جوى للانتاج الفني
الرئيسيةنقد تلفزيونيهل يمكن للدراما الترويج للنسوية بنبرة هامسة؟.. ليه لأ

هل يمكن للدراما الترويج للنسوية بنبرة هامسة؟.. ليه لأ

ديانا جبور

قبل فترة قصيرة اجتمعت بسيدة أوربية تشغل منصبا رفيعا وتتبنى النسوية قلبا وقالبا.. وأرجو التوقف عند “قالبا” لأنها تكاد تبدو (سي برعي)، لذلك عندما رأت شريكاتها العربيات المرتدات الخائنات لقضايا المرأة وقد تجملن وتعطرن وتزين كاد أن يغمى عليها من هول الصدمة وحجم الفجيعة فما كان منها إلا أن انبرت لتغسيل زميلتها على مبدأ اسمعي يا جارة وافهمي يا كنة، لأن المسكينة زورت الحقيقة وخانت القضية عندما حضرت وقد غطت الشيب بصبغة جعلتها تبدو أصغر من عمرها.. بل إنها زججت حواجبها وحمرت شفاهها.. وكل ذلك مفردات تقدم البرهان القاطع والدليل الذي (ما يخرش المية) على أن جرم الأنوثة متحقق الأركان.. أصارحكم أنني وجدت المنطق وجها آخر لخطاب التحريم والتكفير الذي يطابق بين شكل محدد للمرأة وبين التزامها وسماتها الفكرية والأخلاقية.

هذا يكاد يكون عيبا يعتور الإيديولوجيات كافة، ومعها الأعمال الفنية التي لا تكتفي بتبني فكر معين، وإنما تلتزم الترويج له وإدانة وتجريم مخالفيه.

كل ما تقدم عيوب نجا منها وتجاوزها مسلسل (ليه لأ) في موسمه الثالث مع فريق عمل نسوي بامتياز، بدءا من المخرجة نادين خان، وكاتبات النص بإشراف مريم نعوم وبطولة نيللي كريم، الممثلة التي يكاد يكون ظهورها في أي عمل مرتبطاً بمسؤولية اجتماعية من نوع ما.

لعل إحدى أجمل وأهم رسائل العمل حب صانعاته وصناعه لمصر وللمصريين، ودفاعهم عن الطبقة المتوسطة التي تقوم عليها الحضارات الأنيقة غير الباذخة أو المسرفة، وغير المدقعة بطبيعة الحال.. لذلك كان أبطاله مدرسين، أطباء، مهندسين، فنانين.. دون فقر أسود أو غنى فاحش، بل إعلاء لقيمة العمل مع تهذيب وأناقة دفعتا بمخرجته إلى التصوير غالبا في أماكن طبيعية معتنى بها. كيف لا وهي ابنة محمد خان أحد فرسان ورواد الواقعية الجديدة في السينما المصرية.

يسجل للعمل أيضاً أنه يركل بعيداً كل الكليشيهات الاجتماعية والجمالية المستقرة في فنوننا وعلاقاتنا، ويقدم في الآن نفسه ردا أنيقا بليغا على حملات التنمر التي تتسلل إلى حيواتنا.. فياسمين بدينة لكنها تقطر عذوبة وجاذبية، تتحرك بثقة وتتقدم لاختبار مضيفة طيران وتقبل بناء على دماثتها وكفاءتها، كما أن أحدا من محيطها لم يطالبها أن تضبط وزنها على مقاييس جمال عارضات الأزياء.

ندى (حنين سعيد)، صديقتها التي ترغب بامتهان الفن سمراء بلون الشوكولا، لكن أحدا لا يضع العرق مشكلة أو عائقا أمام طموحها.. التنوع العرقي لم يأت دبوس زينة على نسيج لوني واحد ليكسر رتابته بهدف جمالي أو استعراضي، بل كان من صميم قماشة العمل والخيوط التي حاكته.. حيث تعددت وتنوعت الشخصيات المصرية الأصيلة المختلفة الألوان والأنماط.. كما الحال مع شخصية رئيسية كحمزة (أمير صلاح) وهذا انجاز يسجل لفريق الكتابة وللمخرجة.

(ليه لأ) لم يستكن لثوابت الدراما العربية الكسولة، فعندما نبدأ بشخصية ندلة لاسيما إن كان لرجل خوان بمواجهة زوجة وفية جميلة أفنت عمرها في تربية أبنائها، فإننا على الأغلب سننتهي معه بنفس الخانة الأخلاقية، خاصة إن كان لا يزل يعاني من سلوكيات هشة غير مسؤولة.. لكن تبني العمل سمة الغفران أتاحت للرجل كما للشحصيات الخطاءة الأخرى مراجعة ذاتها وإصلاح أخطائها.

ومما يسجل للعمل أنه وإن لم يدر ظهره للأفعال المتطرفة، لكنه تجنب عقابيلها المتطرفة فلا زوايا حادة فيما يخص ردود الافعال، لأن العمل ينحاز إلى الحياة وليس إلى المبالغات الميلودرامية.. فعندما يتورط ياسين (معتز هشام) ابن شيري (نيللي كريم) مع شلة تتعاطى الحشيش المضروب الذي يكاد يودي بحياة إحدى زميلاته، لايذهب العمل إلى إنزال القصاص الفوري، فكم من المرات نتعثر، لكن ذلك لا يعني أن نستقر في قعر الحفرة، طالما أن هناك من يحبنا ويقف إلى جوارنا..

كذا الحال عندما يفترق الحبيبان شيري وكريم (أحمد طارق)، كلاهما ستعبر به غيمة حزن في يومياته، لكنها لن تمنعه من استكمال شؤون الحياة ومعالجة شجونها.

غيمة ستمر بسرعة عندما تتأكد شيري أن أختها لن تحضر حفل خطبتها، لكنها لن تدع لهذ الغيمة أن تعكر فرحتها الأكبر فتنفض حزنها العابر وتحتفل بالمناسبة في لحظتها ثم تعاتب شقيقتها بعد فترة.

مع هذه التفاصيل الدقيقة المشغولة بعناية لا يعود مستغربا أن يكون العمل صناعة نسائية، بدءا من الفكرة وصولا إلى كاتبات السيناريو والحوار إلى المشرفة على ورشة الكتابة، وصولا إلى الإخراج..

لكن اللمسة النسوية لا تقتصر على تطريز الأطراف، بل تنطلق من التصميم ككل، فالحكاية تتأسس على حق شيري ببدء شراكة عاطفية جديدة مع كريم، لكن ابنها المراهق لن يتقبل فكرة أن تكون أمه في حضن رجل غريب.. سيبتزها ويعاقبها إلى أن يتمكن من إفشال زواجها المرتقب، متماهيا في ذلك مع أصحاب المواقف الذكورية، وقد يكونون بالمناسبة من النساء، كما الحال مع شقيقة شيري ووالدة كريم قبل أن تختبر مشاعر الحب وهي في أواخر ستينياتها.. أما أولئك الذين يعترفون بحق الإنسان بالتجربة فيقرون بحق المرأة بهوية لا تقتصر على الأمومة، بل تتجاوزها إلى العمل والحب.

الطريف أن كريم الذي كان يلوم ياسين لأنه يصادر حق أمه في أن تعيش حياتها يتعرض هو نفسه لاختبار مشابه مع والدته عندما تطلب إذنه كي تتزوج.. لكن الوعي يتغلب على الغريزة ويعترف رغم ممانعته الأولية أنه ليس بصاحب صلاحية كي يعطيها موافقته أو يمنع عنها هذا الحق..

أما النساء في العمل فهن أميل بالفطرة للاعتراف بحقوق المرأة، فها هي زوجة أبي ياسين تدافع عن ضرتها وتستغرب من زوجها أن يمنح لنفسه الحق بأسرة جديدة وينكره على طليقته.

الأمر نفسه تكرر مع شقيقة كريم التي تعاملت مع زواج أمها بألفة قبل أن تضع نفسها أمام اختبار الموازنة بين العاطفة والعقل.

في الأسلوبية، اعتمدت خان حركة كاميرا انسيابية فيها مهارة، لكن الأهم أنها منسجمة مع طبيعة موضوعها الهادئ حيث لا يدور الصراع بين أخيار وأشرار بل بين تجليات ومفاهيم حب وصواب..

الأمر نفسه ينسحب على إدارة الممثلين.. حيث نستطيع القول إن سمة عامة وحدت أداء الممثلين فكانوا يؤدون شخصياتهم بشغف لكن دون زعيق أو مبالغة في محاكاة للبيئة التي يمثلونها من جهة، وفي مواكبة لمدارس الأداء الحديثة من جهة ثانية.

الموسم الثالث من “ليه لأ” خطوة أكثر نضجا على المستوى الفني وحرارة على مستوى الموضوع من الموسمين الأول والثاني.. لكنه يبقى بكل أجزائه عملا ممتعا ومحترما في آن معا..

 معادلة صعبة. لكن ليه لأ؟

مقالات ذات صلة

- Advertisment -

الأكثر شهرة