جوى للانتاج الفني
الرئيسيةنقد تلفزيونيمسلسل حرب نفسية.. سرد لوقائع مرض نفسي عبر حكاية بوليسيّة مشوّقة

مسلسل حرب نفسية.. سرد لوقائع مرض نفسي عبر حكاية بوليسيّة مشوّقة

تفصيلة صغيرة استعارها صنّاع مسلسل “حرب نفسية” من علم النفس كحقل معرفي له خصوصيته وبنوا عليها دراما مسلسل “حرب نفسية” الذي عرضته مؤخرا منصة “جوي” من تأليف أيمن الشايب وإخراج أحمد شفيق، ومن إنتاج ممدوح شاهين، والذي يعتبر أول بطولة مطلقة للفنانة أروى جديدة بعد عدد كبير من الأدوار المختلفة لها في السينما والتليفزيون.

حيلة نفسية تبني عوالم درامية

تلك التفصيلة تخص مرض الفصام والذي يعاني المصاب به حسب علم النفس من هلاوس سمعية وبصرية ويميل للعزلة وقلّة الأصدقاء كما توجد لديه عدم قدرة على تمييز مجريات الواقع ممّا يجعله منفصلا عنه مسلوب الإرادة، وهو مرض معروف بين الناس باسم الشيزوفرينيا، وتلك هي الأعراض التي تعاني منها بطلة مسلسلنا، لكننا لا تعرفها منذ بداية الحلقات وإلا كنّا فقدنا الشغف بمتابعة الحلقات، فالكاتب يسرد علينا حكايته من جانب بينما يخفي جوانب أخرى كثيرة وهو ما من شأنه عمل التشويق والإثارة لجذب أكبر عدد من المشاهدين لإنتظار الحلقات التالية لمتابعة ومعرفة بقية الأحداث الدرامية.

بطلتنا “جمانة” ـ أروى جودة هي التي أدّت الدور بسلاسة وقدرة على التحكم بانفعالاتها ـ تعمل مذيعة شهيرة، لها مستوى اجتماعي مرتفع، وزوجة لطبيب شهير يمتلك مستشفى، الحياة مستقرة تماما، ظاهرها يؤكد ذلك، لكن سرعان ما تتحول الأمور لتنقلب حياة “جمانة” تماما، وذلك عند تلقيها لمكالمة تليفونية تهددها على الهواء أثناء إذاعة أحد برامجها وهو ما يصيبها بالتوتر والقلق، خاصة مع بعض التصرّفات الغريبة من سائقها الشخصي ومن أحد الملثمين الذي يرمي لها ورقة صغيرة أثناء قيادتها لسيارتها يواصل فيها تهديداته ثم يختفي سريعا ووصولا إلى حادثة مقتل زوجها وهو نائم بجوارها في صباح اليوم التالي.

هنا يؤسس المسلسل لعالمه المثير ويربط مشاهديه بسلاسل ذهبية إلى مقاعدهم في انتظار معرفة الإجابة على عدة أسئلة أهمها: من الذي يفعل كل ذلك بـ “جمانة”؟ ومن الذي قتل زوجها؟ وكيف ستواجه منفردة هذا العالم الغامض بكل ما يحتوى عليه من أشباح مجهولة وكامنة بداخلة..؟!

تتلقى “جمانة” اتصالا عند استيقاظها واكتشافها لمقتل زوجها من شخص غامض يخبرها بأنه هو من قتل زوجها وهو أيضا من قام بإبلاغ الشرطة، وأن عليها الهرب فالشرطة لم يتبق على ظهورها إلا دقائق وسيتهمونها بقتل زوجها لأن كل الملابسات تشير إليها بمفردها، وهو وحده من يمتلك القدرة على إنقاذها من أيادي الشرطة فهو قد خطّط بذكاء لكل شيء، وهنا نقع كمشاهدين بين شخصيتين نعرف إحداهما وهي “جمانة” بينما لا نعرف عن الشخصية الأخرى صاحبة الصوت التي تقوم بتوجيه “جمانة” لتصرفاتها أي معلومة، تنسحق شخصية “جمانة” وتسلب منها إرادتها أمام كم المعرفة التي تتحلّى بها شخصية المتصل عنها، فهو يعرف كيفية إنقاذها من كل ورطة تقع فيها، وقد قام بترتيب شديد الدقة لكل التفاصيل القادمة التي ستعترض طريقها، يعرف عنها أيضا كل ماحدث لها في الماضي، حيث يظهر تماما وكأنه بمثابة توأم ملتصق بها عايش كل لحظات حياتها الماضية والراهنة ويعرف أيضا مكنوناتها الداخلية.

تماس مع أفكار أخرى

يتماس ذلك إلى حد ما مع مسلسل “30 يوم” الذي كتبه كلا من أحمد شوقي ومصطفى جمال هاشم وأخرجه حسام على عام 2017، فثمة إتصالات تليفونية من مجهول تقوم بتوجيه بطل المسلسل ـ أدّى دوره آسر يس ـ لكن الفرق هنا أن الشخصية التي تقوم بتوجيه بطل مسلسل “30 يوم” معروفة لدى المتفرج ومجهولة فقط لدى البطل لكن دوافعها للإنتقام غير معروفة تماما، أما الشخصية التي تقوم بتوجيه “جمانة” وكأنها صاحبة الوصاية عليها في كل أمورها مجهولة تماما من حيث معرفتنا لها وأيضا من حيث دوافعها التي تجععلها تقوم بكل ذلك.

في “30” يوم نكتشف أن دوافع الشخصية للانتقام جاءت عبر شخص آخر دفع لها المال، هذا الآخر هو صديق البطل، ليس صديقه فقط بل هو أيضا الضابط المكلّف بمتابعة قضيته، أي أنه من المفترض أن هذا الضابط يبحث عن نفسه لأنه هو نفسه المحرض على دفع البطل للجنون في السر وهو فى نفس الوقت الذي يحاول أن يحمي هذا البطل في الظاهر، لكن في “حرب نفسية” شخصية البطلة “جمانة” هي نفسها الجلاد والضحية في آن واحد، هي من تتصل بنفسها عبر صوتها الداخلي وتقوم بجلد نفسها وتعذيبها ساردة على نفسها وقائع حياتها الكاملة وهي أيضا وفي نفس الوقت من تحاول إنقاذ نفسها من مطاردات صوتها الداخلي لها، وهنا يأتي توظيف مرض الفصام الذي قرّر الكاتب أن بطلته تعاني منه.

الفصام .. رحلة خرافية داخل الذات

نعم، لدينا هنا ظاهر وباطن، ظاهر الشخصية “جمانة” بناءا على تقديم المسلسل لها، وباطنها الذي نعرفه في الحلقة الأخيرة، وما بين الحلقة الأولى وحتّى الحلقة ما قبل الأخيرة ندور مع دراما المسلسل في دوائر مفرغة، فبعد مقتل الزوج تهرب “جمانة” لفندق صغير تعيش به أمها يرسلها الصوت الداخلي إليه لتجد هناك أمها في حجرة صغيرة، ثم يعود هذا الصوت الداخلي ليطلب منها إنقاذ صديقتها القديمة “شهد” من مستشفى زوجها، وبعد إنقاذها يجعلها تخطف إبن صديقتها “شهد” الصغير، وهكذا تستمر طلبات الصوت الداخلي ويستمر معها تنفيذ “جمانة” لها.

وفي كل خطوة تخطوها “جمانة” وهي تنفذ تعليمات صوتها الداخلي، ندور داخل رحلة مع البطلة نعرف خلالها ماضيها كله، ونفاجأ بمخزن كبير ممتلىء بالأسرار داخل “جمانة” بداية من النشأة المتواضعة، الأب العاجز، طمع العم واستغلاله للعائلة، مقتل الأب، ثم موت الزوجة وهروب “جمانة”، ومن ثم قضائها لسنوات كثيرة من حياتها داخل الملجأ والذي نعرف أنها تعرّفت داخله على صديقتها “شهد” والتي شهد لها الجميع بعد مقارنتهم بين الصديقتين بأن “شهد” هي الأفضل منها في كل شيء ممّا يضطر “جمانة” لفعل أي شيء لارتقاء السلم الإجتماعي كي تصبح أفضل من “شهد” وهو ما تحقق لها بعد ذلك.

والرحلة التي خاضتها “جمانة” عبارة عن رحلة داخل مسرح عقلها، ومحاولة منها لإعادة التوازن النفسي المفتقد لديها، إنها رحلة تشبه رحلة “أوديب” الباحث طوال الوقت عن الرجل المتسبّب في حدوث اللعنة التي حلّت بالبلاد ولا يدري أنه هو ذلك الرجل، إنه يبحث عن نفسه وهو ما يكتشفه في نهاية الأمر ويجعله يفقأ عينيه لأنه لم يستطيع أن يرى بها حقيقة نفسه وهو شبيه بما تفعله “جمانة” عندما تواجه نفسها بحقيقتها وتسلّم نفسها في نهاية الأمر طواعية للشرطة من دون أي مقاومة.

طبيعة شريرة وأخرى طيبة

إذن تلك الرحلة هي رحلة داخل الذات في محاولة لسبر أغوارها، رحلة تتصارع داخل ذات واحدة لديها طبيعتين أحداهما شريرة وقاسية وقاتلة، والثانية طيبة ومتسامحة تود مساعدة الآخرين، هذا الصراع محتدم وكل شخصية من هاتين الشخصيتين تحاول بشراسة الإنتصار على الأخرى، لذا كان فعل المواجهة بين الشخصيتين في نهاية الأحداث هو مجرّد محاولة لإعادة التوازن المختل لدى شخصيتنا الدرامية.

هذا الصراع بين الطبيعتين الشريرة والمتسامحة يظهر في جملة بسيطة قالتها للضابط المكلف بقضيتها حينما صرّحت له قائلة:

ـ “أنا نفسي أساعدك من جوه بس من برّه مش هاقدر”.

وبالتالي نرى أن الطبيعة الشريرة تقوم بخطف السيدات الحوامل من مستشفى الزوج الذي يتاجر في الأرحام كي تنقذهم وذلك حسب إملاءات الطبيعة الخيّرة، ثم تقوم بعد إنقاذهم بقتلهم بعد خطفهم لأن عقدتها النفسية بسبب عدم قدرتها على الحمل والإنجاب دفعتها لذلك، ثم نراها تقتل زوجها كي تحصل على الحرية التي لم تحصل عليها يوما ولم يحصل عليها والدها أو والدتها، ثم نجدها تقوم بخطف إبن “شهد” كي تنتقم منها لأن الجميع يرى أن “شهد” هي الأفضل، ثم تعود طبيعتها الطيبة لتنتصر وتعيد الطفل مرة أخرى لأمه، وهكذا يتأسس الصراع الداخلي لدى ذات بشرية واحدة هي لـ “جمانة” لكن برغم هذا الصراع لا تستطيع “جمانة” في نهاية الأمر إعادة التوازن المفتقد لديها لنفسها! ربما يحدث ذلك أو يحدث عكسه إذا ما قررّ صناع المسلسل استغلال نجاحه وعمل جزء ثان.

مركبات العقدة النفسية

والمتأمل لمكونات عقدة “جمانة” النفسية التي تؤثر عليها وتأسرها داخلها وتجعل ماضيها يزحف على حاضرها ويكبّله يجدها تتجسد في عدة عوامل أساسية: عجز الوالد، خيانة العم، موت الأم، هروب “جمانة”، دخولها الملجأ الذي عاشت فيه، الشعور بالنقص أمام “شهد”، بيعها لنفسها كي تحقق التفوّق في حياتها، عدم قدرتها على الإنجاب، …. كل ذلك شكّل لها ظاهر جميل له رونق طاووسي جذّاب وباطن مظلم كسرداب طويل تسكنه الأشباح، ولا منتصر أو منهزم في هذا الصراع، حتما ستتحطم الشخصية إلى فتات صغيرة.

قضية المسلسل ليست بالجديدة لكن مؤلفها إختار طريقة حكي مثيرة تعتمد: التقديم والتأخير، إخفاء بعض المعلومات وإعلان البعض الآخر حتّى تحين لحظة إعلانه، إيقاع مشدود رغم أن معظم مشاهد المسلسل تم تصويرها داخل الأستوديوهات وفي أماكن مغلقة، والمشاهد الخارجية قليلة، ويبدو أن هذا اتجاه في صناعة الكثير من مسلسلات هذه الأيام، ميزانية معقولة وحكاية مثيرة تمتلىء بالألغاز التي يلهث وراءها المتفرج آملا في حلها.

حقق المسلسل المتعة والتشويق ، وهذا كاف، مع أنه ادعى التصدي لأسئلة كبرى من قبيل هل الإنسان مسير أم مخير

والمخرج أحمد شفيق تميّزفي إخراجه لمشاهد المسلسل بإيقاع جيّد صنعته مشاهد قصيرة متلاحقة وحالة من الغموض منحتها لنا عدسات الكاميرا من خلال تركيزها على أشياء وتفاصيل لا نعرف حكايتها أو مناسبتها للمشهد ثم نعرف بعد ذلك ضروتها الدرامية في كشف معلومة ما، نفس الأمر تكرر في إعادة بعض المشاهد أكثر من مرة في محاولة منه لتقديم أكبر عدد من التفاصيل، فمثلا يقدم مشهد لسرقة خزينة الفيلا عبر شخص مجهول، ثم مشهد آخر في حلقة تاليه نتعرّف فيه على الخادمة ونعرف أنها حضرت واقعة السرقة لكنها لا تستطيع الإفصاح عن من فعلها، ثم مشهد ثالث في حلقة بعد ذلك نعرف فيه أن السارق هو زوج “جمانة” وصاحب الفيلا، وهكذا..

اختار المسلسل هذه الطريقة في الحكي لأنه رآها الأكثر تشويقا وجذبا للمتفرجين، تفاعل مع ذلك وساعد على زيادة تأثيره اللقطات السريعة، الموسيقى الحماسية، الأداء الجميل لكل من: مصطفى درويش في آخر أدواره التليفزيونية، جيهان خليل بقوّة أدائها والتفاصيل الصغيرة التي غلّفت بها مشاهدها فأكدت لنا طبيعتها المقاومة رغم براءة وجهها، أيضا براعة علاء قوقه في أداء شخصية صاحب الكازينو والفندق، فقد كان قادرا على بلورة أدق التفصيلات التي تخص شخصيته الدرامية التي تجمع ما بين القوة واللزوجة في آن واحد، وبرغم أن ظهور الفنان أشرف زكي كان في آخر حلقتين إلا أنه ترك تأثيرا وانطباعا ملحوظا لدى المتفرجين، وأيضا استطاع كلا من: محمد فريد، جيهان أنور، عصام السقا، نيفين رفعت… تأدية أدوارهم بنعومة ومقدرة على انتزاع الإعجاب من المتفرجين في حدود أدوارهم المكتوبة لهم.

أخيرا نحن أمام مسلسل من ضمن المسلسلات التي تعتمد على حيلة نفسية أو متلازمة ما يضعها المؤلف ضمن تركيبة شخصية بطله ثم يقيم عليها صراعه الدرامي وبالتالي يحكي قصته وفق شروط هذه الحيلة النفسية وما تمليه علي صاحبها من تصرّفات، والمشاهد للمسلسل يمكنه أن يلحظ أن مرض الفصام وما يلحق به من انفصال عن الواقع “الذهان” تم رصده كاملا داخل سلوك شخصية “جمانة” وكأننا أمام درس دعائي تعليمي لعرض سلوكيات مريض الفصام وصفاته ولكنه درس في إطار قصّة مشوّقة استطاع صناعها أن يحكونها بطريقة محكمة وقادرة على انتزاع الإعجاب لدى الأسر العربية، كما أن صنّاع المسلسل حافظوا معا على وضع أزمة درامية صغيرة داخل كل حلقة كي يزيدوا من جرعة الإعجاب والتشويق، والأمر كله يعتمد على قدرة فريق المسلسل في تقديم قصة بسيطة يمكن حكيها في جملة واحدة بطريقة معيّنة تجعل منها حكاية تستهلك 15 حلقة تليفزيونية مدة الحلقة الواحدة حوالي الــ 40 دقيقة.

إجمالا نحن أمام مسلسل مسل ومحبّب في نوعيته لدي المشاهدين بعيدا عن أية تأويلات فلسفية أو أفكار كبيرة، وبعيدا عن إدعائه معالجته فكرة فلسفية أو سؤال إشكالي كسؤال: هل الإنسان مسيّر أم مخيّر، كذلك السؤال الذي طرحه المسلسل، فهذا سؤال قديم تمّت الإجابة عليه بعشرات الطرق المختلفة، الديني منها والفلسفي وإعادة طرحه في المسلسل جاء في غير موقعه ولم يؤثر في الأحداث بنفس قوّة وطريقة طرحه التي كررها المسلسل في أكثر من موضع، نحن هنا داخل هذا المسلسل من أجل المتعة والسياحة الذهنية المشوّقة والقادرة على جمع الناس من حولها، وهذا كاف جدا.

ابراهيم الحسيني – كاتب وناقد مصري

مقالات ذات صلة

- Advertisment -

الأكثر شهرة