جوى للانتاج الفني
الرئيسيةعلى الخشبةالمونودراما الراقصة "مونولوغ".. البحث عن ضوء يقين في آخر نفق التساؤلات

المونودراما الراقصة “مونولوغ”.. البحث عن ضوء يقين في آخر نفق التساؤلات

التعاطي مع الراهن السوري بِوصفه مادة بحثٍ فنيٍّ، هاجسٌ شغل فرقة سورية للمسرح الراقص منذ تأسيسها عام 2011، ومن ثم اتكأت عروضها على المشهد العام بما عَرَفَ من أحداثٍ وتبدلاتٍ وانتكاسات، على الأقل كما كان يقرؤها الإعلامي والمسرحي نورس برو مؤسس الفرقة، والذي قادته رؤاه هذه المرة نحو تساؤلاتٍ من النوع المُطلق، لِما تحمل من تشعباتٍ دينيةٍ وفلسفيةٍ ووجودية، حتى يجوز القول إن “مونولوغ” المونودراما الراقصة المعاصرة، والتي افتتحت عروضها على خشبة مسرح الحمراء مُؤخراً، مسرحيةٌ تعود بنا إلى زمنٍ طغت فيه النخبوية على المسرح عموماً، وهذا ليس من باب التهمة أو المديح، ولكلٍّ منهما حديث، إنما توصيفاً للعرض الذي يُحيل سؤالاً بصيغةٍ بسيطة من مبدأ “من أنا، وإلى أين أمضي، ولماذا جئتُ أصلاً؟”، إلى استفهامٍ أثارته أسماءٌ مثل سارتر وسيوران وبيكيت وموران، بطرائق وأساليب كثيراً ما جاءت مُركّبة وشائكةً، ليقول إننا جميعاً أيّاً كنّا وفي أي زمن، نلهث خلف يقينٍ ما.

مونولوغ                                     

يقوم العرض على فكرة الأسئلة التي يطرحها كاتبٌ/ نورس برو لا يُغادر خشبة المسرح، ورغم سعيه الدؤوب للوصول إلى إجاباتٍ مُقنعة، لكن بلا جدوى، وهنا يخطر له إمكانية توفّرها لدى الجنس الآخر، فيفترض وجود أنثى، ربما تمتلك مقدراتٍ عقليةً معينة، تُتيح لها بلوغ المغزى، فيتخيّل شخصية الراقصة/ ناي سلطان، كمرآةٍ لأفكاره، وسرعان ما تظهر الأنا الكبيرة في داخلها، على هيئة دمية ضخمة، كما لو كانت تُحاور نفسها، بحيث نصبح أمام ثلاثة أبعاد “الكاتب والراقصة والدمية” وإن كانوا واحداً في الأصل، فيتحول المونولوغ الداخلي إلى ديالوغ / حوار متبادل، قبل أن يعود ثانيةً إلى مونولوغ، عبر سيلٍ مُتدفق من الأسئلة التي تُرافق الشخصيات، بمفرداتٍ وأنماطٍ تختلف حسب مراحل الحياة، منها مثلاً ما يستعيره برو من طفولته، عندما سأل أمه عن لون شباك رمادي في بيته، ولماذا لا يرمي نفسه إلى الشارع؟، ومع تطور الأسئلة يستحيل الاستعلام إلى صراعٍ ذاتيٍّ مع النفس، تعيشه ناي عاماً بعد عام، دون القبض على شيء.

يستعير نورس برو مفردات ثقافية يابانية من القرون الوسطى ليحاكي مقولات الشارع، من سوق الحرامية إلى حي المالكي، لكن بمنهج علمي وأكاديمي

في العمل عدة أفكار لافتة، منها اللجوء إلى فكرة الدمية كبيرة الحجم، والمعلّقة على سقف المسرح، وهي تجربة جديدة لفن البونراكو في سورية، مأخوذة كما يشرح برو من الثقافة اليابانية في القرون الوسطى، كرمزٍ قبليٍّ مُوجِز، لكن المسرحي الفرنسي فيليب جانتي خلع عنها هذه الدلالة عندما أنسنها، بمعنى إمكانية توظيفها في مختلف الثقافات، ومع إضافته الرقص المعاصر على حضورها، أمكن استثمارها بشكلٍ آخر، منه ما طرحه برو، فمع أن تحريك الدمية لتتفاعل مع ناي، احتاج فريقاً من ثلاثة مُحركين قادهم المسرحي خوشناف ظاظا، لكن الأمر نجح ضمن العرض ككل، وحقق شيئاً من الموازنة في مُتتاليات البحث وعدم العثور على نتيجة. كذلك يُمكن الإشارة إلى انقطاعٍ في العرض، أحدثه برو مُتوجِهاً إلى الجمهور ليسألهم عن غاية وجودهم، السؤال الجوهري في العمل، حتى أنه اختار أسماءً من الحاضرين وسألهم بشكلٍ مُباشر، لكن هذا لم يكن صحيحاً أو مفهوماً على الأقل، ولو من باب التفاعل أو المُشاركة، فما حدث خرقٌ للحالة التي كان المتفرجون جزءاً فيها من المناخ العام للعمل، وهي غايةٌ مسرحيةٌ بحد ذاتها، لا يجب الاستهانة بها مهما كان السبب.

                                       

سألنا برو عن الغاية من تقديم جملة الاستفسارات بشيء من التعقيد والاشتباك اللذين أشرنا إليهما بداية، والسبب على حد قوله لـ”فن وناس” عائدٌ إلى رغبته “تحميل العمل الذي كتبه وأخرجه وشارك في أدائه، قيمة فكريّة تأتي من استناده إلى منهجٍ علميٍّ وأكاديميٍّ، حاول إسقاطه على مقولات الشارع بغض النظر عن شكلها، فمن مهامه كمخرجٍ ومؤلفٍ إيصال فكرته إلى الناس في سوق الحرامية كما غيرهم في منطقة المالكي، مهما بدت الاختلافات الفكرية كبيرة بين سكان هاتين المنطقتين”، إضافة إلى “ما يستوجبه احترام عقل الجمهور، إذ يُفترض أن لا يرى شيئاً مطروقاً مُسبقاً، تحديداً عندما يكون الكلام عن المسرح المعاصر، الذي يحتمل فلسفات وجدليات وطروحاتٍ لا حدّ لها، ولأن الرقص المعاصر بدوره لا يعترف بالحركات المجانية، ستتداخل معاني العرض ومضامينه، وصولاً  إلى فرجة تحترم عقل المتفرج”، مع الإشارة إلى أن الاستناد أصلاً إلى نصٍّ حيٍّ مأخوذ من المزاج العام، سمة تتميز بها الفرقة كما يقول برو، “إذ إن عدداً من الفرق المسرحية المعنية بالتراث والفلكلور، لا تمتلك مُؤلّفاً قائماً على عوامل بحثية، وفي أحسن الأحوال لديها نصٌ بسيطٌ، لا يتعدى كونه سيناريو يتعلق بالكليشيه الوطنية المكررة في عروض هذه النوعية من الفرق”.

ومع هذا كله، لماذا لا نرى في “مونولوغ” إجابةً عن سؤالٍ من عشرات الأسئلة؟

يُجيب برو “علّمتني عشرون عاماً من العمل الإعلامي، أن أُسلّط الضوء من دون تقديم إجابات، فهذه ليست مهمتي، مع وجود ما يصعب جمعه من وجهات النظر والآراء والفلسفات الدينية والحياتية، والمعتقدات، والتي يتوجب علينا احترامها مهما اختلفنا معها، إلى جانب أن سؤالنا في العرض مطروحٌ بالمُطلق، تالياً ربما تكون الإجابة عليه بالمطلق أيضاً”.

مقالات ذات صلة

- Advertisment -

الأكثر شهرة