جوى للانتاج الفني
الرئيسيةأيقونةكين لوتش.. إحدى أهم لحظات الإمساك بالحياة

كين لوتش.. إحدى أهم لحظات الإمساك بالحياة

لوتش يقدم التعريف الأمثل للحياة داخل السينما فيسرقنا كمتفرجين بإرادة كلية منا

شخصيات الفيلم ثانوية تُمارس طيبتها بقسوة وتمارس واجبها بصرامة وإنسانيتها بوحشية

الفلم الروائي الاول للمخرج الانكليزي الشهير كين لوتش ( إنكلترا, وارويكشاير, 1936 ) ، يمنحك إحساسا قويا كمُشاهد أنك أمام مخرج محنك مُسيطر اشد درجات السيطرة على أدواته ، بارع في التقاط سحر الحياة ووضعها على الشاشة ، وفي عزف انغام حياتية لا تحتاج للكثير من الإنصات كي تتمكن من التفاعل معها وبنفس الوقت لا تسيطر بدراميتها على المشهد ، كونها دراما حياتية مستخلصة بذكاء عالي .

هو محنك بقدرته على منح مشاهده إحساساً صرفاً بخبرة التعامل مع ما يجري في الكادر وقد يكون لميوله اليسارية الواضحة التي تبلورت في هذا الفيلم من خلال رصده لشخصية تنتمي بالكامل للطبقة العاملة سبباُ في تجسيد كل هذه الواقعية التي لا تُترجم إلا من قبل شخص منحاز لها عاطفيا وفكرياً، ولكنه في نفس الوقت يمنح احساساً نوستالجياً شاباً.

حركة مستمرة تشعر بها داخليا قبل ان تنعكس داخل الاطار، عن شخصيات تقليدية بالمعنى الإنكليزي للكلمة تغلفها القسوة وتسارع الحياة بينما أكتفى صاحب ( الرياح التي تهز الشعير/ سعفة كان الذهبية 2006 ) بأن يشرّحها دون سكين الجزار التي احترف استخدامها في أفلامه اللاحقة ، دون نزف او فتح جروح ، أكتفى بالتخدير وترك شخصياته تتداعى أمام الكاميرا لتكشف ليونتها وسهولة معشرها وتكوينها البسيط، لكن غير السطحي الذي يتم اختصاره عادة بكليشيهات الحواجب المعقودة ، أو الاظافر الملوثة ، أو السحنات الباردة التي تعجز عن التعبير الصريح ، فذهب لوتش من ناحية التعبير عن الحالة من تلقاء نفسها ومن داخلها للدرجة التي قاربها بالجنس الوثائقي، فنجا من دور الوصاية عليها والنطق بلسانها، حالة سينمائية مشبعة بما يجري خلال اليوم على طريقة سينما الياباني ياسجيرو اوزو ، سحر أتت قيمته من سلاسة تنفيذ المشهد ، من سلاسة معالجة الشخصية ، من سهولة التقاط البيئة الريفية وتغلغلها في شخوصه ، فلا يوجد حدث يزلزل او يعقّد او يصنع تغييراً جذرياً ، بل كان كل شيء ينسل لما تحت الجلد، يمكن تشربّه دون غصات ، يمكن التفاعل معه دون ذروات حقيقية ، يمكن التعاطف مع جميع شخصياته دون ان تنهار ، دون ان ننشحن تجاهها بشكل صادم ، دون أن تصرخ ، فلا صراخ ابداً في الفلم ، فهو مجرد تعريف أمثل للحياة داخل السينما ، أكتفى كين لوتش بأن يسرقنا بإرادة كلية منا ، دون جر و دون سحب ، دون اجبار أول اعتقال ، دون لف أو دوران ، في فلم تستطيع ان تعظّم تأثيره باستخدام الكثير من كلمة “دون” .

كين لوتش
بوستر الفيلم

كين لوتش، المخرج الإنكليزي صاحب الثمانية والثمانين عاما، والذي ما زال يسير على السكة التي رسمها هذا الفيلم من خلال تصديه لطبقة المهمشين وسكان الاحياء الخلفية المولعين بكرة القدم والموبؤون بالفقر في بلد شديد الرأسمالية، يدرك تماما كيف تمر الساعات على شخصيات من هذا النوع، ويراهن أنه إن سبق لك ان احسست بالحياة داخليا وانسجمت معها فستستمتع بالزمن داخل الفلم ، حيث لا حدث ، بل استعراض ليوميات طفل على هامش قرية ، اراد ان يُربي نسراً ، طفل اختفت جل ملامح طفولته ، ولكنها بالمضمون هي البارزة.

في رصيد المخرج الإنكليزي كن لوتش 57 فيلما لوقت كتابة هذه السطور , هو مخرج غزير الإنتاج يعرف تماما كيف يختار شخصياته وكيف يمايز بينها رغم التشابه الكبير في البيئة , كما انه أحد مدللي مهرجان كان فقد افتتح فيه ما يقارب السبعة عشر فيلما من فيلموغرافيته الممتدة على نحو ستة عقود ونال منه سعفتين ذهبيتين ( هو من القلائل ممن جمع سعفتين من الذهب على غرار الأميركي فرانسيس فورد كوبولا والنمساوي مايكل هانيكة ) الأولى عام 2006 عن الرياح التي تهز الشعير وفيه رصد للنضال الايرلندي نحو الاستقلال والثانية عام 2016 عن فيلمه أنا دانيال بليك , الفيلم الذي يشبه على نحو بعيد هواجسه الاقتصادية ومخاوفه السياسية برصد حياة الشارع قبل ان تتحول كاميرته لرصد حياة اللاجئين في السنوات الأخيرة كجزء من الطبقة المستضعفة التي اقتحمت البيئة الإنكليزية.

بطل هذا الفيلم ليس بالشخص الأليف ، كما طائره الجارح ، انتهى دوره مبكراً ، هو طفل غلب عليه احساس الحاجة للاتكاء على مخلوق ضاري لا يقل وحشية عنه ، لا يقل غريزية منه ، ولا يقل احساساً بالحياة منه ، النسر في هذا الفلم كان معادلا حقيقياً وذكياً للتعريف بطفل اعتاد القيود ، فمنحه كل ما خسره أو بالأحرى كل مالم يستطع الحصول عليه او تحقيقه ، فكان فيلماً عن الانسانية البحتة التي تظهر في أكثر الاماكن بدائية ووحشية ، هي عن ما يكتمل لحظة النقص ، عن الشخصيات الثانوية التي تُمارس طيبتها بقسوة ، تمارس واجبها بصرامة ، تمارس انسانيتها بوحشية .

تمكن كين لوتش من ان يصنع فلما يحب النقاد والسينيفيليون وعشاق الفن السابع وصفه بالماستربيس أو التحفة ، فقد قدم تلك النوعية من الافلام الكلاسيكية التي تملك داخلها كل خصائص العيش في الذاكرة ، باعتباره عرف كيف يتسلل بين العاطفة والبلادة ، يتسلل بين الطفولة والبلوغ ، بين الانسانية وانعدامها ، بين روتين الحياة اليومية وما تكتنزه من سحر غير مرئي ، كما في الذاكرة الانسانية ، حيث الحياة تستطيع ان تتحول بمجرد ان تتواجد كاميرا لمادة تملك من التناقضات ما يجعل الحكم عليها محيراً ، هل الحياة قادرة على صنع السينما دون مؤثرات او مكياج او بهارات؟ سؤال كبير سبق أن حاول مخرج الواقعية الإيطالية الإجابة عنه منتصف أربعينات القرن الماضي كما أتى جيل كامل من المخرجين الإيرانيين ثمانينات وتسعينات ذات القرن للإجابة عنه وما زالت محاولة الإجابة عن هذا الاستفسار قائمة تشغل بال العديد من سينمائيي الأجيال الشابة .

لقطة من الفيلم

ديفيد بريدلي الطفل البطل في هذا الفلم قدم واحدا من اعظم الاداءات التي قدمها طفل في السينما ، الاحساس بغياب تام للكاميرا ، كان دافعا للسؤال حقاً ، هل يعلم انه أمام كاميرا ، ام ان كين لوتش يوثق يوميات هذا الطفل دون معرفته ، وباستخدام غير استعراضي للكاميرا التي استطاعت ان تلاحقه بالشكل السهل الممتنع؟ المحصلة أن الطفل والكاميرا حققا المعادلة الاصعب في السينما ، حيث لا يمكنك الاحساس بالحياة داخل الشاشة سوى انها حياة حقيقية يتم رصدها.

 ديفيد بريدلي قدم بعد هذا الفلم ما يقارب ال ٢٦ فلم ، كان نجاحه الاهم في الفلم الاول هذا، حيث نال عنه بافتا افضل ممثل واعد , ولا شك أن طريقة إدارة لوتش لطفله استمرت مرجعاً في الكثير من الأفلام اللاحقة والتي كان ابرزها تعامل المخرج البولندي كريشتوف كيشلوفيسكي مع أبطاله الأطفال في عشارية ديغالوع 1988 , المخرج الذي يعتبر هذا الفيلم من أفلامه المفضلة.

لقطة من الفيلم

مقالات ذات صلة

- Advertisment -

الأكثر شهرة