جوى للانتاج الفني
الرئيسيةمساحة حرةتخفف الحكاية من معاناة الفطام والصيام وتلعب دوراً في تعليم الصبر والتشويق...

تخفف الحكاية من معاناة الفطام والصيام وتلعب دوراً في تعليم الصبر والتشويق للمستقبل

يمكن إحالة ارتباط الدراما بشهر رمضان ، بارتباط الحكاية عند الطفل مع مراحل نموه.

مع نمو الطفل نحو مزيد من الاستقلالية هناك سمة تغيب وتتوارى، أي درجة اتحاده بوالدته واعتماده عليها ، لتأتي الحكاية  وتساعد الطفل على (الصيام) عن رغبته الملحة بالعودة إلى ذاك الزمن من الاعتماد الكلي  المتزامن مع قبول غيابها ، ووضعه ضمن لغة الحكاية ورموزها، وفتح خيال الطفل نحو تشويق المستقبل ،  وذلك لأن الحكاية نفسها هي حركة نحو المستقبل، نحو تتمة، نحو حكاية أخرى . بمعنى آخر تقنع القصة  الطفل في أن يجد نفسه في بطلها، مستقلا متغلبا على الصعوبات، وبذلك يقبل الاحباط الناجم عن نموه واستقلاليته.

و يمكن ان نتذكر بسهولة مثال ألف ليلة وليلة . فشهريار الذي كان يتزوج كل ليلة امرأة ، محققا رغبته بها من جهة، ومانعا إياها من خيانته (الغياب عنه) عبر قتل وقائي من جهة أخرى، لم ينقذه من هذا المصير إلا حكاية لا تنتهي، فتصبح رغبته بتتمتها أقوى من رغبته من الانتقام، فيبدأ من خلال هذه القصص بفهم ذاته، وفهم الحياة ، وفهم المرأة من جديد، ومن ثم ينفتح على المستقبل، على زواج متجدد من شهرزاد.

دراما هتك المحرمات لا تهدف إلى التمرين على الصبر على الإحباط سعيا لتجاوزه، بل لإلغائه عبر تكريس إثارة مستمرة

اذن الحكاية تساعدنا على تجاوز الاحباط الناجم عن الصيام (الفطام)، وتستفيد من طاقة هذا الاحباط لتنمية الذات الانسانية في بعديها الرمزي والخيالي ، تجعلنا نكتشف أن لنا حاجة إلى المعنى وفهم ذواتنا. حاجة توازي حاجتنا للطعام والشراب إن لم تكن أهم. ولهذا نجد أن الدراما تجد موسمها الأهم في شهر رمضان. وفي تقديري، على النسق نقسه ، لهذا كان عمل حكواتية السير الشعبية يروج في الشهر الفضيل، قبل اختراع التلفاز .

ولكن هل تنفع أي حكاية ؟ بالطبع لا ، على الحكاية ان تحوي عناصر تحاكي البنية العميقة للانسان، وخاصة في مفهوم البطل وطبيعة سعيه وماهية قيمه وعلاقته بمحيطه و اشكالية مأساته او نجاته ، ومن الطبيعي أن يكون في الحكاية الكثير من التكثيف الرمزي و الغنى الخيالي ، وليس مهما جدا ان تطابق الواقع ويا للمفارقة ، ولا أن تمجد الماضي.  بل وظيفتها بالضبط اأن تدفع الذات من احباط الواقع نحو النمو إلى المستقبل . ولابد أن تحوي القصة قيمة ما، لأن البطل يحتمل صعوباته بسبب هذه القيمة بالذات . ومع أن الجنس والعنف قد يوظفان في الحكاية ، ولكن ليس لغايات الاثارة ، بل كعناصر تخدم بنية الحكاية . لذلك فالحكاية الناجحة هي التي لا نخرج فيها من حالة التأمل و الاستغراق فيها، حتى لو احتوت في حبكتها على جنس او عنف .

وفي تقديري نجحت الدراما المصرية والسورية في لعب هذا الدور عقودا ، ونتذكر ملاحم مثل ليالي الحلمية وارابيسك والفصول الاربعة وخان الحرير، وذلك لنجاحها في تقديم الحكاية كما يجب أن تقدم ، حيث نرى الأبطال يعيشون صعوباتهم الواقعية ولكن انطلاقا من جدلية قيم حاضرة في عمق الحبكة، وهي (أي القيمة) ما يجعلنا نتعاطف أو ننفر من هذه الشخصية أو تلك، بطل الحكاية الحقيقي ومركزها هو القيمة.

ولكن إلى أي  درجة تقدم الدراما الحالية حكاية بهذا المعنى ؟ هل تساعدنا على مواجهة صعوباتنا انطلاقا من القيم والإيمان بالمستقبل؟ أم هي دراما تحاكي فقط مآسي الحاضر وآلامه (كسر عضم)، أو تسجننا بأخيولة مثالية عن الماضي ( باب الحارة) ، هل العنف او الجنس موظف في سبيل قصة، ام انها في كثير من حالاتها الحالية  مجرد دراما هتك حرمات، قاصدة الاثارة الناجمة عن هذا الهتك، و بالتالي هي ليست دراما للصبر على الاحباط وتجاوزه، بل لإلغائه عبر تكريس اثارة مستمرة ، ويحق للمرء بالفعل ان يسأل ، اي فائدة ترجى من ارتباط دراما الاثارة مع الصيام، أأأو أي خطر؟ ويحق له أن يفتح مدى السؤال ليصل إلى نقد دور الدراما الثقافي في هذه الأزمنة الصعبة التي تعيشها مجتمعاتنا العربية .

دراماVS

“عابد الريس”.. طبيب أسنان وباحث سوري

مقالات ذات صلة

- Advertisment -

الأكثر شهرة