جوى للانتاج الفني
الرئيسيةأيقونةمجزرة سفاح تكساس.. تمرين جيد على الخوف

مجزرة سفاح تكساس.. تمرين جيد على الخوف

احتفل السينيفيليون منذ فترة بمرور خمسين عاما على انتاج هذا الفيلم , وهذا يطرح سؤالاً خاصا به , ما سبب التقدير الكبير الذي ناله؟ , هل بسبب تأسيسه لنوع اصبح متداولاً بشدة في سينما اليوم أو باعتباره فيلماً مرجعيا في سينما الرعب , أم لكونه يحمل كل مواصفات السينما المستقلة ضعيفة الميزانية , والسبب الأهم , هل نال هذا الفيلم المُنتج منتصف السبعينات ما ناله بفضل قدرته على نقل هلوسات صناعه وهوسهم بالرعب والجريمة وهو السبب الرئيس وراء ما خلفه من ذعر وهلع بين مشاهديه الذين حولوه مع الأيام لكلاسيكية تحتفي بالقبح والجنون وتلامس أكثر أشكال الخوف غريزية وبدائية .

قد يبدو هذا المقال وكأنه دعوة لمشاهدة الفيلم , ولكن لا , هو ليس كذلك , فمخرجه توب هوبر ( 1943 – 2017 ) كسر أغلب محرمات الفرجة السينمائية وحوّل فيلمه لما يشبه مختبر للخداع البصري المقارب للحقيقة , مُطلقاً العنان لكل منافذ الشر والجريمة والدموية , هو مخرج مختص في سينما الرعب في رصيده العديد من أفلام النوع توجها بهذا الفيلم الذي قام على تقديم جزء ثان منه عام 1986 لكنه لم ينل الاستحسان ذاته الذي ناله الجزء الأول , وضمن ترتيب فيلموغرافيا توب هوبر , هذا فيلمه الروائي الطويل الثاني بعد ثلاثة أفلام قصيرة حققها أواخر الستينات ومطلع السبعينات.

فيلم محدود الميزانية كان أجر الممثل الذي أدى التعليق الصوتي في افتتاحيته ( جون لاركويت ) مجرد سيغارة ماريوانا كحال هذا الفيلم الهيستيري , المهووس بالعنف والقتل , والمقتبس عن أحداث حقيقية جرت في ولاية تكساس حيث قام القاتل بتصفية ضحاياه عن طريق المنشار الكهربائي , الأمر الذي وجد فيه هوبر مادة غنية بالرعب والدموية فاقتبسها ووجه فيلمه لمراهقي السبعينات وذلك من خلال اختيار ضحايا فيلمه من هذه الفئة العمرية , الأمر الذي ساعد على تحويل الفيلم لجزء من الثقافة الشعبية لذلك الجيل أولا لتحرره من كثير من القواعد الأخلاقية التي قيدت سينما الرعب , وثانياً لطرحه في أواسط جيل غزته مفاهيم التحرر والتمرد والانقلاب على المثاليات والصوابيات السياسية ورفض العنف غير المبرر الذي خلقته حرب فيتنام , وبالنهاية هذا فيلم لا يروج للعنف بل يحاول تصوير الجانب الأكثر مرضاً منه .

في خمسينات واربعينيات القرن الماضي سارت أغلب الأفلام الهوليودية التي تناولت الجريمة على دراسة سلوك المجرم واستيعاب مبرراته وربطها بتاريخها الشخصية وأزماتها النفسية إضافة لتاريخ المكان والسياسة والحالة الاجتماعية التي ينتمي لها , ولكن في هذا الفيلم جاءت الجريمة هابطة من السماء , دون خلفيات او مبررات , فطرحت شخصيات تمارس القتل لإشباع حاجاتها المريضة للتواصل , لخلق عزلة تحميها وتجنبها الاختلاط وممارسة الحياة المدنية , وهذا ما كرّس شخصية ( ذو الوجه الجلدي ) كأكثر الشخصيات السينمائية غريزية وتعبيرا عن العنف بشكله الحيواني المجرد حتى مع استعماله لوسيلة قتل حديثة نسبيا قياسا لذلك الزمن ( المنشار الكهربائي ) , كرسته كرجل يختصر الجريمة وجنون ارتكابها , مختبأ وراء قناع جلدي مصمت لا حياة فيه.

يحاول فلم توب هوبر الإجابة على السؤال الذي سبق للمخرج الإنكليزي الشهير ألفريد هيتشكوك طرحه في إحدى مقابلاته حول ما الذي يدفع الناس لتبذير المال من أجل أن يشعروا بالخوف ؟ , هيتشكوك استمر طيلة خمسة عقود مبتكرا إجابات عن ذلك السؤال , وكذلك الأمر صناع ( مجزرة تكساس ) فالفيلم السبعيني ذو الملمح التجاري قدم لمشاهديه جرعة مفرطة من اكتشاف حيوانية القتل ولا انسانيته , اقتحام عوالم فوضوية بمزاج سينمائي عالي مقارب للوحات الرسام الاسباني المهووس بالتعذيب ( غويا ) , ورصد الجانب الأكثر وحشية من جحيم دانتي , الرغبة لدى المشاهد في ان يرى الضحية هاربة بين أغصان الأشجار اليابسة في ليل لا ضوء للقمر فيه من رجل مهووس يحمل منشارا ملأ الليل ضجيجا صارخا ومزعجا , في الوقت الذي يجلس فيه على كرسي السينما المريح مع شعور مُرضي بالأمان , مخاطبا المساحة الأكثر عمقا في شخصية المُشاهد الذي ينتظر ان يرى الضحية التي تشبهه مقتولة وهو شاهد على ذلك , وبنفس الوقت لا يريد لنفسه أن يكون في موقعها, قدرة هذا الفيلم على مداعبة هذه الحاجة اللاأخلاقية لدى المشاهد كانت مبررا على إصرار هوبر في تقديم مشاهد المطاردة الليلية والافراط في ضجيجها , حتى أنه لم يستخدم موسيقى تقليدية تدعو للإثارة والتشويق الاعتيادي في مشاهد من هذا النوع , بل استخدم موسيقى قوامها أصوات حيوانية مقبلة على الذبح في المسالخ.

 

يجيب الفيلم على تساؤل هيتشكوك حول ما الذي يدفع الناس لتبذير المال من أجل أن يشعروا بالخوف

 

أما من الناحية التقنية فخاض هوبر بعد المغامرات , من توظيف اللقطة العامة في تصوير مشاهد القتل, مع أن العادة أن يلجأ المخرجون إلى اللقطات الضيقة في هذه المشاهد, خياره التقني هذا منح عملية القتل قسوة أكبر , ولا شك أن أول مشهد قتل في الفيلم من أعظم مشاهد القتل في السينما نتيجة استخدام هذا الخيار , الابتعاد عن رصد الوجوه وخصوصا وجوه القتلة , خيال المشاهد سيستكمل الصورة القاسية بشكلها الأهم , ومنح (الرجل ذو الوجه الجلدي) هالة غامضة لم تتحلل مفرداتها ليومنا هذا , وهذا ما جعل منها شخصية سينمائية خالدة لا تقل أهمية عن شخصيات مثل (دارث فيدر) في حرب النجوم و(الجوكر) في فارس الظلام , شخصيات تقاسمت الاختباء خلف الأقنعة لتجرّد مفهوم الشر بشكله المطلق, الرجل ذو الوجه الجلدي لم يظهر في الفيلم إلا بعد مرور أربعين دقيقة على بداية الفيلم , ولكن هوبر تمكّن من شحن كامل تفاصيل هذه الدقائق بما ينبؤ بكل هذا العنف, وكأن رحلة شخصيات الفيلم نحو تكساس أشبه بوصولهم إلى حواف العالم حيث تنتفي كل المظاهر البشرية ويستعاض عنها بمدينة لا قانون يحكمها سوى قانون الجنون والقتل.

تمر دقائق الفيلم محملة بالجنون , شخصيات تحول القتل لجزء من روتينها , فقدت الرادع الإنساني تجاه العنف والدم , ولكن لم يرغب الفيلم بتجاوز هذا النمط في التصوير نحو تخفيف وطأة تأثير العنف على المُشاهد , وتحت تأثير نفس هذه الحساسية تجاه العنف , ختم هوبر فيلمه برقصة غريبة الأطوار بين القاتل ومنشاره الكهربائي بلحظة شديدة الرومانسية والسوريالية اختار تصويرها مع غروب الشمس , القاتل يرقص وحيدا مع أداته للقتل بعد نجاة الضحية اعلانا عن الاستمرار اللانهائي للعنف والجنون, ويعتبر هذا الختام الأكثر تأثيرا في سينما الرعب للآن .

تعرض هذا الفيلم لكثير من محاولات التقليد , تفنن مخرجو سينما الرعب في إعادة تقديمه وتفكيكه وتفريغه من أهم مقوماته , لكن يبقى سفاح تكساس مرتبطا بثقافة السبعينات, بجيل مستعد للتلقي بأقصى حدوده , بمخرج مستعد لكسر الكثير من المحظورات في سبيل تحقيق رؤيته وهوسه بالموضوعة الإشكالية التي تناولها الفيلم , وقد يبدو ذلك سببا أساسيا للاحتفاء بمرور خمسين عاما على انتاجه.

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

- Advertisment -

الأكثر شهرة