جوى للانتاج الفني
الرئيسيةفي الصالاتسينما الشعر.. عندما تقول الصورة ما تسكت عنه الكلمات

سينما الشعر.. عندما تقول الصورة ما تسكت عنه الكلمات

حمادي كيروم

عندما تقول الصورة ما تسكت عنه الكلمات

إن الحديث عن سينما الشعر هو حديث عن التمفصل بين السينما والشعر. ويحدث هذا التمفصل على مستوى الصورة. ولفهم كيف يقع هذا التمفصل وما هي الآليات التي تشغله فلابد من الإشارة إلى المتخيل الشعري الذي يمتح منه المبدع.

إذا كان المتخيل الشعري يتيح رؤية شعرية فنية عميقة للكتابة مفادها أن اللغة ليست شكلاً يلبس للمعاني بل هي مادة المعنى، إذ الكتابة الشعرية لا تحدث بالكلام بل في الكلام، فإن الرؤية الشعرية للمبدع السينمائي تجعل الصورة ليست مجرد شكل لعرض الأحداث وإيصال المعاني،
يل تصبح الصورة هي مادة المعنى، اذ الكتابة السينمائية لا تحدث بالصورة بل في الصورة، وبهذا توفر البناءات البصرية المطابقة بين الماهية والتعبير.

إن الصورة هي انعكاس شاعري للحياة نفسها، وبما أننا لا يمكن أن نلمس هذا الغنى وهذه الرحابة الفسيحة للحياة، فإن الصورة السينمائية تصبح صورة ــ استعارة.
وهذه الصورة ـ الاستعارة وحدها قادرة على التعبير عن الحياة وتدفقها. إن جوهر السينما الشعري يكمن، في اعتقادي، في كونها قدرات فنية هائلة للنظر بعمق في جوهر الحياة،
كما أن شاعرية المبدع التي تشكلها مرجعياته والواقع المحيط به، قادرة على الارتقاء فوق هذا الواقع وطرح أسئلة هامة حوله، ولا يحدث هذا مع الواقع الخارجي فقط، ولكن مع ما هو موجود في أعماق الإنسان. وهكذا اكتشف بازوليني الهاويات السحيقة في أعماقه، والتي رأى فيها القديسين والأشرار على حد سواء.

 

سينما-الشعر
سينما-الشعر

 

وإذا كنا نعرف جميعا أن السينما ظهرت مع فيلم “وصول القطار إلى المحطة” للأخوين لوميير، فإن اندري تاركوفسكي، شاعر وفيلسوف السينما، يعتبر أن ولادة الفن السينمائي تمت في تلك اللحظة بالذات، حيث أن الأمر لا يتعلق فقط بوجود تقنية سينمائية وأسلوب جديد لإعادة خلق العالم وإنما يتعلق الأمر، حسب تاركوفسكي، بولادة “مبدأ جمالي جديد”. ويتلخص هذا المبدأ في تمكن الإنسان، ولأول مرة في تاريخ الثقافة والفن، من العثور على أسلوب يمكنه، وبشكل مباشر، من تسجيل الزمن المرئي وتخزينه مع إمكانية عرض تدفقه لمرات عديدة. وبهذا أصبحت الكفاءة الإبداعية للفنان السينمائي تكمن في قدرته على “نحت الزمن”، أي خلق سيولة زمنية شخصية مؤلفة من ديناميكية المقاطع والأجزاء المسجلة من الواقع.

إن عمل السينمائي، حسب تاركوفسكي، شبيه بعمل النحات الذي يخلق من أكوام الطين ومن كتل الصخر إبداعه الحجمي ذي الأبعاد الثلاث. وبناء على هذا المبدأ الجمالي فإن شعرية تاركوفسكي تكمن في اكتشافه لسر تسجيل الزمن داخل الكادر، حيث انزاح عما أسسه معلمه ازنشتاين على مستوى شعرية المونتاج، فنحت من الزمن سيرورة أخرى  تتجلى من خلال مفهوم اللقطة ـ المتوالية وعمق المجال الذي غير به طريقة النظر من خلال تغيير الإيقاع الزمني الذي تجاوز الكرونولوجيا إلى لحظة الديمومة، أي لحظة المكاشفة التي يمتلئ فيها البصر ويطفح فيها الوجدان، ونعطي كمثال على هذا الإنجاز فيلم “القربان” الذي استطاع فيه تاركوفسكي أن يمزج بين الفكر والوجدان لخلق ما سماه هيجل بـ “استتثيقا الفكر الجميل”، حيث يتغذى هذا الفيلم وأمثاله، كما يقول جمال الدين بن الشيخ عن فيلم “طوق الحمامة المفقود” لناصر الخمير، من رؤية شعرية تتحول فيها الأشياء والأشخاص إلى أشكال متوهجة

 للمعنى الذي ينكشف كل لحظة في التواءات الضوء، أو في حركة الريح على وجه الكائنات، أو في دعوة للعيش على شطآن الذاكرة البلورية من أجل استرجاع القنيطرة في”ليل” محمد ملص، أو من أجل إنقاد الأندلس في  كل أفلام ناصر الخمير، أو من أجل تعزية مصر في موت عبد الحليم حافظ في فيلم “نسيم الروح” لعبد اللطيف عبد الحميد.

وإذا استطاع بونويل ودالي ولوركا أن يحققوا بفيلم “الكلب الأندلسي” ما لم تستطعه السوريالية في عصرها الذهبي، فإن السينما مكنت كوكتو أن يبدع بالصورة السينمائية ما لم يستطعه بالكلمات، وهو إمكانية تشخيص اللا مرئي الذي كان يسكنه. لقد حاول كوكتو، في شريط “اورفي”، تحديث الميثولوجيا القديمة من خلال مجموعة من الانزياحات، فقد اعتمد تيمة المرايا وأظهر وظيفتها الأولى كأبواب تفتح على الماوراء، وقد استطاع بذلك أن يعبر المرآة ويرافق أورفي في هبوطه إلى الجحيم، نحو العالم السفلي، كما استطاع أن يؤفلم الروح ويتصل بها في “المنطقة الوسيطة”، التي ينتظر فيها البشر قبل أن يفقدوا عاداتهم كأحياء.

إن قدرة الصورة السينمائية على تركيب الواقع والحلم يجعلها، حسب كوكتو، قادرة على تشخيص حدود الواقع وحدود الحلم، والتداخل فيما بينهما. إن هذا “الما بين”، حيث تنتمي الأشياء والكائنات إلى نظام العالمين معا, عالم الحياة وعالم الموت, هو ما يعتبره العقل “شيئاً متنافراً”. فالاشتغال على هذه الحافة كموضوع, وبهذه الطريقة, وكل ما يستتبع ذلك من رهبة وتهيب، هو جوهر الشعر وجوهر السينما وجوهر الإبداع بشكل عام.

وإذا كان لا بد أن نخرج بخلاصة لهذه المحاولة، يمكن أن نقول إن العلاقة بين الشعر والسينما مبنية على فعل وجود وتجاوز وخلق. فالشعر، بالمفهوم الذي قدمناه، ينتشل الصورة من  تغريبتها الحدثية ويحررها من وضوحها المرجعي ويعطيها قوة ذلك الطائر “الالباطروس” الذي يهوي الكون بجناحيه، فيخلق الريح التي تحرك السفن وترسم الأمواج, وما الأمواج إلا تشكيل بصري للريح.

مقالات ذات صلة

- Advertisment -

الأكثر شهرة