جوى للانتاج الفني
الرئيسيةنقد تلفزيونيمسلسل الزند.. ذئب العاصي

مسلسل الزند.. ذئب العاصي

استعادة الحق على جثث الأعداء.. و الأصدقاء

ماهر عزام

انتعشت العتابا في مسلسل “الزند” دون أن تكون من أولوياته، لسبب جوهري يشكل مفتاح الرؤيا الإخراجية وهو الانتماء والشغف بالتفاصيل. أربعة مقاطع عتابا للشاعر برهوم رزق، ابن الغاب، وبصوت مها الحموي كتحية لصوت نوف البدوية حاملة الشجن على خسارة الرفاق.. وربما الدرب.

ذئب العاصي” رحلة بطل شعبي صنعته المعاناة والقهر والظلم، لكن صياغته الدرامية، على يد عمر أبو سعدة،
لم تقدمه كبطل شعبي يحمل سمات الشخصية المطلوب تبنيها من الشعب،
على طريقة الواقعية الجدانوفية (نسبة الى وزير ثقافة سوفييتي عمم وفرض الشكل الإيجابي المطلق عبر أوامر مكتوبة للمؤلفين)،
بل جاءت مترعة بتفاصيل صادقة عن رحلة إنسان نحو طبقة جديدة، لمشاركتها الامتيازات، ولو على حساب أقرب الناس إليه.

مسلسل “الزند..  العاصي” مسلسل عن الخيانة والغدر الضروريين ربما للانتقال من طبقة إلى أخرى، وأحياناً للبقاء على قيد الحياة وسط غابة ذئاب، تبدأ من عدم فتح الباب لعاصي الفتى مستجيراً بأقرب الناس، وصولاً إلى المؤامرات على مستقبل الناس والتخطيط مع الإنكليز والإقطاع المحلي لاغتيال امبراطور المانيا، غليوم الثاني، خلال زيارته دمشق ١٨٩٨.

تبدأ القصة من محاولة الآغوات إعادة سرقة الأراضي المطوبة للفلاحين وفق قانون الأراضي العثمانية (١٨٥٨)،
الذي جاء اتساقاً مع قوانين أوربية مشابهة أثبتت نجاعتها في الحصول على غلة زراعية أفضل بأضعاف مما كان تحت سلطة الاقطاع والمحصلين والوكلاء.
وفي لحظة ضعف وتآمر على الفلاحين، يسعى المتضررون لسلب الفلاحين الأرض تحت وطأة الديون والخوف والجهل،
وإذا ما حاول أحدهم استعادة حقه اضطر لمواجهة جبهة من القتلة: درك وبنوك إنكليزية وآغوات سابقين.

عن هذا الصراع، أنجزت شركة “الصباح” اللبنانية مع “شاهد” السعودية، مسلسلاً سورياً بتوقيع المخرج سامر برقاوي،
وقد اختار منطقة الأراضي المروية على جانبي نهر العاصي كبيئة زراعية نبتت منها محاولات السعي لإحقاق الحق للفلاحين..
هذه المحاولات التي تعددت منذ الربع الأخير للقرن التاسع عشر،
فتعاضدت عدة قوى لها المصلحة في تحرير الفلاحين، من دعاة أفكار إصلاحية إلى حملة بنى ثورية إلى طامحين للانتصار على قوى الظلم والقهر والابتزاز.
فحضرت أفكار الشهيد الزهراوي، وجريدة المنير، وأفكار الجمعيات السرية، وصحيفة اليقظة..

في العمل حضور شبه دائم للغدر والخيانة والقتل..
حتى تكاد لا تخلو حلقة من مؤامرة هنا وأخرى هناك، وشملت معظم الشخصيات وعلى الضفتين مما يوحي- وأحيانا يؤكد- أن لا مجال لاستعادة الحق إلا على حساب أرواح الناس،
حتى خليل (طارق عبده)، صاحب الحلم بالعدالة للناس،
يضحي بالذهب ويرفض استمرار الجرائم بعد استعادة الأراضي، ونراه يكشف سر جريمة سرقة البنك الإنكليزي التي كان هو أحد المخططين والمنفذين لها، فيضع الجميع في مجابهته: إما العودة إلى الظلم وسرقة أراضي الفلاحين ثانية أو التخلص منه.. مواجهة الغدر بالغدر.

وفي لحظة مواجهة بين نجاة (دانا مارديني)، ابنة الأفكار الثورية، وبين زوجها الزند (تيم حسن)، تكشف له خيانته بالاتفاق مع الإنكليز، لكن علاقتهما تهتز ثم تعاود الاستمرار على قاعدة: لا تعيرني ولا عايرك.. الخيانة طايلتني وطايلتك.

قد يكون في ذلك فهم أساسي لجوهر السياسة بوصفها علم إدارة العلاقات بين الناس، حيث لا ملائكة ولا شياطين، والاستمرار في الحياة والصعود نحو الموقع الأعلى أو تحصين المكاسب لا يتم بالدعاء والنوايا الحسنة، إنما بالدم كقربان للفوز، سواء كان من دم الأصدقاء ورفاق الدرب أو الأعداء.. شركاء الظل.

ويكاد مشهد الثلج الختامي يختصر بكثافة سينمائية مميزة هذا الجانب، إذ ينقذ كل من خليل وصالح (مجد فضة) عاصي الزند عندما يصاب في طريق الثلج خلال معاركهم السابقة كرفاق سلاح قبل عودتهم لقراهم، فيصران على إنعاشه تحت تهديد القائد بقتله حتى لا يعيق المسير العسكري، لكن بعد العودة من المعارك نلاحظ كيف انتهت حياة خليل بقتله قبل انعقاد محكمة كشف سرقة البنك بثوان، وكيف تم قتل صالح الذي أقدم على خيانتهم ثأراً لهيبة عائلته المسفوحة بطغيان حضور عاصي ونجاحاته. وكانت عائلة صالح قد آوت عاصي ودعمته وجيشت له الفلاحين ليصبح عاصي آغا، بينما كان رفاقه إما مقتولين أو مرافقين لزوجته في أحسن الأحوال.

أما حضور المرأة فكان مسانداً فقط عبر شخصية نجاة، المتعلمة وحاملة الشفاء للجرحى، في حين بقيت ضمن حدود القهر والتبخيس من خلال شخصية شمس (رهام قصار)، حبيبة عاصي قبل التحول، والتي خانت زوجها الوكيل توفيق وخانت نورس آغا (أنس طيارة) بكشف أسراره لعاصي، كما خانت عاصي بكشف أماكن اختبائه..

العمل في حبكته الكبرى، والحكايات الصغرى، عانى من ضعف واضح في البنية الدرامية عبر حضور كبير للمصادفات.. وكذلك الخطط التآمرية الكثيرة والتي تنجح دائماً رغم تفاصيلها العديدة، فلا مجال للخطأ وهذا شبه مستحيل لأنه يقدم الحياة وكأنها مرسومة على الورق وليس في جغرافيا مليئة بالاختراقات والأخطاء والتجاوزات.

والملاحظة الأخيرة في ضعف الحبكات الصغرى ما يتعلق بحضور المنقذ القادم من مكان غير منظور درامياً، فكلما استعصت حبكة هنا وأخرى هناك يتم اخراج أرنب من تحت قبعة المؤلف..!

لكن فاعلية المخرج في جعل الدراما متدفقة باستمرار وبقوة، منذ المشاهد الأولى، خفف من هذا الضعف ليبقى المتلقي منجذبا للصورة والأداء، وقد توقع مسار الحكاية ومصائر معظم الشخصيات منذ الحلقات الأولى، لتستمر المشاهدة متأملة في سحر التمثيل والانسيابية الإخراجية والحضور الممتع للأبطال: تيم حسن، مجد فضة، أنس طيارة، دانا مارديني، فايز قزق، الفرزدق ديوب، يحيى مهايني، رهام قصار، نانسي خوري، جابر جوخدار، طارق عبده، باسل حيدر، علاء الزعبي، تيسير إدريس، فؤاد وكيل، عبدالله خميس، بيدرو برصوميان.

وما ساهم بالتخفيف من تكرار الحكاية هو إدارة المخرج للأداء الذي أشرف عليه وسيم قزق. وكذلك جماليات الصورة، حيث كان واضحاً نجاح التعاون مع التونسي خالد بن علي بعد عدة أعمال مشتركة.

من عناصر الجذب القوية كانت الملابس (الفنانة رجاء مخلوف)، والتي بدت منسجمة مع الرؤيا الإخراجية في إظهار الشغف بالمكان من خلال التصاميم المشغولة بتفاصيل كثيرة، بدءاً من تصاميم بيئية جمالية وأقمشة لافتة في تعميق درامية كل شخصية، سواء كان مقاتلاً من أصول فلاحية أو مفاوضاً أو فارساً أو من طبقة مختلفة.. وهنا كان لافتاً اشتغال مصممة الملابس على المنظومة اللونية بين الأرض والبيوت الطينية المقببة وبين القصور المعتمة إلا من إنارة بسيطة. فالمكان، المؤثث والمعاد تشكيله بجماليات مميزة على يد أدهم مناوي، كان أداة فنية واضحة بيد المخرج دون مبالغة أو تنازلات، لأننا نتحدث عن بيئة تاريخية تعود لأواخر القرن التاسع عشر.

ما يحسب للمخرج هو إعطاء مساحة حقيقية لمعظم الممثلين رغم الحضور الطاغي لنجومية تيم حسن، لكن المشاهد سينتبه بعد انتهاء العمل لأسماء هذا العمل وهم يشقون الخطوة الأخيرة نحو نجومية يستحقونها بالطبع.

أما تيم فقد وسم هذا الدور بتفاصيل استثنائية لا تعتمد الوسامة بل صياغة ذهبية لتفاصيل في الأداء، بدءاً بالعيون الكاشفة عن الذكاء خافية الغدر، وحركة اليدين أثناء المشي التي تؤكد أنه فلاح حقق نجاحاً في معارك السلطنة، وليس مقاتلاً أباً عن جد. وصولاً إلى صديقه نيتشه، منظّر الإنسان السوبرمان، والذي تبنى مقولاته خلال فترة انتقاله من فلاح إلى رجل قوي اجتماعياً ومالياً، حينها استغنى عن نيتشه وعمن علمه نيتشه.. أقصد خليل.

وأخيراً، ذئب العاصي هو عمل، وإن كان ينتمي إلى فترة انقضت، إلا أنه يحمل رسالة معاصرة في السياسة والأخلاق تجعل المتأمل فيها يغوص في خفايا الإنسان ورحلة مساره ومصيره متبنياً، أو رافضاً، لقوة القوة في جعل الإنسان على ما هو عليه.

مقالات ذات صلة

- Advertisment -

الأكثر شهرة