سعد القاسم
مع الأغنية الأولى في الحفل بدأت السيدة السبعينية الجالسة خلفي بدمدمة كلمات (أيظن؟) برفقة ديانا السعيد،
كان الأمر انتهاكاً مبكراً لمتعة الاستماع،
ومع ذلك ثقلَ عليّ حتى مجرد الاستدارة لإلقاء نظرة استياء.
أقنعت نفسي أن الأغنية أثارت ذكرى قديمة في نفسها، وأن الحال سيكون مختلفاً مع باقي الأغاني،
لكني اكتشفت – دون بهجة – أنها تحفظ أغاني الحفل جميعاً، مع استثناء وحيد لأغنية الرحابنة (موال دمشقي).
حين الخروج من الصالة إثر انتهاء الحفل اعتذرت بلطفٍ عن الإزعاج الذي تسببت به، فأجابتها شقيقتي مجاملة أن جو الحفل فرض هذا التفاعل. وهذه هي الحقيقة.
الحديث هو عن الحفل الاستثنائي الذي أحياه عدنان فتح الله والفرقة الوطنية السورية للموسيقا العربية في قاعة أوبرا دمشق مساء الأثنين الثامن عشر من ايلول،
والذي مدد يوماً ثانياً بعد النفاذ السريع لبطاقات اليوم الأول.
من جهتي لا أرى أن الإقبال الواسع على حضور حفل فني يمنح تقييماً لهذا الحفل، لكن حين يلقى هذا الإقبال حفلٌ راق فإنه يمنح التقدير لجمهورٍ ما يزال بعضٌ منه قادراً على التمييز والانتقاء.
وعدم الانجرار وراء كل جديد. ويشير إلى الثقة التي خلقها موسيقي مع جمهوره، وتجلت قبل وقت قصير بحفل (الثنائيات الغنائية) في المكان ذاته.
عودة إلى الحفل، وقد أقيم ضمن سلسلة أنشطة أعدتها وزارة الثقافة للاحتفال بمئوية ولادة نزار قباني.
كان خياراً موفقاً انتقاء مجموعة من أشعار نزار المغناة للاحتفال بذكراه.
فكلمات هذه الأغاني مجتمعة قدمت وجه الشاعر العاشق للمرأة،
(كشريكة لا كسبية) ولدمشق، وللعروبة، وللعربية.
قدمت سحر الكلمة النزارية السهلة الممتنعة، القريبة من القلب الملامسة للروح.
تجمع بين وضوح المعنى وبراعة الابتكار.
وترافق ذلك مع عرض بصري متقن ظهر فيه نزار وهو يلقي أشعاره،
وهو يناقشها مع من سيغنيها، وهو يستمع إليها مغناة.
وبمقدار ما كان هذا العرض خلفية دافئة حاضنة للحدث، كان مقدمة لطيفة للأغنية القادمة،
مهد لها بشيء من الأغنية الأصلية بأصوات مغنيها الأصليين،
وأتبعها باسم الأغنية، وأسم المغني أو المغنية، واسم الملحن، واسم الشاب أو الفتاة الذي سيؤديها.
بصوت محمد عبد الوهاب مع أغنية (أيظن؟) التي لحنها لنجاة الصغيرة،
بدأ الحفل، يليه صوت نجاة ممهداً لغناء ديانا السعيد الدافيء،
ينقل بفرح غامر مشاعر العاشقة التي عاد لها حبيبها بعد فراق.
ثم كانت الأغنية التالية لكاظم الساهر، أكثر من غنى لنزار، (علمني حبك سيدتي..)
ورماح شلغين الذي أداها بإحساس عالٍ،
خاصة حين بدّل طبقة صوته مع مقطعها الثاني.
تلاها رائعة نزار وأم كلثوم وعبد الوهاب (أصبح عندي الآن بندقية) ألتي ألهبت مشاعر جيل كامل، وأحيت جذوتها بكفاءة سيلفي سليمان.
الاستثناء في الحفل كان في الأغنية التي أدتها برقة ليندا بيطار. فقد كانت الأغنية الوحيدة غير الشهيرة، بل الأغنية التي تكاد تكون مجهولة تماما من الجمهور:
لقد كتبنا وأرسلنا المراسيلا..وقد بكينا وبللنا المناديلا
قل للذين بأرض الشام قد نزلوا.. قتيلكم بالهوى ما زال مقتولا
يا شام إن كنت أخفي ما أكابده.. فأجمل الحب حبٌ بعدُ ما قيلا
قد يفاجأ من لا يعرف هذه الأغنية بأنها لفيروز والرحابنة.
أما سبب عدم شهرتها فبحكم أنها قد قدمت مرة واحدة في مهرجان معرض دمشق الدولي،
ولها تسجيل نادر غير صاف. وقد أعاد عدنان فتح الله تدوين الأغنية لتقدمها الفرقة في الحفل الذي ختمه خلدون حناوي ببراعة المحترف مع الأغنية الساحرة (قارئة الفنجان) التي جمعت كلمات نزار بألحان محمد الموجي بصوت عبد الحليم حافظ.
حفل أشعار نزار المغناة، لم يكن احتفالاً بذكراه فحسب، وإنما، وأيضاً، استحضاراً رائعاً لزمن اعتدنا وصفه بالزمن الجميل..
زمن قمم الكلمة واللحن والصوت.. والأداء.