بطرس غيث
قرقرة الماء في حوض البحرة الدمشقية؛ القطة التي تصول وتجول وتموء في أرجاء البيت بحرية تشي باعتيادها وتآلفها مع الحركة المستمرة للزوار القادمين والذاهبين؛
هسيس المساءات الهادئة في العاصمة القديمة: عناصر لا تغيب عن أجواء المنزل الدمشقي أو عن الأصوات التي تشكل عالمه السمعي، كما أنها لم تغب عن جاليري الفنان التشكيلي،الغني عن التعريف، مصطفى علي،
من استقبلنا بوجه رائق وحضور بشوش، تمهيداً للحفل الموسيقي الذي أحيته “حَبَق Band” أو فرقة “نور وعلا” (نور خوري وعلا محفوض) في الهواء الطلق لساحة الجاليري بتاريخ 18 آب 2023.
اختيار موفق لمكان العرض،
ناهيك عن توفر المشروبات الباردة خلال مدة الحفل الذي جاء بعد نهار حار في العاصمة السورية.
تصميم حيوي وجذاب لبوستر الحفل الذي نشر في وقت سابق على صفحة Gallery Mustafa Ali على Facebook؛
وتأثيث أنيق للآلات على الخشبة..
باختصار: تسويق وترويج لائقان للمناسبة لولا أنهما أوحيا بمحتوى أوعد وأغنى من الناحية الفنية (نقطة سنوضحها فيما سيأتي)، ناهيك عن الغموض الذي لفّ البوستر الإعلاني، فمن لا يعرف نور وعلا قد يجد صعوبة في استقراء تصميم اسميهما على صفحة البوستر.
عشرات الدقائق قبيل العرض، تخللتها موسيقى إلكترونية مسجلة ضمّت (ريمكسات) لأغانٍ معروفة (مثل “عصفور طلّ من الشباك” لمارسيل خليفة وأميمة الخليل) ذات صبغة إيقاعية وتأمليّة غالبة بالمجمل، بأسلوب الـ Techno “التكنو”،
بالإضافة لمشهد الآلات الإيقاعية المتعددة والمتنوعة على الخشبة مثل: طبلة (دربكة)، تبمورين (رق)، طار، كاخون ركّب إليه بدّال الـ Bassdrum، أجراس أنبوبية، صنج، ، بونجوس الإفريقية، وClassic Guitar والـUkleele اللتان استخدمتا لضرب الـChords بشكل أساسي،
بالإضافة لـShakers متنوعة وغيرها ربما؛ مقدمة مبشرة بوجبة دسمة وغنية من الإيقاعات المختلفة،
الأمر الذي لم يف به العرض،
فتشكيلة الآلات مثلاً لم تخدم التنوع على مستوى الإيقاعات والأساليب الموسيقية بقدر ما خدمت ـــ وبالحد الأدنى والضروري ــ توزيع الآلات المستخدمة في القطع المقدمة.
مع ذلك، لا يغيب عن بال الموسيقي الفرد مدى صعوبة التوفيق بين العزف والغناء في وقت واحد، كما مقدار ما يتطلبه نوع من الأداء كهذا من تدريب متواصل وشاق، وسنوات خبرة طويلة،
وتناسق سمعي حركي عالٍ، وفصل للحواس،
وهو ما تفانت فيه كل من نور وعلا قرابة الثلاث ساعات بابتسامات لم تفارق وجهيهما،
فما بالك بالعزف على آلتين والغناء في وقت واحد؟
(الأمر الذي فعلته نور أغلب مدة الحفل مستخدمة قدميها في الضرب على الآلات الإيقاعية كالكاخون المتصل ببدال الدرامز أو التمبورين، علاوة على الغناء والعزف على الجيتار).
سخاء ومجهود واضحان من نور وعلا يستحقان الإعجاب والاحترام،
خصوصاً في ظل الظروف العصيبة التي تمر بها البلاد،
لولا أن ذلك أتى على حساب التنوع والخصوصية الإيقاعيين للأغاني المختلفة المقدمة،
فمن المجحف مثلاً استخدام ذات الشكل الإيقاعي: “اللف” في كلتا الأغنيتين: “La vie en rose” و”من مفرق جاسم للصنمين”، أو انسحاب هذا الأخير على معظم القطع المقدمة، إن لم نقل كلها تقريباً، خيار صبغ فترة الحفل برتابة إيقاعية ربما كان من الممكن تفاديها.
أما بالنسبة لاختيارات الأغاني، فمن الصعب حصرها وتعدادها،
فمن حضر الحفل لا ريب أنه مرّ بأغانٍ لفيروز “الأوضة المنسية” ووديع الصافي “طلوا حبابنا” وزكي ناصيف “هلي يا سنابل” وأخرى من الفولكلور المحلي لمختلف المناطق والمحافظات السورية، وثالثة مغربية “أنا بعدا” و”عايشة” ورابعة من أغاني المسلسلات الكرتونية “روبن هود”
والأغاني البديلة كالميكس الذي تضمن أغانٍ لفرقة “مشروع ليلى” اللبنانية، ولا شك أنه استمتع باللهجة الفرنسية المتقنة لنور في “Je veux” لـZAZ، وغيرها، أو بأداء علا المشحون بالعاطفة.
تشكيلة واسعة ومتنوعة من الأغاني قُدِّمَت في المجمل بأسلوب الوصلات الغنائية المتلاحقة أو الميدلي أو الـMix،
الأمر الذي عكس مواهب وقدرات الفتاتين على أداء الأنواع الموسيقية المختلفة التي لبت معظم الأذواق،
فضلاً عن الغناء بلغات ولهجات مختلفة كالفرنسية والإنجليزية والمغربية بطريقة احترافية حافظت على روح الأصل،
لولا أن التشكيلة التي تفرعت في كل الاتجاهات،
موّهت الطابع الفني للحفل وشتتت وحدته، وجعلت منه أقرب للسهرة الموسيقية مع لفيف الأهل والأصدقاء الذين حضروا الحفل، منه إلى الحفل الموسيقي،
مع اعتبار غياب برنامج موسيقي واضح الشكل والمعالم.
مزج كثيف مع قدرة ملحوظة لنور وعلا على الأداء المتنوع لفترة طويلة،
بلغ الهدف في الكثير من الأحيان لا سيما في الوصلات التي تضمنت نوعاً أو أنواعاً موسيقية أو أغانٍ متقاربة في طبيعتها، وضيّعه في أحيان أخرى خصوصاً في الوصلات التي تخللتها أغانٍ شرقيّة،
إذ اتسمت بانتقالات مشوشة بين الغربي والشرقي ودخول متأخر للغناء في المزاج واللحن،
والتباس في المقام والطبقة في أغلب النقلات، مع غياب آلة شرقية،
ضمن تشكيلة الآلات، تخدم الغرض وتسند الفكرة؛ ثغرات عُوِّضت بدفء ورقة خامات أصوات نور وعلا وانسجامهما العالي وعفويتهما وخفة ظلهما في تدارك الهفوات وتفاعلهما المرح مع الحاضرين.
تناغم عميق وحقيقي بين الفتاتين؛ حيوية وبهجة لم تفارقهما طيلة الحفل رغم التعب وصعوبة الأداء في الحرارة المرتفعة، أداء صوتي يلامس الاحتراف بأسلوب خاص ومميز عنوانه الشغف والمتعة، حضور واثق ومعنويات مرتفعة يعرف صعوبة إدراكهما كل من يعتلي المسرح، فضلاً عن الكاريزما المحببة والإحساس الصادق والمخلص للحالة الإبداعية في حاضر العرض.
أمسية تشبه ليل دمشق، فرغم طولها لم تخل من الومضات اللامعة التي تألقت فيها نور وعلا في أدائهما الذي داعب مشاعر الحاضرين في درر منتقاة بعناية وذوق موسيقي مميز كرائعة الفنان التونسي الهادي الجويني “يلي عيونك” والتي سبق وأن طرحتها الفنانتان في Cover خاص على Youtube.
لـ “حَبَقْ Band” الناشئة، التي انطلقت منذ عدة سنوات وقدمت عروضاً عدة في Gallery Mustafa Ali وZawaya Gallery وطرحت عدة ميكسات وكوفرات وكليبات على مواقع التواصل الاجتماعي،
نتمنى كل النجاح والتوفيق والمزيد من التفرد، ولنور وعلا اللتين لا يخفى على أي مستمع إمكانياتهما الفنية الكبيرة، علاوةً على محاولاتهما وتجاربهما الطليعية والمثابرة،
مزيداً من الاحتراف والتفرد ووضوح الهوية، ولموسيقاهما الفرص والانتشار والمكانة الفريدة في حقل الموسيقى السورية، منتظرين إياهما في حفلات قادمة وأعمال خاصة بهما.