال وجودها مع الفريق الإخباري في قسم الإذاعة في باريس، بقيادة الإعلامي الكبير أنطوان نوفل!!!

لكم كانوا كباراً …ولكم تغيّر وجه الإعلام بعد نصف قرن… وسبحان الدايم…

هيام الحموي – إعلامية ومذيعة سورية

مقالات ذات صلة

- Advertisment -

الأكثر شهرة