جوى للانتاج الفني
الرئيسيةنقد تلفزيونيولاد بديعة، جماهيرية الصخب من دون بوصلة

ولاد بديعة، جماهيرية الصخب من دون بوصلة

أحمد السح

دراما كاركترات

قبل عدة سنوات أكّد لي أحد الضالعين في كواليس الصناعة الفنية في المنطقة أن الدراما بالنسبة له،
هي دراما شخصيات (كاركترات) أكثر منها دراما حكاية،
وأنه لا يهم أن يكتب الكاتب قصة ولكن المهم أن يخترع شخصية ما وهذه الشخصية تحقق النجاح والشهرة وربما الاستمرارية، مثلما فعلت شخصية غوار الطوشة – دريد لحام لعقود.

لم يكن هذا التأكيد الموارب موجهاً لي،
بل كان يعكس رغبة رأس المال وسطوته على إنتاج المسلسلات في سورية ولبنان،
وخلال هذا الموسم الرمضاني بالتحديد تأكدتُ أن هذا الرأي سطا على عقول كل من يعملون في الفن في سوريا،
وأولهم الممثلين والمخرجين،
ويبدو أنه داس رغبات الكتّاب في طريقه،
فباتت المسلسلات هي عبارة عن مسلسلات شخصيات يقلدها الجمهور ويتمثل بها أو ربما يصنع عليها “ميمز” أو فيديوهات أو يتداول كلماتها وبهذا يخلُصُ القيمون على الصناعة الفنية أن الفن قد أدى رسالته وأن العملية نجحت نجاحاً كاسحاً،
ولكن لا أحد يريد الاعتراف ان الذوق الفني للمجتمع قد مات،
بعد أن غرزت في صدره هذه الكمية من النكت السمجة والإضافات المبهرة التي تمنع ظهور الطعم الحقيقي للطبخة الفنية المحضرة على عجل.

ولاد بديعة
ولاد بديعة

قرقعة الفيسبوك لا حساب لها في الخزينة

يسعى أي منتج فني إلى تأمين نجاح جماهيري لعمله الفني، وهو يعرب هذا النجاح على شكل أرقام تزداد في خزينته وهذا من حقه،
ولكن أغلب القرقعة الفيسبوكية تظهر في بلدين هما أقل البلدان اهتماماً بهما من قبل شركات الإنتاج،
لأن اشتراكهما في المنصات الفنية – التي تعني مالاً – شبه معدوم،
ولكن قدرتهما على القرقعة على السوشيال ميديا عالية،
وبالتالي هذا يفيد في زيادة المتابعين ذوي الدفع وبالتالي زيادة رأس المال.

أعتبر هذا مدخلاً سيئاً للتحدث عن أي عمل فني وعن الفن عموماً ولكنها الحقيقة الاستهلاكية المرة التي تجبرنا على التعامل مع الفن كمنتج ربحي،
فلم يعد هناك منتج فني لإشباع رغبة الجماهير وتوعيته فهذا منطلق اشتراكي قد انقرض منذ مدة لا بأس بها وقد ساهم الجميع في القضاء عليه،
ولكن الضوابط القيمية لصناعة الفن باتت شبه معدومة،
وبالتالي تبقى رقابة النص على صنّاعه أو بعض الجهات التي تعرض أو تتدخل في هذه الصناعة بين حين وآخر،
وعليه تفاجؤنا الشاشات بأنها تعرف أكثر من الجمهور ذاته ما هي رغباته الحقيقية،
وأن ما عليهم تقديمه له ما هو إلا وجبات قطيعية يراد له فيها أن ينساق لا أن يفكر.

بلا هدف واضح

يعتبر مسلسل ولاد بديعة حسب متابعات الجمهور واحد من أكثر الأعمال مشاهدة،
ولكن هذه النقطة لن نخوض فيها كثيراً لأننا لا نمتلك الأرقام الصحيحة،
وحتى من يمتلكونها يمكن لهم أن يتلاعبوا بها،
ولكن يمكن أن نقول إنه أثار صخباً بشخصياته من الحلقات الأولى مع بداية شهر رمضان 2024،
فقد وجد المشاهدون أنفسهم أمام مجموعة من الشخصيات الغريبة،
التي يؤديها ممثلون من المستوى الرفيع، ويستخدمون واحدة من أبسط أدوات التمثيل وهي النمط، أن تصنع متكأ لفظياً أو لازمة كلامية لكل شخصية،
وربما تذهب حتى إلى صفرة أو نخرة أو حركة تجعل الجمهور يضحك وتأتي بعدها جيوش من الذباب الالكتروني تجعل الأمر شعبوياً ومتاحاً للتقليد من قبل الجميع، ويكون لدينا عمل (يحكى عليه) تدور احداثه في فراغ متواصل من اللاهدف، فتارة يتصارع إخوة على مال،
وحين يمتلكون المال يتصارعون على مكامن نفسية ضعيفة ومزمنة في نفوسهم تفضي إلى اللا شيء،
فنرى سكر (سلافة معمار) في بداية العمل طامحة لأن تكون أماً،
لتتحول بعدها إلى بياعة خبز بعد أن قتلت زوجها ورقصت على قبر، ومن ثم تتحول إلى منقبة عن آثار وذهب،
بإشراف شخصية شوال (عبد الهادي الصباغ) التي دخلت العمل على عجالة درامية ومن ثم صارت المنقذ في كل شيء.

أدى الممثل سامر اسماعيل شخصية شاهين الدباغ بدون أية منغصات أو بهولانيات سهلة،
بل يحسب له بأنه الأكثر التزاماً بمنطق شخصيته وأهدافها،
ولم يجمح إلى الرواج المجاني رغم أن العمل استمر تصويره حتى الأيام الأخيرة من شهر رمضان، ولكن الشخصية بذاتها تبدو بلا هدف واضح، ولا أحد يعرف ما الذي تريده،
إن كان العلم قد نقصها فقد ذهبت إلى شراء شهادة جامعية ومن ثم شهادة دكتوراه،
ولكن ليس هذا مشكلة بذاته، المشكلة كيف يمكن لدكتورة جامعية في التربية أن تقبل الزواج بمزور شهادة دكتوراه، ولا يمكن لأحد أن يقنعنا بأنها لا تعرف أو أن الأمر تم خفيةً عنها،
فالدكتوراه لا يتم تحصيلها بساعات ولا أيام،
ولكن ألا يجعل هذا من رسالة العمل تضرب بنى ركائزية في المجتمع، الدكتورة مغلوب على أمرها وحتى الصحفي الفني الذي دخل لأجل انتقاد ظهور شركة غسيل أموال يديرها أشخاص سيئون للوسط،
تبين أنه يمكن شراؤه بسهولة، إذن لا قيمة للصحافة والصحفيين وأن الجميع يشبهون شخصية جمعة الخسيسة (مصطفى المصطفى) التي كان حربة الفعال السود في العمل،
ولكن ثبات موقفه بدا حين أراد أبو رياض (فراس ابراهيم)  الزواج من أمه (نادين خوري) وكان مبرره أن يستحي مما سيقوله عنه أبناء الدباغات،
وكأن الإمساك به وهو يسرق عدة مرات أو عمله في قتال الديوك،
والبيع والشراء بأخته على الملأ كل ذلك لم يهمه، أما زواج أمه فقد صار شيئاً يجلب له العار.

الارتجال في الساعات الأخيرة

لا يجب أن نستند في تحليلنا للعمل إلى بهرجات السوشال ميديا سلباً أو إيجاباً ولكن ما أثبته صناع العمل فيما نشروه بيّن أن العمل انتهت كتابته وتصويره حوالي السادس والعشرين من رمضان أو ربما السابع والعشرين،
أي أن العمل لم يطبخ على نار هادئة وأنه ارتجل ارتجالاً وهذه واحدة من مطبات مهنة الإنتاج الفني في سورية،
ولن أسميها صناعة فنية،
لأن الصناعة تقتضي وضع جداول زمنية لكل شيء لا الارتجال في الساعات الأخيرة،
وقد استند السادة أصحاب القرار في العمل إلى أن الجمهور قد شرب الكأس وحقق نسب المشاهدة والآن سيقبل بما نقدمه له، وإن لم يقبل فلم يعد هذا مهماً.

يندر أن يسأل مشاهد ما نفسه بعد الانتهاء من مشاهدة أي عمل فني ماذا حصلت من هذه المشاهدة،
فقد اختفى الجد والجدة الذين يحكون الحكايات ويسألوننا في ختامها: ما العبرة؟
وصناع أي مسلسل تلفزيوني ينتقده الجمهور يعتبر أنها حكاية ولا تمثل الواقع،
ولكن حتى الحكاية تحتاج إلى عبرة،
فيا ترى، ماذا أحصل كمشاهد من متابعة ابنة ليل مجهولة النسب،
وقاتلين نبشا قبر أبيهما لتحصيل بصمته وماله،
ومختل عقلياً صار شيخاً على السوشال ميديا،
قبلته امرأة بهدف الانتقام مع أنها تعرف أنه زواج بلا طائل،
فهل نروج لزواجات لأهداف غير بناء الأسرة؟
وهل الصديق الذي كان يخون ثقة مختار ومن ثم انتقم منه شر انتقام هو رسالة بأن الصداقة في الحياة قيمة ناقصة ولا يجب أن نصدق بها،
وهل الحب الذي طعن عدة مرات في كل ثنائية ظننا للحظة أنها استراحة الحب في مسلسل يضج بالعنف،
هل هو – أي الحب-  قيمة منكرة ولا يجب أن نستند إليها؟ ماذا أحصّل من عبر؟ لا شيء.

اذهب في متاهة حياتك كيفما اتفق

 كنا نشاهد عملاً لثلاثين حلقة عن دباغات وجلود ومواد كيماوية وأكفان وتفجيرات ونبش جثث وتقطيع أوصال، ولكننا لم نر قيمة إنسانية واحدة يمكن أن نستند إليها لنقول إن هذا العمل قد أحياها في نفوس الناس،
فحتى حكايات المسلسلات الشامية التي يذمها كثيرون كما ذمها المسلسل كانت كما صنعها المخرج الراحل بسام الملا، تحتفي بقيمة إنسانية بسيطة،
الأمانة أو الكرم أو الأخوة.. إلى آخره،
وتفعل كل الفعال لأجل الاحتفاء بهذه القيمة،
أما مسلسل “ولاد بديعة” فلم يرد سوى إرسال رسالة واحدة،
أن لا ترتكز لأي شيء في الحياة، واذهب في متاهة حياتك كيفما اتفق من المهد إلى اللحد،
والجميع في النهاية هم أولاد بديعة.

لا أريد القول أن العمل لم يكن في إنتاجه أية نقطة بيضاء،
فنحن نعرف أن مخرجته تحسن صناعة مسلسلاتها،
وتستطيع بشكل أو بآخر اختيار تلوين مبهج وصحيح يجذب عين المتفرج وكما أنها تعطي مساحة حرة للمثلين ليبتكروا شخصياتهم، ولكن التفلت في هذا العمل بدا واضحاً في حلقاته الأخيرة، فلا النص بات متماسكاً ولا الإخراج بات مفهوماً ولو أراد الجميع الانتباه سيعرفون بأن نسبة مشاهدته أيضاً انخفضت وعلت أصوات تقول إنه بات مقيتاً ولكن “سبق السيف العذل” والمسلسل صار في مكان آخر، من حيث التصنيف.

لدى الجمهور ذاكرة فنية قصيرة، وبعد شهر سينسى ما تناوله على عجالة عبر شاشة شهر رمضان؛
ولكن ما لن ينساه هو المقاييس الفنية في النجاح والجماهيرية التي باتت تقدم له على أنها معايير خالصة النقاء؛
وأن الشغب الذي يحدث على وسائل التواصل يعني أن هذا العمل ناجح ومفيد له،
ولن يعرف التمييز بدقة بينما هو مفيد أو لا! فالقاعدة الذهبية التي يعمل كل صناع الفن تحتها هي قاعة “المتعة والفائدة” والواو هنا واو ربط، لا واو عطف فقط،
وسقوط أي طرف من طرفي هذه المعادلة يعني خللاً في الصناعة الفنية،
وإن خضعنا لرغبة (وشّيشة) السوشيال ميديا وقلنا إن العمل كان ممتعاً، فهل يا ترى كان مفيداً؟

مقالات ذات صلة

- Advertisment -

الأكثر شهرة