جوى للانتاج الفني
الرئيسيةمساحة حرةالمشروطية الاجتماعية للدراما التلفزيونية

المشروطية الاجتماعية للدراما التلفزيونية

تستند أهمية الدراما التلفزيونية في عصرنا الراهن, إلى جملة الأدوار التي باتت تؤديها في السياقات الحياتية الإنسانية, وأيضاً إلى عدة نقاط أخرى مرتبطة بالوسيلة, والجمهور الواسع, وأيضاً الأهداف التي تسعى لتحقيقها, والتي تتمثل ب:

1- أهمية التلفزيون وجميع منصات العرض الأخرى في المجتمع المعاصر, وتطور اللغة التلفزيونية وأشكال التجسيد الفني التلفزيوني بإيقاع متسارع, حول هذه الوسيلة الاتصالية بجميع عروضها الإخبارية والإعلامية وخاصة الدرامية, ليس فقط إلى امتداد للحواس الإنسانية, بل في كثير من الأحيان إلى بديل “مبرهن” عن هذه الحواس, لا يمكن دحضه ولا نفيه ولا الإتيان بغيره!! وهذا ما حول الدراما التلفزيونية إلى ما يسمى في لغة الإعلام المعاصر ب “مناهج التعليم الشعبية”, وأدلة تعليم الحياة وأنماطها, والصورة عن الذات, نتيجة ارتباطها القوي (أو ايهامها بذلك) بالظواهر الاجتماعية, وأهميتها المعممة داخل الأنظمة المشرعة بموجب القوانين المدركة والأعراف والتقاليد السائدة, والاتفاقات الاجتماعية المبرمة.

2- الجمهور لا يدرك مدى التعقد الرمزي والنصي للبرامج التلفزيونية عامة والدراما خاصة, ولا عمليات التأطير والتصنيف الممارسة في بناء ما يسمى بالمتلازم القصدي, وهذا أمر يساهم إلى حد كبير اثناء عملية التلقي في طمس الحدود ما بين الواقع والخيال أو الحكاية, ويخلق ارتباطات شديدة التأثير والفعالية بين العالمين, وبين التصوير والذاتية الاجتماعية, وكذلك النظام الذي تصبح فيه الصور الدرامية وبسرعة حقائق سياسية وثقافية لافتة.

3- الدراما التلفزيونية تجسيد لما يسمى السمات المهيمنة في حقبة زمنية ما, أنها تمثل ملامح الاتصال الايديولوجي, والأساليب الاستحواذية التي تجذب وتخاطب اهتمام وقناعات الأفراد في المجتمع, وأشكال “سوء التعرف” على العلاقات الاجتماعية التي تنجم عن استخدام وسائل متنوعة من الإزاحة والتعمية (مسلسل كسر عضم نموذجاً), والتأثيرات الخادعة الناتجة عن ترابط درامي منطقي لنص ماكر وربما ساذج وعميق مع بعض تفاصيل الحياة الواقعية, يجري غرسها في اللاوعي الانساني, أليس الامتاع أقصر الطرق للإقناع؟

4- المشروطية الاجتماعية للدراما أو الانطولوجية, تفترض أن الصور عن الأشياء ليست هي الأشياء, لأن الصور مبنية اجتماعياً, أي مرتبة ومنظمة وفق سياق متعمد ومتقصد, لتحقيق هدف بعينه, لكن الحقيقة أن معظم ما يعرض التلفزيون إن لم يكن كل (بما في ذلك دراما) يتم تلقيه من قبل من الجمهور باعتباره واقعاً, أو صور تسجيلية عن الوقائع والأحداث الاجتماعية, ويتم النظر من خلال ذلك إلى التلفزيون والدراما باعتبارها عربة نقل الواقع الاجتماعي, بحيث لم يعد يمكن وجود أشياء , والتقييمات والأحكام حول الأشياء, بدون وجود التلفزيون, رغم كل ما يعرض علينا هو اقتراحات أو ايحاءات (وهنا الخطورة), ولكنها ايحاءات تمنح للأشياء أهمية عند المشاهد, خاصة إذا ما ارتبطت ورؤيته الخاصة للاشياء, وهذا ما يدعوه لاستبدال الواقع بما يقدم عن الواقع أو العرض, أي بالعالم غير المشروط مما يؤدي ربما لاصدار أحكام صحيحة, لكن عن أمور خاطئة, ولعل الاستناد الشعبي للدراما لإثبات وقوع الأشياء خير مثال على ذلك.

5- أخطر ما تتميز به الدراما التلفزيونية اضافة لبلاغة التكنولوجيا, أنها تمتلك الأنواع الثلاث من البلاغة النصية البصرية, أي بلاغة الإقناع, والحجة والبرهان, وعلم العمارة أي البناء والصنعة, والأهم بلاغة الإغراء أو التوريط (توريط المشاهد) لعيش تجربة انسانية بالاستناد إلى التجارب والاهتمامات المشتركة بين المرسل والمستقبل (ما يسمى بالادعاء البلاغي) في سياق مألوف واعتيادي ومفهوم من قبل المتلقي, رغم أنه في الحقيقة تسويق لغير المألوف على أنه كذلك, وهذه المألوفية واحدة من شروط فعالية النداء البلاغي, اضافة للنصية الفنية الصوت والصورة والموسيقى والتضخيم التي تقيم صلات حميمة بين النصوص وأحداث الحياة اليومية, لتسييق المهمين في المجتمع باعتباره طبيعي, رغم أن ما يقودها هو الطلب “الصنم” بغض النظر عن المصلحة المجتمعية, وهذا ما قاد مجتمعات هشة مثل مجتمعاتنا لأن تصبح مرتبطة بالثقافات عابرة الوطنية, بينما تحمل موقفاً رافضاً لكل ما هو محلي (عولمة الانفعال).

تجسيد الفرضية – سورية

في سورية حولت سائل الإعلام, الحدث المحلي, إلى حكاية شعبية بالمعنى التخيلي للكلمة, “بلد صغير جميل, وشعب طيب مسالم مقهور خرج للدفاع عن حريته وكرامته في وجه طاغية لا يرحم !؟”, وهكذا بدت سورية وكأنها سندريلا التي تقاسي من زوجة أب شريرة, وبدا الشعب السوري وكأنه بطل من أبطال أفلام “وولت ديزني”!؟ كل ذلك في إطار من العولمة الانفعالية, واللهاث البصري التنافسي والمجاراة الإعلامية, وتجارة الأخبار والحكايات, بغض النظر عن أي مصداقية أو ميثاق شرف إعلامي.

ومع طول زمن الحرب, تضاعفت المزايدات بإلحاح عجيب, وظهرت حالة أقرب للسعار الإعلامي, وصلت فيها المحاكاة المخزية بين منتجات وسائل الإعلام حدها الأقصى, بحيث تحول الشأن السوري الى حدوتة مهيمنة على معظم الشاشات العربية والأجنبية, وتحول مدعوو المعرفة بها إلى نجوم بأهمية نجوم هوليوود.

وهكذا تلاشى الواقع وتلاشت الحقائق, من صور التلفزة والانترنيت, وحل محلها واقع فائق الواقعية, مصنوع وفقآ لشروط الفرجة التلفزيونية, وأصبح مثل كرة الثلج يتوالد ذاتياً, ويتدحرج بعيداً عن الحقيقة الموضوعية, قريباً من الحقيقة التلفزيونية, فيه كل عوامل الإثارة والتهييج الذاتي, عبر مسار حلزوني يثير الدوار, والحماس, والانفعال إلى درجة الغثيان, كما يثير الحس الديني الساذج (أو تيلي إنجيلية – الإنجيلية التلفزيونية) لدى البشر بالحلم بالتغيير, ما دامت تبعات هذا التغيير لن تمس استقرار حياتهم هم, وان مست حياة ملايين غيرهم!؟.

فالصورة سلطانة, ودحضها ونفيها صعب إن لم يكن مستحيل, ووفرتها تجسيد فعلي لغياب المعنى, مع الإيهام باستيفاء المعنى, ولذلك فآليات التضليل لم تعد تعتمد على الحذف والقص والاجتزاء كأدوات للتأثير, بل أصبحت تعتمد على الوفرة والغزارة والتراكمية, بشكل يزيد عن حد الكفاية ويبلغ درجة كبيرة من الإشباع تصل حد التخويف من المعرفة, والشطط في معالجة الأحداث بعيداً عن الجوهر.

وقد ساهمت الدراما السورية عن قصد أو غير قصد, في تشكيل صورة ذهنية سلبية عن المجتمع السوري, مهدت الطريق – فيما بعد- لتصديق كل الأكاذيب التي بثتها وسائل الإعلام العربية والأجنبية عن الأحداث في سورية, حيث دأبت الدراما السورية في السنوات العشر الأخيرة قبل الحرب, فيما أسمته : “دراما توثيقية”, على تصوير المجتمع السوري على انه مزيج من الفاسدين ومستغلي السلطة والقوادين والداعرات, وأظهرته كبؤرة للطغيان, البقاء فيه للأقوى والأكثر فساداً, ولا أمل لضعيف أو فقير أو شريف في حياة كريمة بين جنباته, وهذه أولى مراحل صناعة المشهدية, التي رافقت الأحداث, وطالت البشر والحجر والشجر.

 

 

 

مقالات ذات صلة

- Advertisment -

الأكثر شهرة