أليسا حسين
لن يكون الحديث عن نضال سيجري أمراً سهلاً، إذ لن تكون قادراً على اختيار كلمات يمكنها أن تنصف تلك الموهبة التيأمضى في صقلها سنوات كثيرة من حياته.
في حكاية ابن مدينة اللاذقية فصول كثيرة، فقد تنقّل على قطار موهبته بين محطات متنوعة في التلفزيون والمسرح والسينما، إلى أن شاء القدر أن يكتب نهاية مبكرة لهذه الحكاية الغنية.
حاضرٌ.. دائماً
يقول وليم سيجري عن أبيه الراحل إنه كان غائباً خلال حياته في المنزل، لكنه بقي حاضراً دائماً.
سنجد أننا نستطيع أن نستخدم الوصف ذاته، حين نريد أن نتحدث عن ابن “حي القلعة اللاذقاني”، نعلم جيداً أن جسد نضال
غاب عن هذه الدنيا، لكن روحه وإبداعه ما يزالان حاضرين، تراهما يرسمان البسمات هنا وهناك، ثم تدرك أن ما تركه هذا
الإنسان، سيبقى يرافقنا لسنوات إضافية طويلة، على شكل جرعات من الضحك.
عام 1986، وفي المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق، كانت البداية،
حين قرر سيجري أن يغادر اللاذقية إلى دمشق ليلحق حلمه وشغفه، وتخرّج تلميذ فواز الساجر وممدوح عدوان وأيمن زيدان، وغيرهم من كبار المسرحيين والفانين السوريين،
من قسم التمثيل عام”1991” لم ينتظر ذاك الشاب طويلاً حتى تبدأ رحلته،
وكانت المحطة الأولى منها في مسلسل”الشريد”عام 1992 (تأليف وإخراج غسان باخوس)،
ومنها كانت الانطلاقة لمسيرة خاض فيها ما يزيد عن 70 تجربة تلفزيونية متنوعة،
مثل: “هوى بحري 1997″، “سيرة آل جلالي 1999″، “أبناء القهر2002″، |زمن العار2009″.
يشير التقويم إلى عام 2006، ومسلسل”الانتظار” (تأليف حسن سامي يوسف ونجيب نصير، إخراج الليث حجو)،
حينما جسد مطلق الشر في شخصية “الشاويش”،
التي قدمت نضال بصورة مغايرة تماماً لما اعتاد عليه الجمهور،
وكما كان يتقن إضحاكنا، استطاع في هذه المرة أن يزرع مشاعر معاكسة، بخليط من الحقد والحزن،
بعد أن أنهى الشاويش حياة “عبود” (تيم حسن) بطعنة سكين غادرة، بين أكوام الخرابة في أحد أحياء دمشق العشوائية.
يقال إن من يمثل أدوار التراجيديا لا يمكنه تقديم أدوار الكوميديا.
نضال سيجري يدحض هذا الرأي من خلال “أسعد خرشوف” في مسلسل “ضيعة ضايعة” (تأليف ممدوح حمادة، إخراج الليث حجو)،
تلك الشخصية البسيطة الطيبة والمحبة، التي مثلت نقطة فارقة في الكوميديا السورية.
لم يكن أسعد فقط!
يطلق المخرج السوري الليث حجو على الشراكة التي جمعته بنضال سيجري وصف “شراكة عُمر” استمرت على مدار 13 عاماً،
وفي ذكرى وفاته الأخيرة، نشر حجو مقاطع عدة من كواليس تصوير ضيعة ضايعة،
ما كان لافتاً هو ضحكة سيجري التي طغت على هذه المقاطع ومواقفه الطريفة،
ليرفقها بعبارة: “لم يكن أسعد فقط! كانت ضحكة نضال التي لن تغيب”.
ولا شك أن هذه الشراكة كانت استثنائية، تشبههما إلى حد كبير، أثمرت أعمالاً استثنائية أيضاً،
إذ بدأت مع اللوحات في الجزء الأول من “بقعة ضوء” عام 2001،
وبقيت مع الجزأين الثاني والرابع، وعادت أيضاً للظهور في مسلسل “خلف القضبان” عام 2005.
لم تكن سنة 2006 كغيرها، وقدمت هذه الشراكة سيجري بشخصيتين متناقضتين تماماً،
الأولى كان فيها العاشق والحبيب في “أهل الغرام” بجزئه الأول،
أما الثانية فكان فيها الشاويش الشرير و”المشكلجي”في “الانتظار”.
وصلت شراكة حجو ـ سيجري إلى “أم الطنافس” (ضيعة ضايعة) في سنة 2008،
ونجحت بتقديم عمل سوري فريد وخاص لا ينسى، ليكون من أهم ما قدمته الكوميديا السورية حتى الآن.
وبسبب ما عاشه سيجري في سنواته الأخيرة، ظهر جانب آخر في هذه الشراكة،
كان على هيئة “تعاون فني” بينهما، تجسد
في أعمال تلفزيونية ثلاثة هي “الخربة”، “أرواح عارية”، “سنعود بعد قليل”.
لا استسلام للمرض
في سنواته الاخيرة، كان سيجري يخوض معركتين في الوقت ذاته، يحارب في الأولى مرضه، وفي الثانية فكرة الاستسلام له،
فكان دائماً ما يجد مصدراً جديداً للأمل وليحيى بالطريقة التي يحب،
على خشبة المسرح تارة، وأمام عدسات الكاميرات التلفزيونية والسينمائية تارة أخرى.
في الفترات الأخيرة قبل وفاته، فقد القدرة على الكلام بعد استئصال حنجرته،
فراحت النبرة العالية تتحول إلى نوع من الوشوشة والهمس،
هكذا حتى اختفى الصوت تماماً، لكنه لم يتوقف،
وقرر أن يقدم أدواراً صامتة في (الخربة 2011، بنات العيلة 2012، الأميمي (2012).
ويروي مقربون من نضال أنه فكر في طريقة جديدة ليعبر فيها، بعد أن خانته حنجرته،
إذ قرر أن يبدأ بكتابة السيناريو، لكن الموت كان أسرع، ورحل هذا المشروع الأخير برحيل سيجري.
على خشبة المسرح
ساعات وأيام كان يمضيها على تلك الرقعة الخشبية، بين بروفات وتدريب،
إذ يقول من أشرف على تدريبهم يوماً: “كنا نعرف موعد بداية البروفا لكن لم نكن نعرف متى تنتهي”.
الهوس بالتفاصيل والوصول إلى أعظم شكل يمكن أن تُقدم به أي شخصية كان من السمات التي ميّزت سيجري، وساعدته
على تقديم مسرحيات عدة، مثل “أرامل عالبسكليت” 2008، و”حمّام بغدادي”إخراج (جواد الأسدي).
يمكن أن نشبّه المسرح بالمعبد المفضل لنضال سيجري، ربما هذا ما دفعه لأن يكتب في وصيته أن يكون مشهده الأخير على
خشبة المسرح القومي باللاذقية، حيث سجي جثمانه قبل أن يوارى الثرى.
تجربة الإخراج
في سجلات الإبداع التي سطرها سيجري على مدار أكثر من 20 عاماً،
تجربة يتيمة واحدة في إخراج الأفلام السينمائية، كان يتمنى أن يكررها، إلا أن حصته من الحياة لم تسمح له بذلك.
وتدور حكاية فيلم “طعم الليمون”، (فكرة حاتم علي، وسيناريو رافي وهبة، إشراف ديانا جبور)،
داخل منزل عربي قديم، بريف دمشق، يأوي لاجئين فلسطينيين وسوريين من الجولان،وعراقيين ولبنانيين،
ليأتي خبر قدوم أنجلينا جولي وبراد بيت إلى دمشق،
لزيارة اللاجئين العراقيين، ويبدأ التحضير لاستقبالهما، بالتوازي مع الحديث عن أحلام وقصص قاطني هذا المنزل.
الحب هو الحل
الحب كان الوصفة السحرية لنضال سيجري، آمن أنه سيكون الخلاص، وسيكون الحل.. آمن بأن بلاده بحاجة كل أبنائها. لم
يؤيد إطلاق التصريحات السياسية،
إذ اعتبر أن الفنانين السوريين كانوا أول من اهتزت صورتهم في أذهان الناس بفعل تصريحاتهم المتضاربة، لكنه لم يتحمل أن يقف بعيداً كمتفرج يراقب ما يحصل فقط،
بل حاول ودعا منذ بداية الأحداث من خلال مبادرات عدة إلى المصالحة الشعبية.
في 11 تموز 2013، رحل نضال متألماً بسبب الوضع في سوريا.
كانت الأزمة في أوجها، ومع ذلك فقد استطاع، دون أي فعل أو كلمة،
أن يجعل الأطراف المنقسمة والمتنازعة تجمع على موقف واحد: الشعور بالخسارة الفادحة عند موته.