جوى للانتاج الفني
الرئيسيةفي الصالات«وش في وش».. الكوميديا لمواجهة الخوف

«وش في وش».. الكوميديا لمواجهة الخوف

ناهد صلاح

قليلة صارت الأفلام التي يمكن مشاهدتها والتفاعل مع أحداثها والتماهي مع أبطالها، نضحك ونتأمل مع أمينة خليل ومحمد ممدوح،
مثلما نضحك لأداء بيومي فؤاد، سلوى محمد علي، أنوشكا، سامي مغاوري، محمد شاهين، أحمد خالد صالح، أسماء جلال، خالد كمال، محمود الليثي، دنيا سامي..
«وش في وش» فيلم ممتع على أي وجه أحببت، نضج في كوميديا الموقف،
وفي النظر لقضايا اجتماعية وعائلية،
لذا فإنه ليس من المستغرب هذا الاحتفاء الذي صادفه،
لأنه رد فعل طبيعي تجاه عمل فني لم يفتعل الأحداث، بل جاء إلى حد كبير صادقا ومعبرا في مجمل موضوعه الذي طرحه وناقشه بروح كوميدية لافتة،
مستندا على بطولة جماعية ارتضى الممثلون من خلالها أن يساهموا في عمل فني يحقق لهم بريق التمثيل أكثر من سطوع البطولة الفردية، بأداء يقدم شخصيات من لحم ودم تغضب وتضحك وتستمر وتستقر في البال والذاكرة،
على قدر التناغم الذي حققوه بوعي وخبرة التجربة،
ومهارة وليد الحلفاوي كمخرج يؤسس لمشروعه وأيضا كمؤلف لديه الخيال الخصب، المُشبع بخفة ظل واضحة وأخاذة.
حسنا، إذا اعتبرنا أن هذه مقومات جيدة وكافية لفيلم يظفر بعناصر فنية مغرية،
ويربح تفاعل الجمهور معه،
فلابد أن نفهم كيف يضعنا الفيلم كذلك أمام نقاط مهمة تخص صناعة الأفلام مؤخرا، نبدأها بالحال الراهن للكوميديا في السينما المصرية ونحن ندرك أنها لا تحتاج إلى فيلم ينجح في صناعة الضحكة،
كي تتأكد إصابتها بأزمات عدة،
في الوعي والثقافة والخيال، هناك خلل ما في النتاج الكوميدي الحالي،
لأنه في أغلبه منقوص ومرتبك وعاجز عن ابتكار لغة إبداعية مبتكرة،
هذا لا يعني أن القديم كله كان أجمل وأعمق وأجود، لكنه على الأقل أفرز منجزا فنيا غير شحيح،
لعل الخلل بدا جليا منذ العام 1996 أو حتى قبلها بسنوات مع انتشار سينما المقاولات وما يشبهها،
بينما ظل العام 1996 هو الفيصل في الوعي الفردي والجماعي،
بعد أن وصل الجميع إلى تقييمات مستقرة لما أسموه «موجة أفلام الشباب»، أو «الكوميديا الشبابية الجديدة»، أو «المضحكون الجدد»،
مع ملاحظة أن الاستقرار على هذه المسميات لا يعني اتفاقا نهائيا حولها، فنحن لم نتخل بعد عن ثنائية «مع وضد» وهي ثنائية تعبر بشكل سطحي عن اختلافات في التقييم،
لكنها لا تنفي الموجة السائدة حينذاك والمستمرة حتى الآن، بقدر ما تعترف بها وتكرس لها،
بل تغازلها وتخطب ودها أحيانا..
من البديهيات السهلة التي يرتكن إليها الجميع اعتبار أن فيلم «اسماعيلية رايح جاي» هو كلمة السر في انطلاق موجة الأفلام الكوميدية الجديدة،
ولم يقل لنا هؤلاء المروجون للأحكام السهلة: ولماذا كان هذا الفيلم بالذات هو كلمة «افتح يا سمسم» التي فتحت المغارة أمام جيل من صغار الممثلين المحبطين،
كما فتحت شهية المنتجين لضخ أموالهم في تقديم العديد من الأسماء الصغيرة،
وأدت إلى جرأة تجاهل النجوم لصالح الوافدين الجدد، وهي ظاهرة ربما لم تحدث بهذا العنف من قبل في تاريخنا السينمائي الذي سار منذ نشأته على أسلوب «سيطرة النجم» كما تعلمناه من هوليوود.
لكن على أية الحال فإن الفيلم الذي ظهر رسميا في العام 1997 من إخراج كريم ضياء الدين،
تحول إلى «تميمة حظ» للمشاركين فيه، ثم لأعداد كبيرة من المنبوذين سينمائيا بحكم الطبخة التقليدية السائدة في الإنتاج والتوزيع،
وكذلك الذوق السينمائي الذي توغل لسنوات عدة لاحقة في ظل تأثر الصناعة بظاهرة التوسع في دور العرض السينمائي والتحسين المذهل الذي طرأ على معدات الصوت والتصوير وماكينات العرض،
أو تصميمات الدعاية، وثقافة التلقي التي خرجت بمشاهد السينما الجديد من محراب دار العرض الواحدة المهيبة إلى زحام «المول»
ومطاردته بإلحاح التسوق والتشتت الإعلاني، والاختيارات الجاهزة والسهلة المستمدة من زمن «الأوبشن» حسب لغة الكومبيوتر.
اللحظة التاريخية كلها كانت ضد القديم المعلوم الذي استنفد أغراضه،
ومع الجديد المجهول الذي لا نعرف له هدفا سوى التغيير والتجديد وهو المستمر معنا حتى الآن وتجاوز مظاهر دور العرض إلى صور وبنية المنصات الإلكترونية،
وبالطبع لابد أن يكون الجديد مبهرا ومغريا،
بصرف النظر عن أهدافه وقيمته الحقيقية، فلا مكان للأفكار (الأيديولوجيا) كما عرفنا، لأن الصورة أصبحت هي الأساس،
ولا مكان للمضمون لأن الشكل أصبح هو «السيد» وهو «الرسالة المبتغاة»،
ولا مكان للوطن بعد أن أصبح «الكون هو الكينونة»،
وبعد أن أصبحت «العولمة هي العالم»، وتلاشت الحدود، وتحطمت الأنساق، وانفجرت البنى، وماتت السرديات الكبرى، وتاهت المعاني،
وأصبحنا نعيش في زمن الاجتزاء و»الاسكتش» والقصاصات المبعثرة.

وش-في-وش
وش-في-وش

بعد الفراغ.. شغف

هذا المدخل الطويل نوعا ما قد نستدل منه أن صناعة الأفلام الكوميدية عانت ولم تزل من فراغ درامي منذ أعوام عدة،
حيث ارتكزت على حركات شكلية وإفيهات مملة وساذجة في أعمال أغلبها سطحية،
ومن هنا فإن ظهور فيلم مثل «وش في وش» يتكئ على التفاصيل الإنسانية والحياتية والاختلافات الثقافية والاجتماعية في مجتمعنا بشكل كوميدي ولغة سينمائية ممتعة،
لا يمكن أن نتجاهله ونتركه دون تأمل، صحيح أنه ليس فتحا في السينما الكوميدية أو انطلاقة لمرحلة جديدة أو إبهارا يدل على إنتاج باهظ،
لكنه فيلم حقيقي يخوض في موضوع واقعي مترع بالصدق والسخرية في ذات الوقت، المفارقة الدرامية التي تصنع الضحكة وتكشف واقعنا الهزلي عن آخره من خلال أحداث تجري في ليلة واحدة ومكان واحد..
زوج وزوجة مع أسرتيهما الكبيرتين داخل بيت الزوجية يتأجج الحدث بهم جميعا،
بينما يتابعهم الجمهور بشغف وضحك متواصل دون ضجر.

إحنا من مصر يا شيماء.. همه من إيجيبت
بعد موسم سينمائي خاب فيه الأمل، وتأكد أن الواقع المتأزّم للسينما المصرية نابع من بؤس الكتابة،
وهو أمر يعبر عن مأزق حقيقي في مواجهة الفراغ شبه المطلق في الحياة الثقافية والفكرية، يأتي هذا الفيلم كما لو كان وعدا في صحراء الإبداع التي نعيش فيها، ما أقوله ليس شطحة،
وإن كان لا بأس من الشطحات لعلها تأخذ بيدنا وتمنحنا قراءة للتحولات الحاصلة في ثقافتنا إجمالا.. المثير أن هذا ما يصنعه ببساطة فيلم تم تصنيفه على أنه «لايت كوميدي»،
يطرح أزمة عائلية تمتد لتعبر عن اضطراب مجتمع بأكمله، مشكلة بين زوجين تستفحل بتدخل الأهل والأصدقاء وتحتدم أكثر بتأثير الـ»سوشيال ميديا»،
هنا نتلمس مخاوف عدة تلخص الأزمة الوجودية لبشر ضائعين في حياتهم،
رغم أن مظهرهم الخارجي لا يدل على ذلك، وتتسع لتأخذ الشكل الطبقي الاجتماعي، فالزوجان شريف وداليا (محمد ممدوح، أمينة خليل) بأسرتيهما غير السائق كحول (محمود الليثي) الذي يخبر الخادمة شيماء (دنيا سامي) بلهجة العارف ببواطن الأمور: «إحنا من مصر يا شيماء.. همه من إيجيبت»،
غير الجار (علاء زينهم) والحداد (مصطفى غريب) والضابط (عمر مصطفى متولي)،
وغير لطفي لبيب وخالد الصاوي، المحاميين اللذين يظهران كضيفي شرف بشكل تهكمي
ويرافقهما السؤال: «هي محكمة زنانيري كام باب؟»،
زنانيري هى أول محكمة للأحوال الشخصية فى مصر، مختصة بالأسرة ونظر دعاوى الأحوال الشخصية، القضايا والمنازعات المتعلقة بالزواج والطلاق والنفقات وغيرها.
تندلع شرارة الخلاف بين الزوجين حول الانتقال إلى شقة جديدة،
الزوجة تصرخ: «مش المفروض إنت الراجل!!» والزوج يصيح: «ماليش كلمة في بيتي هيبقى ليا كلمة على الصنايعية»،
تتفاقم المشكلة بحضور الأهل والأصدقاء، الجميع في الشقة التي ينكسر قفل بابها الرقمي، فيضطرون لقضاء الليلة معا، الفكرة تبدو بسيطة، لكنها فعليا صعبة..
التصوير أغلبه في مكان واحد والحدث كما قلنا يدور في ليلة واحدة،
نوعية درامية صعبة تتطلب تركيزا في التصوير وبراعة في كتابة سيناريو متماسك ومكثف وإيقاع سريع،
وهو ما نجح فيه وليد الحلفاوي مؤلفا ومخرجا في أولى تجاربه السينمائية بعد مسلسلين: «سوبر ميرو» (2019)، «في بيتنا روبوت»(2021)،
ليقدم هنا قصة أخرى عصرية شاركه شادي الرملي وحسين نيازي في كتابة السيناريو،
تأخذنا إلى دراما عائلية متفهمة لنفسية البشر،
كل حسب شخصيته وحالته دون توجيه اللوم أو الاتهامات لأحد معين،
أو تصوير الشخصيات على أنها مشوهة وإنما واقعية كما في الحياة، وإذا كان هناك نقد فهو لحال المجتمع إجمالا، بينما هنا الجميع محتجز، حبيس حالة فرضت عليهم.
هذا الاحتجاز يعبر عن فكرة الزواج والحصار العائلي والحرب الكلامية،
وفي خضم هذه الفوضى العنيفة تتفجر الكوميديا من الموقف،
بعبارات سريعة وذكية حتى أنها تكاد تبدو ارتجالية ولدت من رحم الحالة القهرية والتهور وعدم الفطنة،
إضافة إلى الفوارق بين الشخصيات والمقارنات بين القوة والضعف.

تحديات
إذن، الكوميديا هنا هي نوع تهكمي،
لكنها لا تستخدم كسلاح للتقويم أو تقديم النصائح الخاملة أو حتى النشطة، إنما تكشف بعضا من الضغط الاجتماعي بأسلوب تشويقي وترفيهي له دلالته،
ولأن معظم أحداث الفيلم في الشقة (مكان واحد)،
فإن التصوير بالتأكيد تطلب حلولا خاصة لاختيار الزوايا وتكوين المشاهد بسلاسة ودون تسرب أي إحساس بالملل، وهي مسألة يدرك صعوبتها المختصون.
بقدر ما كان التحدي كبيرا على مستوى التصوير،
واستطاع الحلفاوي مع مدير التصوير مروان صابر استغلال زوايا المكان ليصنع كادراته،
وبقدر ما أسهم مونتاج مينا فهيم الجيد في عمل توازن بين اللقطات الخارجية والداخلية والحفاظ على تدفق الأحداث بإيقاع سريع، وبقدر ما استوعبت موسيقى خالد الكمار حالة الفيلم بلحن يتدرج في نغماته،
من بطء تسنده الوتريات، إلى التجلى في صياغة الغضب، الحب..
بقدر كل ذلك كانت هناك تحديات أخرى في عنصر التمثيل،
مباراة جمعت فريقا متحمسا ولديه طزاجة المنافسة ونزعة اللطافة..
صحيح أن كثيرا من الممثلين محسوبون على اللون الكوميدي،
لكن الحضور خفيف الظل انسحب على الجميع، ما جعل المشاهدة مبهجة ومتابعة الممثلين فيها نوع من التماهي والتواصل يستكمل كوميديا الفيلم الاجتماعية الإنسانية التي تجلب المتعة والتأمل وكذلك الضحكة.
شيء أشبه بأغنية الفيلم التي قدمها دياب من كلمات فلبينو أحمد وألحان إيهاب عبد الواحد: «كبرتوا الموضوع يا جماعة/ مع إنه هيخلص وش في وش»

مقالات ذات صلة

- Advertisment -

الأكثر شهرة