جوى للانتاج الفني
الرئيسيةتايم لاينمحمد خان.. "الحرّيف" الذي غيّر نظرتي لسينما مصر

محمد خان.. “الحرّيف” الذي غيّر نظرتي لسينما مصر

في كتابه “مخرج على الطريق”، يروي محمد خان تفاصيل تلك اللحظة التي قلبت حياته رأساً على عقب، وجعلته يحلم بأن يصير صانعَ أفلام. حدث ذلك في لندن، أوائل الستينيّات. فقبيل ذهابه إلى المعهد الذي كان يتحضّر فيه لدخول كلية الهندسة، استوقفه جاره السيريلانكيّ، ملقياً عليه تحيّة الصباح. يقول خان:

“سألته، لأول مرّة، عن ما يفعله في الحياة، ليفاجئني بأنّه يدرس السينما، وأتذّكر جيداً صدى كلماته وهو يبتعد شاهراً مظلّته لتحميه من المطر الذي بدأ بالسقوط، فقد أيقنت في تلك اللحظة أن مستقبلي قابل للتغيير.”

كانت تلك الصدفة أشبه ما تكون بإشارة، يرويها خان بهذه الشاعريّة، كما لو أنّه لم يكن بحاجة لأكثر من تلك الصدفة حتى يمضي مطارداً حلمه في دراسة السينما.

البداية كانت في مدرسة لندن لفنون السينما. عمل بعدها خان في مصر كمساعد مخرج وقارئ نصوص. لكن البداية الفعليّة في بيروت، حيث كان من الوافدين إليها بعد تأميم القطاع السينمائيّ في مصر بداية الستينيّات. هناك أصبح خان أكثر احتكاكاً بالصنعة السينمائيّة من الداخل.

المخرج القادم من لندن، والممتلئ شغفاً بالأفلام، كان يملك متجراً لبيع الملابس، معتقداً أن علاقته بالسينما انتهت بتلك التجارب القصيرة في بيروت.

لكن القدر تدخّل ليعيد محمد خان إلى مصر. ففي زيارة لمنزله في لندن برفقة أحد الأصدقاء المشتركين، اقترحت المونيتيرة نادية شكري عليه العودة إلى مصر، واستغلال قلّة تكاليف الإنتاج، ليؤسس مشروعه السينمائيّ الخاص.

باع محمد خان متجره، واشترى أحلامه، فأقفل عائداً إلى مصر، وهو يمنّي النفس بإنتاج فيلمه الأول “ضربة شمس”.

 

خان الذي باع متجره في لندن، ليشتري في مصر حلمه بالسينما

 

التأسيس لسينما مختلفة

في بداية وعينا، نحن “جيل التسعينيّات”، كانت نظرتنا لسينما مصر بوصفها مجرد أفلام تجاريّة. شهدت تلك الفترة سطوة شبّاك التذاكر على خيارات الإنتاج السينمائيّ التي باتت أكثر ميلاً للسينما التجاريّة، فظهرت أفلام رديئة، احتلت دور العرض السينمائيّ لأسابيع على حساب أفلام تفوقها مضموناً وقيمة. حينذاك، لم أكن أنتظر الكثير من الأفلام المصريّة. فكانت متابعة فيلم مصريّ مُعاصر لا تتجاوز كونها مجرد محاولة للحصول على جرعة خفيفة من التسلية والترفيه. ولهذا، لم أكن أحمل التقدير الكبير لسينما مصر.

وفي أواخر التسعينيّات، كان على ذلك الجيل من المخرجين الواقعيّين أن يصيروا أكثر تماهياً مع شروط السوق الذي يولي اهتماماً للإيرادات أكثر من القيمة الفنية للأفلام؛ فظهرت أفلام حاولت أن تُمسك العصا من المنتصف.

أول عهدي بالسينما المصرية الجادّة كان مع أفلام محمد خان. كنت قد شاهدت، حديثاً، فيلم “سوّاق الأوتوبيس”، ل عاطف الطيّب، والذي كتب قصته محمد خان نفسه. في ذلك الوقت، قرّرت مشاهدة أفلام محمد خان، ووقعت في غرام أفلام الواقعيّة الجديدة التي أسس لها محمد خان ورفاقه.

محمد خان
بوستر فيلم سواق الأوتوبيس

في تلك الفترة الصعبة من تاريخ مصر، لم يكن ممكناً أن تبقى السينما المصريّة بعيدة عن هموم الشارع المصريّ، فظهرت أفلام تناولت فترة الانفتاح الاقتصاديّ في السبعينيّات، وما تلاه من تحولّات اقتصاديّة واجتماعيّة أثّرت في الإنسان المصري.

شكّلت تلك الأفلام ثورةً على السينما التقليديّة. فنزل صنّاعها إلى الشوارع بعدما بقيت السينما المصرية حبيسة الاستديوهات الضيقة لسنواتٍ طويلة.

مشروعه السينمائيّ

كانت الشخصيات أساس مشروع محمد خان السينمائيّ. فالحبكة هي الشخصية والشخصية هي الحبكة. وعلى طريقة السينما الواقعيّة التي أخلص لها خان، لم يكن التكثيف بالحدث ذاته، بل في العاطفة التي تخلق ذلك الرابط المتين بين شخصيات الفيلم والمُشاهد، والتي تجعل الأفلام تعيش طويلاً في ذاكرة الجمهور.

عمل خان على الشخصيات وتفاصيلها وهواجسها وأحلامها ومخاوفها، فجاءت أفلامه وفيّة للإنسان في أكثر لحظات شقائه وانسحاقه. فلطالما التقط صاحب” زوجة رجل مهم” شخصياته من الواقع، ولطالما كان الشارع بطله الأول، ومنه استلهم أبطاله وحواديتهم.

بوستر فيلم زوجة رجل مهم

فالضابط في “زوجة رجل مهم” كان شخصية بوليسيّة عرفها خان في الواقع، وكانت على أعلى درجات التعجرف والتسلّط في التعامل معه، ومن هنا وُلدت فكرة “زوجة رجل مهم”. لقد صنع خان فيلماً ينتصر للبسطاء على كلّ المتسلّطين، فقتل بطل فيلمه، وجعل زوجته تدفع ثمن سلبيّتها في مواجهة الشيطان الذي كان يكبر يوماً بعد آخر في سرير نومها.

بعد ذلك بسنوات، صنع خان فيلم “فتاة المصنع”، فقدّم البطلة كشخصية قويّة اختارت مواجهة التقاليد والمجتمع وبؤس حياتها بثبات وجُرأة.

بوستر فيلم فتاة المصنع

وفي “موعد على العشاء”، أدّت “سعاد حسني” واحدة من أجمل شخصيات الأفلام وأكثرها تعقيداً، فاختارت الانعتاق، ولو كان موتاً، كأي روحٍ حرّة لا تطيق العيش داخل أقفاص الزوج المتسلّط والمجتمع.

بوستر فيلم موعد على العشاء

أبطال خان عاديّون جداً، حقيقيون، متسلّطون، مهمّشون، يتأرجحون بين أحلامهم وواقعهم المُرّ.

لقد كان صاحب “عودة مواطن” حريصاً على صناعة سينما تنقّب في الشخصية المصريّة في كل مراحلها. فكانت انعكاساً لقهرها وانكساراتها وهزائمها وتقلّباتها.

بوستر فيلم عودة مواطن

لهذا السبب بالضبط، كانت سينما محمد خان لا تُنسى. سينما يتكامل فيها الصوت مع الصورة في خدمة الحالة والموقف والشخصيّة. خلطة مثاليّة، لا تجدها حاضرة بهذا التكامل الدلالاتي المذهل في أفلام أقرانه من المخرجين. ففي سينما خان، تتقدّم صناعة فيلم يدوم في وجدان المتفرّج على صناعة فيلم يحتلّ دور العرض، وينتهي تأثيره مع نهاية وقت العرض، فلا تعيش شخصياته طويلاً في ذاكرة المتلقي كما يعيش أبطال خان في ذاكرتنا

الموسيقى والصورة في سينما محمد خان

في فيلم “الحرّيف”، يصنع محمد خان مشهداً يخلو من أي حوار عدا جملة فارس (عادل إمام): “الدنيا برّدت قوي”.

بوستر فيلم الحرّيف

قد تبدو هذه الجملة عاديّة ومختصرة جداً، لكنّها تضجّ بالمعاني والدلالات في هذا المشهد تحديداً.

ففي الوقت الذي يدفع (يزقّ) نجاح الموجي سيارة أجرة عابرة، يتذكّر حاجته ل”زقّة”؛ فيضحك، ثم يترك نفسه لدموع القهر وقلّة الحيلة.

يتكئ المشهد على الصوت والصورة، فيتراجع الحوارأو يصمت. فنجد فارس الضائع بين حلمه بأن يصير لاعب كرة قدم وحاجته للمال، ورفيقه المكتوي بنار الفقر، يتشاركان واحداً من أجمل مشاهد الأفلام . طوال الفيلم، تهيمن على حواسك أصوات التنهيدات والتعب البشري، فيترك محمد خان لك الفرصة لتسمع قهر الإنسان ووجعه. وهنا، تعلو موسيقى “هاني شنودة”، لتكمل سيمفونية الصدق السينمائيّ والتأثير.

وفي “خرج ولم يعد”، يقدّم محمد خان فيلماً بديعاً من النوع السهل الممتنع. الحكاية عن “عطيّة” الذي خرج من قشرة التوجيه والوصاية، فأعاد اكتشاف نفسه في ريف مصر، بعيداً عن ضجيج المدن وزيفها. تُكرّس موسيقى “كمال باكير” المذهلة هذا الانتقال بين الموسيقى التي تمنح المتفرّج شعوراً كئيباً في المدينة، وبين الموسيقى التي تعطي إحساساً بالراحة النفسيّة والحريّة في الريف، كانعكاس لحالة البطل الشعوريّة.

يهندس محمد خان هذا الانتقال بسلاسة وجمال، على مستوى الصورة والصوت والمكان، فيمنح المتفرّج شعوراً معدياً بالراحة.

 

بسبب تكامل الأدوات الدلالية تعيش شخصيات خان طويلا في وجدان المتلقي

 

أبطال غير تقليديين

تلحظ في أفلام “محمد خان” موهبةً فذّة في اختيار أبطال غير تقليديين. ففي “مشوار عمر”، تأخذ السيّارة حيّزاً من البطولة، كعالم للبطل، ولتدلّل على الطبقة التي يمثّلها عمر(فاروق الفيشاوي). فعمر ابن مدلّل لطبقة الأثرياء التي أفرزتها التحولّات الاقتصاديّة في نهاية السبعينيّات.

محمد خان
بوستر فيلم مشوار عمر

وفي الفيلم أيضاً، يعلو صوت الراديو، لتكون إذاعة “مونتي كارلو” شريكة في مشاهد البطل، الذي لا يفارق سيارته، فتعطي إحساساً حقيقيّاً للمشهد، وبعداً زمنيّاً للحكاية.

وفي فيلم “زوجة رجل مهم”، يحضر عبد الحليم حافظ، رغم الغياب، كأحد أبطال الفيلم. فيقدّم محمد خان “العندليب” كأكثر الشخصيّات تأثيراً وحضوراً في الذاكرة الشعبيّة المصريّة. فلا يكاد يخلو فيلم لمحمد خان من صوت عبد الحليم، أوصوره، كشخصية ملهمة للمصريّين في الفنّ والحياة. فهو محبوب المصريّين بمختلف طبقاتهم وانتماءاتهم، وهو الفنّان الذي أحبّه المصريّون أكثر من أي فنّان آخر على اختلاف أجيالهم.

سنواتٌ ثمانية مرت على رحيل أكثر السينمائيّين العرب شغفاً، محمد خان، رفيق المهمّشين والبسطاء، شاعر الصورة، والرجل الذي أنفق عمره في حُبّ وصناعة السينما.

مقالات ذات صلة

- Advertisment -

الأكثر شهرة