جوى للانتاج الفني
الرئيسيةفي الصالات"أيام مثالية" لفيم فيندرز.. فنّ الاستمتاع بالأشياء البسيطة

“أيام مثالية” لفيم فيندرز.. فنّ الاستمتاع بالأشياء البسيطة

“الأفلام يمكنها أن تكون شفاء، ليس للعالم، ولكن لنظرتنا له.”

فيم فيندرز

في السينما، قد يكون من المُبالغ فيه الحديث عن أفلام غيّرت نظرتك للحياة، لكن “أيام مثاليّة” ل”فيم فيندرز”، من الأفلام التي تمنحك الفرصة لترى الدنيا في عيون مختلفة، فشخصية البطل “هيراياما” الممتلئة بالرضا والهدوء والسلام، تجعل الإنسان أكثر هدوءاً في فهم الحياة والتعامل معها.

الشريط جرعة سينمائيّة تأمليّة، أشبه ما تكون بدعوة للاستمتاع بالحياة البسيطة التي نتجاهلها جميعنا في سعينا الدائم والمحموم نحو الحياة المثاليّة في صيغتها السريعة واللاهثة والصاخبة.

يتتبع الفيلم يوميات منظّف المراحيض الياباني الأكثر عُزلة وهدوء ورضا في العالم، هيراياما، فتلاحق الكاميرا متعه البسيطة في تماهيه مع الطبيعة والجمال، حبّه للقراءة والموسيقى الكلاسيكيّة، تصالحه مع رويتنه وعزلته، هوسه بأداء عمله على أكمل وجه، استمتاعه بالبستنة والتصوير. فحياة هيراياما (الذي يؤدي دوره الممثل الياباني الرائع “كوجي ياكوشو”، الفائز بجائزة أفضل ممثل في كان السينمائي بدورته السادسة والسبعين، عن دوره بالفيلم) تركّز على الحاضر، اليوم، اللحظة. عن المتع التي تكتشفها بعد الخروج من بيتك، في الطريق، الحديقة، المطعم، المكتبة، وعن المتع الخاصة جداً التي تمنحك إياها الكتب والموسيقى عندما تغلق باب بيتك.

لكن اكتشاف الجمال والمتعة في أبسط الأشياء فنّ لا يجيده الجميع، لكن عند هيراياما حتى استراحة الطعام بعد عمل شاق في تنظيف المراحيض فرصة للاستمتاع، فهو ينتهز الفرصة لالتقاط صورة الضوء الذي يتسلل عبر أوراق الأشجار، وبإيماءة بالرأس يلقي تحيّة للأشجار مع نظرة ممتنة للجمال الذي يتحسّسه من حوله، يبتسم لفتاة تتناول طعامها في الحديقة بدون شهية للطعام أو الحياة، ويُلاحظ_ بفضول_ رجلًا متشرداً يعيش في الحديقة، ويذهب دائمًا لتناول الطعام في نفس المطعم في نهاية يومه، وينغمس في القراءة إلى أن يغلبه النوم (فوكنر، أو كودا، أو هايسميث)، وفي اليوم التالي، يبدأ كل شيء مرة أخرى بالروتين ذاته، دون أي احتمال للملل أوالكآبة، ففي فلسفة، هذا الياباني، البقاء على قيد الحياة فرصة لاكتشاف المُتع البسيطة وعيش اللحظة، وهذا ما يلخّصه هيراياما بجملته:

“المرة القادمة هي المرة القادمة. والآن هو الآن.”

يبدأ السرد بإظهار كل التفاصيل الروتينية لحياة البطل. ومع تقدم الشريط، نتعمق أكثر فأكثر في نفسية هيراياما دون أن نعرف الكثير عن ماضيه.

تكرّس شخصية “هيراياما” الثقافة اليابانيّة التي تمجّد العمل وتقدّسه، ففي بعض مقاطع الفيلم يبدو البطل وهو يمارس عمله بتفانٍ شديد كما لو أنه يمارس طقوس العبادة. تتمتع الشخصية بقدر هائل من الثقة بالنفس واليقين، فلا يكترث هيراياما كثيراً لمن يعاملونه كشخص غير مرئي، أو لمن يقابلون لطفه بالإساءة والتجهّم. يبدو هيراياما متصالحاً مع كل شيء، كما لو أنه لا يأخذ مزاجية البشر على محمل الجدّ، ولا ينتظر الكثير من الناس، فينتقي من الحياة ما يتفاعل معه بابتسامة رقيقة أو تلويحة يد، وكأنه صنع لنفسه حياةً عنوانها السلام، فاكتسب مهارة حماية عالمه الصغير من تأثيرات البشر على اختلاف طبائعهم وشخصياتهم، وأعتقد أن هذا بالضبط ما يجعل حياة هيراياما مسالمة وهادئة. لكن، في الوقت ذاته، لا يحتاج الفيلم إلى شرح أسباب وحدة هيراياما الآمنة والسعيدة، فهو ليس شخصية مكتئبة أو معقّدة أو منغلقة على نفسها أو كارهة للبشر، بل على العكس تماماً، وهذا يتضح من علاقاته الودودة مع الشخصيات التي تصوغ روتينه في العمل والمطعم والحديقة، علاقته مع ابنة شقيقته التي تتوق لمشاركته اهتماماته وكتبه وحياته الهادئة، ونقاشه المؤثّر والرقيق مع غريب يُحتضر، لكنه إنسانٌ لا يحب الجدال والثرثرة، وبالتالي لا يُفسد متعته سوى رغبة البعض بالتطفّل على حياته. هكذا، لا نجد طوال الشريط ما ينغّص أيام هيراياما المثالية سوى زيارة شقيقته الخاطفة من الماضي، والتي تبدو شخصيتها موغلة في التعقيد والسيطرة، على النقيض من هيراياما.

تتجول الكاميرا في شوارع طوكيو، قبل أن تصحو المدينة إلى أن تنام، مصحوبَةً بأغنيات الروك الأمريكية القديمة التي ترافق البطل في الذهاب والعودة، وفق رؤية سينمائيّة في غاية الصفاء والدفء والحميمية، تزاوج بين التسجيلي والروائي، وتعطي بطلها هامشاً كبيراً للتعبير والارتجال والإضافة، وهو ما استثمره حتى النهاية “كوجي ياكوشو”، الذي قدّم شخصية لا تُنسى.

في “أيام مثالية”، صيغة مختلفة للعيش بطقوسٍ خاصة، حيث تبدو الوحدة ملاذاً لعيش الحياة وفق معاييرك، بكل تفاصيلها، وروتينها اللذيذ، ومتعة اكتشاف الجمال في كل شيء حولك مهما بدا بسيطاً واعتياديّاً.

الفيلم الذي بدأ بدعوة من بلدية طوكيو للمخرج فيم فيندرز، لإنجاز فيلم تسجيلي عن مشروع مراحيض طوكيو العامة، بهدف تغيير الصورة النمطيّة عن المراحيض العامة، وتقديم صورة واقعية مختلفة تتكئ على الطابع المعماري والتقني والحضاري المذهل للمشروع، تحوّل إلى فيلم يجمع الروائي والتسجيلي، من إنتاج ياباني ألماني مشترك، كتب السيناريو الخاص به فيم فيندرز بالشراكة مع الياباني تاكوما تاكاساكي، وتصدّى لبطولته هيراياما وطوكيو والطبيعية في صيغة مثالية يجيد فيندرز صنعها، مستلهماً أسلوب الياباني أوزو في السرد والتصوير.

لا يسرد الفيلم قصة، ولا يثرثر حواريّاً، بل يعرض أسلوب حياة، وبالتالي لا يستند على الصراع ليجذب مشاهديه على طريقة السينما الحديثة، بل يستثمر في التناقضات بين فلسفتين مختلفتين للحياة، والجميل أن التناقض بين الثقافة الاستهلاكية ونقيضها، الكآبة والسعادة، الحريّة والتسلّط، لم يُبنى بين جيلين بل بين رؤيتين مختلفتين للحياة والعلاقات. فشخصيات قليلة تصوغ الفيلم وأفكاره، وبدون أن تنبس أحياناً ببنت شفة، ومعها تتكشّف فلسفة الشخصيات ونظرتها للحياة استناداً لتناقضاتها: “هيراياما” من جهة وزميل عمله “تاكاشي” من جهة أخرى، “بنت الحديقة” بكل كآبتها و”هيراياما” بكل سعادته، ابنة شقيقة هيراياما “نيكو” التي تتوق لمشاركة خالها عالمه الخاص والحُرّ من جهة وأمها المتسلّطة من جهة أخرى.

يترك فيندرز للصورة والموسيقى والكتب التعبيرعن البطل وحالته الشعوريّة، وكأن الأغنيات والكُتب تصوغ حياة هيراياما، حيث تبدو الفكرة برمتها وكأنها قد بدأت مع أغنية “perfect day” لمغني الروك الأميركي “لو ريد”، والتي اختارها فيندرز عنواناً لفيلمه.

فكل شيء يبدأ بالموسيقى، كما يقول فيندرز.

بالمجمل، يُشرك الفيلم المُشاهد في ملء الفجوات واستخلاص العِبَر وقراءة ما بين السطور دون أن يبوح بكل شيء. إنّه من طينة الأفلام الخاصة التي ترجع السينما إلى أصلها الأول كفنّ قائم على الصورة، وتُشعرك منذ المشاهدة الأولى بأنها ستأخذ مكانها بين الكلاسيكيات التي لا تتوقف عن الاحتفاء بها واستحضارها بصريّاً وسرديّاً.

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

- Advertisment -

الأكثر شهرة