جوى للانتاج الفني
الرئيسيةموسيقاياس خضر الذي لم يمت وحده

ياس خضر الذي لم يمت وحده

فراس القاضي

ما أجرأ الموت، هكذا يأخذ ياس خضر كله بهذه البساطة؟ بهذا الهدوء؟

شخصياً توقعت أن في لحظة موته سنسمع “أوف يابا” تبدأ من العراق ولا تنتهي في آخر الدنيا. أم أنه تردد فنهره (أبو مازن) بصوته الجهوري وقال له: “هذا حدنا وبس بعد” وتم الأمر على عجل قبل أن تستيقظ نخلات العراق على ثكل جديد؟

ياس خضر، الذي بدأ مشواره الفني في ستينيات القرن الماضي بأغنية “الهدل” (ألحان محمد جواد أموري) التي سُمي باسمها لفترة، أحدث الخرق الثاني في موضوع انتشار الأغنية العراقية خارج العراق، بعد ناظم الغزالي وقبل سعدون جابر وكاظم الساهر الذين يُستشهد بهم دوماً في هذا الأمر، لكن ما فعله ياس كان أهم بمراحل، فأغنيات ناظم المعروفة عربياً قليلة، وبالنسبة لسعدون، وكاظم أكثر منه، ومع احترام فارق الأصالة والعراقة في نوع الغناء لصالح سعدون، فقد تميزت أغانيهما بسلاسة غالبية كلماتها، أي أنه من الممكن أن يفهم سوري أو مصري أو مغاربي معانيها، أما ياس، فقد أجبر العرب على امتداد جغرافيتهم على حفظ أغانٍ لا يفهمون معاني الكثير من كلماتها، بل وأحياناً ينطقونها بشكل خاطئ، فكم نسبة غير العراقيين الذين يفهمون معنى كلمة (ريل)؟ و(عُطابي)؟ و(دولبني الوكت)؟ و(ونحَبِس ونّة)؟ لكنهم يحفظونها ويرددونها، إن استطاعوا إلى نطقها بشكل صحيح سبيلا.

لا تفسير لما سبق سوى سطوة صوت (أبو مازن) التي مارسها على الموسيقا والغناء قبل الجمهور، فقد كان يمتلك اللحن بشكل غريب، ويؤديه بشكل أغرب، جبار وقوي وصحيح وسلس جداً في آن معاً، فتظن أن الرجل تعلم الغناء قبل الكلام، وبأن النتيجة النهائية التي يقدمها لنا مطربون كبار آخرون بعد بروفات وتعب وتدريب، يستطيع هو تقديمها بذات الجودة فور استيقاظه من النوم.
الحزن والاهتمام الكبيران بوفاة ياس خضر لا يقتصر سببهما على الحالة الفنية التي كان يشكلها الرجل، بل هناك ما هو أكبر بكثير، فياس خضر في وجدان العراقيين والعرب يمثل العراق وليس الفن العراقي، العراق بنخله و(دجلته) وقوته وشعره وكرمه وتاريخه، ياس خضر يذكر الناس بأيامهم الجميلة التي يحنون إليها، ويتحدثون عنها ليل نهار، وخاصة في هذه الأيام الصعبة.
وبعد الأيقونات التي أنتجها في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، لم ينقطع ياس عن الغناء حتى سنواته الأخيرة، وأنتج الكثير من الأغنيات التي أحبها الناس، لكنها كانت برأي بعض المختصين ومحبيه الكلاسيكيين لا تتناسب أبداً مع جودة إنتاجه القديم، وهذا صحيح، لكنه مُبرر، إذ من أين سيأتي بمظفر النواب وزامل سعيد فتاح وطالب القرغلي ومحمد جواد أموري ونامق أديب و كمال السيد وياسين محمود ومحمد عبد المحسن من جديد؟

ودون التقليل أبداً من أهمية وعظمة الكلمات والألحان التي قُدمت له خلال فترته الذهبية، إلا أن ما قدمه الثالوث الكبير (مظفر النواب – طالب القرغلي – ياس خضر) كان من أجمل ما يمكن أن نسمعه، وما تزال شعبيته أكبر: (مرينا بيكم حمد – البنفسج – حن وانا حن – روحي)، وتحديداً (مرينا بيكم حمد) التي هي – بالنسبة لي على الأقل – أحد أهم أسباب حزننا، فقد كان في ياس بقية من حمد ومن محبوبته التي لم يطلعنا النواب على اسمها، والآن ماتا بموته، واختفت (أم شامات)، ومات طالب القرغلي ومظفر النواب مرة أخرى.

أحببنا ياس خضر لأنه غنى عنا جميعاً وليس عن نفسه فقط، فحين خُذل لم يقل تايب، بل (تايبين)، ولم يبكِ لأنه مجروح، بل لأننا (مجروحين)، وما سافر مرة إلا واصطحبنا معه، فكنا (مسافرين)، ولم يمر بـ (أم شامات) وحده، بل أخذنا و(مرينا بحمد).
ربما لم يخطر ببالنا أن أول ورقة يقطفها الخريف ستكون ياس خضر، ففي صباح الجمعة الأول من أيلول 2023، همس أبو مازن لـ (الريل): “خلصت عشرتي وياك”، فردّ بـ “يا حسافة”، ونزل في محطته الأخيرة، وحين صرخنا جميعاً: “جيزي المحطة بحزن وونين يا فراكين”، قالت الدنيا التي (من عشقهم كُبرت بأهلها): هكذا تفعلون بي دائماً “وآخ لو عندي قلبكم”.

مقالات ذات صلة

- Advertisment -

الأكثر شهرة