جوى للانتاج الفني
الرئيسيةعلى الخشبة"من أجل الجنة. إيكاروس" الرحلة من السجن إلى الحرية.. إلى الموت

“من أجل الجنة. إيكاروس” الرحلة من السجن إلى الحرية.. إلى الموت

د. ميسون علي

ضمن فعاليات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي في دورته الثلاثين تم تقديم عرض “من أجل الجنة ـ إيكاروس” على مسرح الفلكي (الجامعة الأمريكية) ضمن عروض المسابقة الرسمية، وحاز جائزتي أفضل عرض وأفضل ممثل. النص للكاتب الألماني بينديكت نويشتاين، وهو مأخوذ عن الأسطورة الإغريقية “إيكاروس”، ترجمة وإعداد محمد الهجرسي إخراج أحمد الألفي.

الأسطورة الإغريقية

تحكي الأسطورة عن إيكاروس إبن ديدالوس أشهر مهندسي أثينا القديمة، الذي قام بطلب من الملك مينوس بتشييد المتاهة للتخلص من المينوتور المتوحش، وبعد خلاف بين ديدالوس والملك، يأمر الأخير بأسره مع ابنه إيكاروس في المتاهة المرتفعة المطلة على البحر، وأن يظلا هناك حتى الموت، ولم تكن هناك وسيلة للهروب سوى الطيران، وهنا أخذ ديدالوس يسعى للحصول على ريش الطيور والشمع بخداع أحد الحراس، وصنع أجنحة كبيرة ليبدأ رحلة الهروب مع ابنه، وأوصاه قبل بدء الرحلة بألا يحلق عالياً قرب الشمس حتى لا تذيب أشعتها الشمع الذي يثبت جناحيه، وألا ينخفض في طيرانه قرب البحر كي لا يتسبب رذاذ المياه في تجمد الشمع وتيبس الجناحين، وأن يظل دائماً في منطقة وسطى بين الشمس والبحر، لكن الفتى التواق إلى الحرية، نسي في غمرة انطلاقه كل ما نصحه به أبوه، وانساق وراء شعور المتعة بالارتفاع فوق الأرض والبشر، والاقتراب من الآلهة، وسرعان ما ذاب الشمع بفعل أشعة الشمس، وبدأ سقوط إيكاروس المروع على مرأى من أبيه.

العرض المسرحي

إيكاروس الفتى الذي حلق عالياً قرب الشمس، صاحب أشهر محاولة طيران وأول سقطة بشرية، تزخر محاولته بالمعاني والأفكار، التي تضرب في أعماق النفس البشرية، وتلامس معضلات الوجود الإنساني في كل زمان ومكان، يتمثل حضور “إيكاروس” كرمز وسؤال وربما كاختيار ومصير أيضاً، ومثال يتطلع إليه كل فرد، ليستخلص ما شاء من العبر والحكم والأمور التي يمكن التعلم منها، والأخطاء التي ينبغي تجنب الوقوع فيها خلال وجود الإنسان على الأرض، أو أثناء محاولات الطيران الرمزية التي يقوم بها.

 الجمهور مدعو لدخول المتاهة، يرافق الشخصيات في رحلة البحث عن طريق للخروج، رحلة مكافحة اليأس وفقدان الأمل. لماذا سجنا هنا؟ هل سنجد طريق الخروج حقاً؟ هل سأرى أمي مرة أخرى؟ أسئلة تراود إيكاروس طوال الوقت. إلى أن خرج من المتاهة ليعيش كل منهما الحرية والسعادة للحظات خلدها التاريخ.

 في رحلة إيكاروس القصيرة من السجن إلى الحرية الى الموت، هناك الكثير من الخيارات، من يختار الطيران والتحليق عالياً قرب الشمس حتى لو كان الثمن حياته، وسيرغب أن يستمتع بالعلو والارتفاع رغم يقينه من حتمية السقوط، وهناك من يفضل البقاء على الأرض خوفاً من الطيران وعواقب الارتفاع تجنباً للموت المحقق، وهناك من سيخوض مغامرة الطيران لكنه سيحكم العقل ولن يسمح للأهواء وشطحات الأنا أن تقضي عليه، بل سيقنع بالقليل من الارتفاع الذي يمكنه من النجاح لكنه سيبقى قريباً من الأرض، كي يستطيع العودة إليها بسهولة وثبات، أو كي لا يكون السقوط مروعاً.

من أجل الجنة ـ إيكاروس
من أجل الجنة ـ إيكاروس

مسرحة السرد

ينطلق العرض من البنية السردية للأسطورة القائمة على تعاقب المراحل السردية والعلاقات بين مكونات كل مرحلة، ليمسرح السرد ويبني درامياً المفاصل الرئيسية التي تكون العرض مثل البطل والمأساوية والتوتر الدرامي وتجلياته في بناء الحدث والتناوب بين المقاطع المغناة والمحكية. يمثل كل من ديدالوس وإيكاروس الأب والابن، وأضاف الكاتب والمخرج التفاصيل المتعلقة بشخصية الأم والمنزل، وهذا ما لم يرد في الأسطورة، لتكون الرؤية أشمل وللتركيز على الكيان الأسري ككل.

واتبع العرض أسلوب السرد المتناسب مع الأصل الأسطوري، معتمداً منظور “بريشت” للحكاية، واعتبار وجودها بشكلها التقليدي ليس أمراً مفروغاً منه. لا تقدم الحكاية بشكل متصاعد، بل بشكل متقطع، إذ يتخلل سردها وقفات وأغنيات وخطاب يعلق عليها، والمتفرج يقوم بعملية بناء للحكاية، حين يربط ذهنياً بين عناصرها ويطابقها مع الواقع. يتناوب الأب والابن على سرد قصتهما للجمهور، ويبدأ العرض بجملة “يمين ولا شمال؟”، فمن منا لم يشعر يوماً أنه في داخل متاهة كبيرة تدعى الحياة، يحاول مراراً وتكراراً البحث عن المخرج ولا يجده، ويسأل نفسه هل أتجه يميناً أم شمالاً؟

الآباء والأبناء

يطرح العرض إشكالية العلاقة بين الآباء والأبناء من خلال عدة أوجه، منها ضرورة سماع الأبناء لنصائح آبائهم كي لا يتعرضوا للخطر، وكيف أن الآباء يسيطرون على أبنائهم ويحدون من خيالهم وطاقتهم، لأنهم يعتبرون أنفسهم الأوصياء عليهم، وأن من حق الأبناء أن يحلموا حتى وإن أخذهم الحلم إلى الهلاك، ومن حقهم أن يجربوا وأن يخطئوا ليتمكنوا من التعلم. وعلى المستوى الفلسفي يمكن تأويل وجود الأب والابن في المتاهة معاً إلى أن الآباء والأجيال السابقة عموماً هم في نفس متاهة الحياة، لكن الفارق أن الآباء يأخذون وضع المسيطر وقائد رحلة البحث عن المخرج. ويتجلى الصراع  بين السلطة الأبوية والأبناء، ويتخلله لحظات حميمية، وإن كان الأب لا يعبر عن عواطفه، فهو حين يخاف ويظن أنه فقد إيكاروس في المتاهة يصفعه، وكأن رد الفعل القاسي من الأب هو دلالة الحب، وكما لو كان على الأبناء في كل مرة أن يقدروا سوء تعبير الآباء.

يبث الأب فكرة وجود الأمل وزواله، أمل الخروج من المتاهة، وحين يشعر باقتراب الموت يقول “كيف أموت قبل أن أخرجه من المتاهة”، والمفارقة أن إيكاروس ينجو من المتاهة، لكنه يموت نتيجة نسيانه لنصائح والده وانجرافه وراء مشاعر الغرور والعظمة.

من أجل الجنة ـ إيكاروس
من أجل الجنة ـ إيكاروس

جماليات العرض

رغم بساطة الحكاية، إلا أن المخرج أكسبها جماليات فنية عالية أبرزها تحلق الجمهور حول العرض، ليكون التمثيل داخل ذلك التشكيل، وخلق حالة من التشابك والتفاعل بين العرض ومتلقيه، ليؤكد ارتباط ما هو مطروح بالمتلقي سواء كان من جيل الآباء أو الأبناء، والمزج بين الغناء والأداء، عبر استخدام الأغاني (كتابة أمار مصطفى وألحان ماريو مرقص) كجزء من البناء الدرامي للعرض وللتخفيف من مأساوية الحدث، وفي الأداء هناك التنقل بين شخصيات الحكاية التي يحكيها الأب لابنه، وبين واقع الحدث كإثنين تائهين في متاهة لا يستطيعان الخروج منها، رغم أنها من بناء الأب نفسه! وقد تخطى أداء الممثلين نمطية الشخصيات في الأسطورة، التي تفتقر إلى ما هو خاص وفردي وتتمتع بصفات محددة تطرح في عموميتها، وتفتقر إلى الكثافة النفسية. الأداء المتميز للأب (خالد رافت) كإنسان خائف على ابنه، وخائف من الفشل في القدرة على الخروج من المتاهة، ودائم الانشغال بالبحث عن طريقة تحقق لهما النجاح، وفي الوقت نفسه الرغبة في تحقيق صورة الأب أمام ابنه مع اعترافه بالفشل في القيام بدور الأم. أما الابن (نادر محسن) بشخصيته المركبة، فهو يرغب في الالتزام  بنصائح والده، كما أنه يطالب بعدة أمور مستغلاً ضعف الأب لتحقيقها، ولم يتوان عن إثارة الشعور بالذنب لدى أبيه، من وقت لآخر لأنه هو من قام ببناء هذه المتاهة، وحديثه الدائم عن أمه ومقارنتها بالأب، وفيما لو كانت مكان الأب ماذا تفعل.

أبرز الأداء المتناوب بين السرد والفعل سمات الشخصيات متعددة الجوانب، خاصة في لحظات الكوميديا النابعة من الأداء “التراجيكوميدي”، في تقديم حكاية غير تقليدية تمزج بين الواقعي والفانتازي، وتؤكد راهنية الأسطورة التي يرى فرويد أنها “التعبير الرمزي عن رغبات غير واعية لمجتمع بأكمله”. ويؤكد عالم الأنتروبولوجيا كلود ليفي ستروس أن “الأسطورة تحكي دائماً حوادث ماضية حصلت قبل خلق العالم أو في العصور الأولى له، لكن القيمة الداخلية التي تعطى للأساطير تتأتى من أن هذه الحوادث تشكل بنية دائمة تعبر عن الماضي والحاضر والمستقبل”.

من أجل الجنة ـ إيكاروس
من أجل الجنة ـ إيكاروس

الفضاء اللعبي

أعاد العرض للمسرح جوهره اللعبي، الفضاء المسرحي يرسمه الممثل بجسده وحركته وصوته في حيز اللعب، “سينوغرافيا متحركة” كما يقول بيتر بروك. هذا الفضاء اللعبي المتحرك سريع التغير لا يتحدد بحدود، على العكس من العناصر الثابتة على الخشبة مثل الديكور، وبسبب حركيته ومرونته كان قابلاً لاستيعاب أية إضافات جديدة، المتاهة التي سجنت فيها الشخصيات هي الكراسي التي يجلس عليها الجمهور، على شكل حلقات دائرية، فإذا كانت المتاهة عبارة عن بناء جدران وممرات كما طلب الملك مينوس، فالعرض يتخطى جدران المسرح التقليدي، ويستغني عن مسرح العلبة الإيطالية والفرجة القائمة على الإيهام، ويجعل الجمهور نفسه هو المتاهة، هو الأب كقيد لإيكاروس كي لا يبتعد عنه. ويتداخل حيز الفرجة وحيز الأداء، ويأخذ العرض طابعاً ملحمياً يجمع بين عناصر المسرح والرقص والغناء والأداء الحركي، فتنوع أساليب الخطاب وتعدد مصادر المعلومات التي تعطى للمتفرج يؤدي إلى التغريب. أما الإضاءة غير التقليدية (تصميم المخرج) فكانت منحازة إلى اللونين الأزرق والأحمر، للتعبير عن مشاعر الدفء والحميمية ولحظات الخوف والحب والصراع بين الأب والابن، واستخدام مؤثرات سمعية بصرية تمثل الريش والأجنحة وخلفية البحر وأمواجه، والقرص المضيء للشمس.

من أجل الجنة ـ إيكاروس
من أجل الجنة ـ إيكاروس

يناقش العرض عدة مفاهيم، السلطة والعائلة والحرية والموت، إلى جانب اقترابه من الواقع المعيش، واتصاله بجميع الأجيال، حيث يجد الجمهور نفسه محاطاً بالأسئلة منها ما هو مرتبط بدلالتها التي تمس حياة كل إنسان، والمتاهة عبرت بشدة عن الروتين والحياة والتكرار، ويأتي السؤال الأهم للعرض وهو “يمين ولا شمال؟” ما هو خيارك في درب حياتك؟ والمتاهة التي تعيش بداخلها؟ يقول ديدالوس “كي تستطيع الخروج من المتاهة، يجب أن تجد المخرج بنفسك، حتى وإن كان شاقاً. تيقن أن الجنة المقصودة هي التي ستنعم بها بعد إجاباتك أنت على تساؤلاتك وتصالحك مع ذاتك، لذا من أجل الجنة، يجب المرور بمتاهة الحياة”.

مقالات ذات صلة

- Advertisment -

الأكثر شهرة