فضاءات جديدة.. من الابداع إلى التسويق
أثار بيان تأجيل حفل فرقة “جدل” على صفحة J&J (الشركة المتعهدة للحفلة) على موقع Facebook، قبل يوم من الموعد المحدد، موجة من الجدل والتعليقات التي تراوحت بين الاستياء، خصوصاً ممن أتوا من مختلف المحافظات السورية لمشاهدة الفرقة الأردنية في العاصمة دمشق، وبين الاستحسان ممن وجدوا في تأجيل الحفل (الذي كان مقرراً في 1/ تموز، آخر أيام عيد الأضحى المبارك، على أرض مدينة المعارض القديمة) فرصةً ثانية لحجز بطاقات حضور فاتت عليهم في زحمة انشغالهم بالأعياد والالتزامات والامتحانات الجامعية.
وكتبت إحدى المعلقات على البيان مازحةً: “يا شباب والله الشغلة ما فيا كوميتمنت ولا شي هي كم أغنية بتغنوها ومنخليكن تروحوا شبكن!” في إشارة منها لإحدى أغاني الفرقة “أنا بخاف من الكوميتمينت” (commitment = التزام).
ويُذكر لإدارة الحفل J&J تأكيدهم في بيانٍ آخر على تحملهم كامل المسؤولية بخصوص التأجيل، ناهيك عن تنظيمهم لحفلين، شهدا إقبالاً ملفتاً، لفرقة “أوتوستراد” الأردنية، في 22 و23 نيسان المنصرم، على مسرح دمر المكشوف.
تخبرنا إحدى الفتيات ممن حضرنَ الحفل الأول لـ “أوتوستراد” والتي علمت به عن طريق موقع Instagram إنها لم تتردد في حجز بطاقة للفرقة التي طالما رافقتها أغانيها مثل: “راحت ياخال” و”سافر” و”أنا بكرا معطل” و”أركض عالجيم” في سنواتها الجامعية الأولى، واصفة الحفل بالرائع؛ قرابة الساعة والنصف من التفاعل الحي بين الباند التي أدت أداء احترافياً بدا مطابقاً من حيث الجودة لتسجيلات الاستديو، وبين جمهور متحمس، معظمه من الشبان والشابات الذين تتراوح أعمارهم بين الـ16 والـ40، ظلّوا واقفين مدة الحفل يرددون الأغاني عن ظهر قلب!
تركيبة حديثة على الساحة الموسيقية في سوريا تستوقفنا: فضاءات بديلة عدة تأخذ حيزاً ودوراً في الحركة الموسيقية، بدءاً بالأغنية البديلة، ذهاباً لتنظيم الحفل وتسويقه عبر شركة خاصة ناشئة (Jamil & Jawa) انتقالاً للإعلان على صفحات الإعلام البديل (السوشال ميديا) مروراً بتوزيع البطاقات في كافيتريات شبابية مثل: زرياب، وkaracaz وFlow space وغيرها، وانتهاءً بالعرض على مسرح مكشوف، يتيح هامشاً للجمهور للتفاعل والغناء والتصفيق والحركة، بعيداً عن الدور والمراكز الثقافية الرسمية التي ترتبط ببروتوكولات معينة.
إقبال ملفت على هذا النوع الموسيقى يذهب بنا لإلقاء نظرة على الموسيقى البديلة وعلاقتها بالحاضر والمجتمع.
فقد نشأت هذه الأخيرة في العالم الغربي على مدار ثلاثة عقود امتدت من أواخر السبعينات إلى تسعينات القرن الماضي، مكتنفة مجموعة واسعة من الأنواع والأساليب الموسيقية كالـindie – rock (الروك المستقل) والـShoegaze والـ Post-punk والـElectronic وغيرها، والتي تطورت خارج حقل الموسيقى الشعبية (موسيقى الـ Pop) كرد فعل على الطابع التجاري الملاصق لهذه الأخيرة، عاكسة رغبة صناعها بشيء مختلف، فتميزت بعدة خصائص وسمت مجمل موسيقاهم كالأصوات والكلمات والجو العام والشرط الإنتاجي، ولعل أهم هذه الخصائص هي عدم التقليد أو كسر التقليد ورفض الثقافة السائدة؛ العاطفة الشديدة كالقلق والاغتراب والتمرد؛ التعليق على الأوضاع الاجتماعية والسياسية كالظلم وعدم المساواة؛ التجريب بالأصوات والآلات والأنماط المختلفة؛ الاستقلالية أو DIY اختصار لـ Do it your self أي “افعلها بنفسك!”، والتي تعني إنشاء وتوزيع الموسيقى بعيداً عن شركات التسجيل الكبرى والكيانات التجارية. نلاحظ مثلاً حرص “أوتوتستراد” على توضيح الطابع المستقل لفرقتهم في النبذة المختصرة عنها على صفحتهم الرسمية Autostrad في Facebook:
AUTOSTRAD is a Jordanian Indie band formed in 2007
والتي تعني: أوتوستراد هي فرقة أردنية مستقلة تم تشكيلها في عام 2007. (indie هو اختصار لكلمةـ independent الإنكليزية التي تعني مستقل).
وجدير بالذكر، إن الفرق الموسيقية المستقلة، العربية، بما فيها السورية، باتت ظاهرة متنامية ومألوفة ولها جمهورها الواسع في العقود والسنوات الأخيرة، والأمثلة عديدة كـ “أدونيس” و”مشروع ليلى”، و”كلنا سوا” و”السبعة وأربعين” و”Arnabeat” و”المربع” و”طرباند” وغيرهم، ممن اتسمت أعمالهم بأسلوب مختلف عن أسلوب الأغاني الشعبية الشائعة (أو ما يمكن أن نسميه بالبوب العربي) سواء من الناحية الموسيقية من خلال المزج بين الأنواع الموسيقية المعاصرة؛ أو من ناحية الكلمات البسيطة المستمدة من مفردات الواقع اليومي المعاش، والتي تعالج مواقف حياتية وقضايا اجتماعية إشكالية.
ولكن هل يمكننا تصنيف كل فرقة ناشئة ضمن إطار الموسيقى البديلة؟ وهل تقتصر الموسيقى البديلة على الفرق الموسيقية المستقلة أم أنها تسمية باتت تطلق كيفما اتفق على هذه الفرق بسبب تغريدها خارج سرب شركات الإنتاج الضخمة وثقافة النجم الفرد؟ وإلى أي مدى يمكننا الحديث عن موسيقى بديلة عربية اليوم؟
يلاحظ يزن خويص، وهو أكاديمي وجيتاريست تخصص في التحليل والتوزيع الموسيقي، إن شبابنا في هذه الأيام باتوا يطلقون مسمى الموسيقى البديلة على أي شيء يسمعونه تقريباً؛ بينما يرى أنها ترتبط إلى حد كبير، من الناحية الموسيقية، بمفاهيم الاستبدال والمحاكاة وخصوصاً بمفهوم التجريب إذ يصفها “بموسيقى تحت التجريب”، عائداً بنا إلى عبد الوهاب الذي خرج عن نظام التأليف الشرقي محاكياً الأساليب الغربية، وأدخل آلتي الأورغ والجيتار في مؤلفاته، ناهيك عن أنه جلب عناصر وأدوات قوية من الموسيقى اللاتينية واستخدمها في الموسيقى الشرقية وعرضها برؤية جديدة، كما أشار إلى زياد الرحباني الذي حافظ على الطابع والأسلوب الشرقيين في موسيقى أغنية “سلملي عليه” مستبدلاً الكلمات التقليدية التي ترافق هذا النمط الموسيقي عادةً، بأخرى أبسط وأقل تكلفاً وأقرب للواقع اليومي المعاش، ويرى خويص أن مصطلح الموسيقى البديلة رغم مرونته واتساعه ضمن مشهد الموسيقى المعاصرة اليوم إلا أنه يمكن أن يشير إلى موسيقى بديلة عن موسيقى سائدة في مرحلة ما، فما يبدو بديلاً اليوم قد يغدو تقليدياً وجزءاً من الثقافة السائدة غداً، ضارباً مثالاً هو فرقة “كلنا سوا” السورية التي تأسست على يد إياد الريماوي ومجموعة من الأصدقاء في 1995 والتي أصبحت اليوم، بعد أكثر من عشر سنوات على توقفها وتفرق أعضائها، جزءاً من الموسيقى الشعبية ومن ثقافة المستمعين، منوهاً لدور الحرب على الصعيد السوري، بالإضافة للعولمة وثورة التكنولوجيا والاتصالات على الصعيدين العربي والعالمي، في إضعاف الإنتاج الموسيقي التقليدي المحلي الهش أساساً، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، في تسهيل اتجاه الناس للموسيقى البديلة استماعاً وصناعةً.
وفي سياقٍ متصل، ينوّه الموسيقي المقيم حالياً في المملكة المتحدة، عبر مكالمة أجريناها معه، إلى أن الموسيقى العربية، منذ بداية ظهورها وانتشارها خلال القرن العشرين، تمخضت عن تيارين رئيسيين: تيار تراثي ممتد من موسيقى القرون السالفة، وآخر حديث ممتد إلى يومنا هذا، اتسم في معظمه بالطابع البكائي وبتناوله للمواضيع الثابتة كالحب والحنين إلى الوطن والحياة في الأرياف، إذ لم نشهد تجديداً حقيقياً نابعاً من طبيعة الموسيقى الشرقية وخصوصيتها، بقدر ما شهدنا تبديلاً خجولاً وتدريجياً لبعض العناصر وتقليداً لأنماط التأليف الآتية من الخارج، لافتاً إلى أن فهمنا للآلات الشرقية ما زال محدوداً حتى يومنا هذا، مختتماً حديثه بالقول إنه علينا أن نرى بتجرد أين نقف اليوم لكي نستطيع أن نخطو خطوة للأمام.