جوى للانتاج الفني
الرئيسيةأيقونةبيكيت غلينفيل .. البطانة الانكليزية للسينما والمسرح، الكفيلة بتوحيد المختلف فنيا، وتقريب...

بيكيت غلينفيل .. البطانة الانكليزية للسينما والمسرح، الكفيلة بتوحيد المختلف فنيا، وتقريب المتناقض فكريا

حاول المخرج الإنكليزي المقل بيتر غلينفل ( 1913 – 1996 ) بكلاسيكيته المقتبسة عن مسرحية بنفس الاسم أن يسمح للسينما باختراق كل الحواجز, حاجز التاريخ وحاجز السياسة وحاجز قدسية مؤسسة الدين و وخلق تفاعل ما بين جنسين فنيين مختلفين كالسينما والمسرح ، فبيكيت شخصية هذا الفيلم الرئيسية تظهر في كل المنعطفات التاريخية وخصوصا فترات السلام القلق وهي الشخصيةنيا التي قدمها باقتدار شديد ريتشارد بورتون ( 1925 – 1984 ) , بيكيت هو ذاته ميفيستو 1981 للمخرج الهنغاري الشهير استيبان زابو ( 1938 – ) الفيلم الذي عُرض في مهرجان دمشق السينمائي دورته الأخيرة, الشخصية اليهودية التي أعلنت ولائها للنازية كمثال صارخ على تغيير الجلد لضمان استمرار الحياة في إحالة واضحة للدكتور فاوست الذي باع روحه للشيطان, ولكن ليس كل ميفيستو بيكيت , بيكيت شخصية أكثر نبلاً , يبحث عن هدف اسمى من مصلحته الشخصية , هو يمثل فئة مهمشة من الناس ، يمثل البحث عن الشرف المسلوب عنوة منهم ، هو شخصية تعلمت الاذعان ونكران الذات والسباحة عكس كل مبادئها الخاصة وجذورها كي تصل لليوم الذي تستعيد فيها شرفها المهدور ، رغم القواسم المشتركة الكثيرة بين شخصيتي ميفيستو و بيكيت , إلا ان التاريخ لا يعيد نفسه مرتين , بيكيت شخصية تاريخية تستعيد شرفها بعد ان سلب منها , بينما ميفيستو لا يرغب سوى بالمحافظة على مصالحه , وفي منعطف تاريخي آخر بيكيت كان يبحث عن الولاء الذي يدافع من خلاله عن شرفه بعد ان حصل عليه , ميفيستو كان يبحث عن اي ولاء ليحافظ من خلاله على مصالحه , الزمن وتغيير المفاهيم , كانت كفيلة بين عصرين بأن تحول الشرف لمصلحة شخصية , والولاء وسيلة تلك الغاية ، حينها تحول بيكيت لميفيستو.

الساكسونيون في عهد ملك إنكلترا ويليام الأول ( القرن الثاني عشر الميلادي ) تعرضوا للتهميش فأصبحوا انكليز من الفئة الثانية واستمر الحال على ما هو في عهد الملك هنري الثاني الذي أدى دوره بيتر اوتول , ولكن صداقته ببيكيت الساكسوني وثقته به كان العامل الذي غير موازين القوى بالنسبة للساكسون ، من اعتبارهم صفراً على الشمال وفئة مغضوب عليهم ، لكي يكونوا رقماً في المعادلة الشعبية لملك انكلترا الجديد في صراعه على التفرد في السلطة مع الكنيسة ، الفلم قدم تلك النوعية من العلاقات التي تحتاج للكثير من التمهيد والتأسيس على الصعيد التاريخي والسياسي, لأنها ستتحكم بكل مفصل من مفاصل الفلم محكم الحبكة , علاقة الملك هنري الثاني ببيكيت لم تكن مجرد علاقة بين ملك نورماندي ومستشاره الساكسوني , كانت علاقة صداقة من نوعية خاصة , علاقة اليد بالكف , علاقة العقل بالعضلات , وفي الوقت الذي كان يبحث فيه بيكيت عن شرف مفقود من خلال ولاءه للملك ، كان الملك قد اشعل النار بينه وبين الرجل الجريح , فمنحه امتيازا غيّر بموجبه ميوله السياسية , من ولاءٍ للملك لولاءٍ للكنيسة وللرب , هذا التصرف الناتج عن عدم قدرة الملك على التنبئ بما يمكن للساكسوني ان يفعله كي يستعيد شرفه , وناتج ايضاً عن رعونته وطيشه الذي لم يبخل الفلم في ابرازه ، تصرف معه كخادم بينما هو كان يبحث عن شيء أكثر خطورة من خدمة الملك بالنسبة لرجل ساكسوني ، وتحولت حينها العلاقة لحرب بين ولائين , ولاء بيكيت للملك , وولاءه للرب , العلاقة التي اخذت شكل الحرب لم تنفي عنها صفة الصداقة التي اخذت بعداً أكبر وأكثر تعقيداً , الانتقام بدا وكأنه رغبة في استعادة الصداقة , والموت بدا كأنه رغبة في استعادة الملك لولاء بيكيت , كلما تقدم بيكيت خطوة لتحقيق طموحه , ازداد تعلق هنري به ورغبة في ابعاده كحجر عثرة , واستعادته تحت جناحه , في قراءة تاريخية ليس فقط للعلاقة بين رجلي سلطة بل أيضا للتأثير الشديد الذي من الممكن ان ترخيه السياسة على العلاقات البشرية وخلطها للأوراق والبديهيات الإنسانية.

الطموح وسلب الارادة بالنسبة لرجل كبيكيت اشبه بوضع النار والزيت أمام بعضهما البعض , الملك هنري عجز عن فهم هذه المعادلة بارتكابه للكثير من الأخطاء في سعيه للسيطرة على الكنيسة, الفلم يقدم المدى الذي من الممكن أن يتورط فيه الدين بالسياسة , إلى أي مدى يصبح رجل الدين رجل سياسة , ومتى تتنافر الاخلاق مع الدين و تجتمع مع السياسة والسلطة , كل هذه المعادلات المعقدة كادت ان تجعل من هنري رجلاً عاجزاً معرضاً للوقوع بالأخطاء تحت رغبته في الانتقام من بيكيت , وكادت أن تجعل بيكيت خائناً لأنكلترا وللرب , ولكن السياسة قادرة وبنفس موازين القوى ان تجعل من بيكيت شهيدا ومن هنري المستفيد الاول من تحويل اسمه لقديس دين , ليبدو الفيلم مع كل تلك المعطيات وكأنه دراسة سلوكية لشخصية مركبة تحت ضغط الدين والسياسة وانقسام الولاءات وتحول المفاهيم في معالجة سابقة لزمنها بالنسبة لفيلم من انتاج عام 1964.

بيتر اوتول وريتشارد بورتون كانا كمن يلعب كل منهما في مساحته الخاصة , كلاهما خلقا لتقديم هذه النوعية من الافلام السينمائية المقتبسة بالأصل من المسرح ليتحول معهما الفيلم لما يشبه حلبة صراع في الأداء أو كلعبة بينغ بونغ يرسل أحدهما الكرة للأخر فيستقبلها ويعيد الكرّة , هنا تظهر البطانة الانكليزية للسينما والمسرح , الفخامة والطبيعة التاريخية للأنكليز , مدى التعقيد الذي تتحلى به شخصيات كهنري وكبيكيت باعتبارهما جزء من تاريخ مليء بالتناقض والغزوات والصراع الديني السياسي الداخلي ، شخصيات لا تسعى لأن تكون بيادق على لوح الشطرنج بقدر رغبتها بان تكون اليد المحركة لمسرح العرائس الدموي هذا.

ترشح الفيلم عام 1965 لاثنتي عشر جائزة أوسكار من بينها جائزة أفضل فيلم وأفضل مخرج وأفضل ممثل رئيسي ( ريتشارد بورتون ) و ( بيتر أوتول ) حيث تقاسما الدور الرئيسي , أيضا أفضل سيناريو مقتبس عن مصدر غير سينمائي , ونال حينها أوسكار أفضل سيناريو مقتبس , حيث قدم هذا العام واحد من أشرس المنافسات الأوسكارية إلى جانب أفلام مثل الكوميديا السوداء ( الدكتور سترانجلوف : أن تتعلم كيف تتوقف عن القلق وأن تحب القنبلة ) لستانلي كيوبريك , و الفيلم الغنائي ( سيدتي الجميلة ) كلاسيكية جورج كوكر وأودري هيبورن, والرائعة اليونانية ( زوربا ) للمخرج الشهير مايكل كوكويانيس – الذي عُرض أيضا في الدورة الأخيرة لمهرجان دمشق السينمائي ضمن تظاهرة دُرر ثمينة – , حيث ذهبت الجائزة الأهم لفيلم سيدتي الجميلة في فترة كانت فيها هوليوود تلقي الكثير من التقدير والاهتمام المبالغ به للأفلام المقتبسة عن المسرح الغنائي الموسيقي حتى على صعيد الجوائز التمثيلية فقد خرج أوتول وبورتون خاليي الوفاض بعدما خطف ريكس هاريسون جائزة أفضل ممثل رئيسي عن دوره في سيدتي الجميلة.

مقالات ذات صلة

- Advertisment -

الأكثر شهرة