جوى للانتاج الفني
الرئيسيةنقد تلفزيونيمسلسل نقطة انتهى ... جبريّة التغيير

مسلسل نقطة انتهى … جبريّة التغيير

 عامر فؤاد عامر

“مَنْ لطَمَكَ على خَدّكَ الأيْمنِ، فحَوِّلْ لَه الآخَرَ” – إنجيل متى (39:5)

يبدو أن لغة السيّد المسيح عن التسامح والألفة والمحبّة الخالصة بين أبناء بني البشر لن تجد لها مكاناً في حكاية مسلسل (نقطة انتهى)، وحتّى البريء والطيب كان له نصيبه الوافر من اللطمات هنا.

بدأت الحكاية بتورّط الدكتور فارس – عابد فهد بجريمة قتل غير مقصودة، والمجني عليه هو أخ زوجته الدكتورة كرمى – ندى أبو فرحات،
حيث أن بطل الحكاية صيدلاني طيّب ولا علاقة له بالمشاكل،
اقتحمه الحدث فأرعبه ليعمل على إخفاء معالم الجريمة، لكن هيهات أن تنتهي الحكاية هنا فسلسلة من الورطات كانت بانتظاره من قبل عين راقبته،
وصوّرت بالصدفة ما حدث عبر كاميرا الجوّال، وبدأ سعير التهديد والوعيد الذي حوّله بجبريّة من إنسان سوي إلى آخر قاتل ومجرم تتقاذفه العصابات المتناحرة،
ليخسر نفسه أوّلاً قبل أن يخسر الكثير من الأمور حوله مع عديد من اللطمات زجّت به في  السجن أخيراً.

(نقطة انتهى) من النوع الاجتماعي، يحتمل الجريمة لكنّه لا يصنّف على أنه عمل بوليسي، وقعت القصّة ومجرياتها في زمن يقارب الشهر باستثناء تفصيلات نهاية الحلقة الأخيرة الخاصة بسَجنِ د. فارس وخروجه من السِجن، وهنا تظهر لغة التحدّي والشجاعة عند صنّاع العمل، فعندما تنحصر أحداث قصّة في زمن قصير نسبيّاً، ولا بدّ من نحت ذلك في مسلسل مؤلّف من ثلاثين حلقة، فالمهمّة ستزداد صعوبة، وهنا كان يجب الاشتغال أكثر بالتذكير عبر عداد زمني أو تواريخ تظهر بما يتناسب مع بداية الحلقات مثلاً، إذ أن المتلقي لم تعلق بذاكرته مدّة حدث الحكاية، بل تغافل عنها أمام سؤال: لماذا منح العمل الشخصيّات وقتاً زائداً وهي تفكر، وتمارس أفعالها اليوميّة، والكاميرا تراقب، وتلتقط صمت تلك الشخصيّات؟!

اعتمدت أسلوبيّة (نقطة انتهى) على الولوج إلى العوالم الداخليّة للشخصيّات، عبر حضور متعمّد لحركة الكاميرا، فكانت حاضرة بقوّة وتعتني بتفاصيل تطوّر الشخصيّات والمصائر التي تندفع نحوها، لتشكّل هذه الحركة جزءاً متعمّداً من لغة العمل حيث أن الحوارات كانت مقتضبة بسيطة ومكثفة، وبالتالي هناك دعوة من العمل للدخول إلى تفصيلات كثيرة تخصّ ليس فقط الأبطال الرئيسين وحسب بل حتّى الممثلين المساعدين.

كيف يمكن لصيدلاني بسيط التحوّل لمجرم؟ والأمر برمّته سيجري رغماً عنه؟

كانت هذه هي المهمّة الأصعب الملقاة على عاتق فريق عمل نقطة انتهى.  تصدّى المخرج محمد عبد العزيز لذلك، وقدّم نموذجاً جميلاً بين أداء ممثّل، ولون حسّاس، وقيادة حيّة لعين الكاميرا، ولا بدّ من الإشادة بقلم الكاتب فادي حسين، الذي أحسن جمع التفاصيل وفردها، وأجاد توصيف شخصيّة البطل الذي كان بحال وانتقل بمنطقيّة وتبرير لحال آخر، عبر مدّة زمنية من الصعب إقناع الجمهور بها، لكنّه تحدّى ونجح في ذلك، عبر الانسجام مع لغة المخرج التي تدعونا للتأمّل والتفكير بما يجري مع أبطال العمل وبناء الحكاية.

نقطة انتهى

التمثيل

أتقن الفنان عابد فهد دوره في شخصيّة مركبة جديدة لم يجسّد مثلها قبلاً، فكان مراعياً لطبعها الأساسي وصعوبة تطبّعها بالجديد الذي انجرفت إليه رغماً عنها، وهذه المرّة يستخدم (فهد) بصوته نغمات نستبين منها المرارة التي تعاني منها الشخصيّة، وقد شكّل مع الفنّانة ندى أبو فرحات ثنائيّة متناغمة حيث أن (أبو فرحات) كانت دافئة وحنونة بدأت معه المشوار وختمته كرفيقة رؤومة وصدرها يتسع لكلّ ما جرى وسيجري. التسليم بينهما متوازن، وظهر الحبّ والتنافس في أكثر من مرّة مما زاد من بريق العمل. أمّا الفنان عادل كرم فظهر بجديد لم نعهده عبر تجاربه السابقة، فها هو المحامي البارد الذي قلّما نرى ابتسامته، ودائماً يركب الموجة متحاذقاً على الجميع مقتنصاً كلّ ما يستطيع، بصمت واحتقان سارا بالشخصيّة ليباغتنا بعيون تلمع خبثاً وطمعاً.

أجاد أنس طيارة دوره كثعلبٍ ماكر، قليل الكلام، كثير التخطيط والتفكير والغدر، وحضر بقوّة ومنافسة مع شركائه عبر مختلف المشاهد، وقد كسب تعاطفاً غير قليل بعد كشف القصّة لجانب الشخصيّة الإنساني.

كما استطاع العديد من الممثلين لعب أدوارهم ببراعة، فلا ننسى الجيل القدير أمثال: صالح الحايك، جورج شلهوب، وفاء طربيه، خالد السيّد وغيرهم، وكذلك من أبناء الجيل الجديد مثل: سامي نوفل، هلا يماني، تيم عزيز، ميرنا المير، بياريت قطريب، رولا بحسون، منال طحان، وغيرهم.

ساعدت الشخصيّات الثانويّة على إيصال المطلوب منها، لكن بقي لدى بعضها حسّاً بارداً سقط بإيقاع المشهد أحياناً لا سيّما ممثلي الدرجة الثانية والثالثة من اللبنانيين.

كانت حبكة العمل ميسّرة، فيها جانب من الإيضاح المباشر والفهم السريع، وجانب آخر يعتمد على القطبة المخفيّة، ولربّما ولّدت أسئلة لدى الكثيرين كانت إجاباتها معلقة في الحلقات الأخيرة، وفي جوانب أخرى كان من الممكن منح بعض الخطوط ثباتا أكثر وتشويقا أعلى كحادثة مقتل أم فارس – وفاء طربيه، وكان الأنسب لشخصية  غزوان – أنس طيارة، أن يتشفى بها ويأخذ وقته في تعذيبها كونها خرساء لا خنقها على الفور، وكذلك حادثة الزر، أو غياب لينا – ميرنا المير عن البيت من دون أيّ ردّة فعل عليها على الرغم من غضب الأب والابن منها سابقاً، وغيرها من مفاصل الحكاية، التي وإن شاغبت على الحبكة، لكن درجة إتقانها ظلت محافظة مع ذلك على درجة علامة عالية بما يتماشى مع لغة المنطق والدراما المفاجِئة.

اعتمد العمل على (كلرينغ) مستمد من لون البحر، وكأنّ الأمر يشبه إنذاراً بطوفانٍ قادم سيلغي كلّ تلوّث ويضع النهاية المتجددة، ونشعر بالأمواج المتلاطمة تستمرّ وتكثر ليبقى هذا التلوين والإضاءة الخاصّة مصاحبتان للحكاية، فيبزغ الأمل حيناً ثمّ يحضر التعتيم حيناً آخر، وذلك على سرعة متناغمة مع تلاطم موجات البحر واصطدامها بالشاطئ والصخور المتاخمة له، وبذلك حصدنا صورة لافتة مع اشتغال مونتاجي جميل وواثق، وتبيّنا كوادر براقة تحضر فيها الطبيعة وجماليّة الأماكن وديكورات البيوت … كلّ ذلك يمنحنا رغبة في متابعة نقطة انتهى ويجعلنا على وفاق خفي لاستمرار رصد ما يجري في الحكاية وتصديقها.

لم تحمل موضوعة العمل حالة المتعة فقط بل التوعية والتنبيه غير المباشر أيضا، ومن ذلك نستشهد بمعاناة لينا وما حصل من تصوير حبيبها لها بكاميرا موبايله، والفضيحة التي تصدّرت في لحظة من الغفلة، وردّة فعل المجتمع عليها والألم النفسي الكبير الذي تسبب لها، وأيضاً فكرة دفن الموتى من السوريين في مقابر لا تخصّهم وما يعانيه السوري خارج أسوار بلاده، كذلك صعوبة الاندماج مع مجتمع جديد حتّى لو كان قريباً في الجوار كلبنان.

نقطة انتهى

تعلو الموسيقى وتتفرد حيناً، لا سيّما وأن الصمت حاضر أكثر في لغة الشخصيّات والعيون، وكانت موسيقى سائد الهشيم محرّضاً لاستنطاق الحدث أحياناً قبل وقوعه، فنجحت كعامل مساعد، أثارت فينا فضول المعرفة وقلق الترقب، ولن ننسى أغنية الشارة وجمال الكلمات والأداء والألحان بين مروان خوري ومحمد خيري في تجربة أولى ناجحة.

أيضاً جهود كثيرة يمكن الإشارة إليها من الأزياء وتناسبها مع عوالم الشخصيّات، والعديد من الجوانب التي لا يمكن إلا أن تكون بإدارة الإنتاج التي رعت العمل ليصل إلى ما وصل إليه، من خلال شركة سيدرز إخوان للإنتاج والتوزيع الفني.

اخيرا، واختصارا، يمكن الجزم أن عبد العزيز قدم القدر الممكن  واللازم من الإثارة  لحكاية بسيطة فيها فلسفة عميقة.

مقالات ذات صلة

- Advertisment -

الأكثر شهرة