جوى للانتاج الفني
الرئيسيةعلى الخشبةمسرحية “ميت مات” لـ عبد النبي الزيدي

مسرحية “ميت مات” لـ عبد النبي الزيدي

د. لمى طيارة

المخلّص الذي ننتظره.. ولن يأتي

يعتبر الكاتب العراقي علي عبد النبي الزيدي واحداً من أهم كتاب المسرح العراقيين رغم تجاربه المتعددة في كتابة القصة والرواية، وكان الزيدي قد بدأ مسيرته الفنية في المسرح كممثل لكنه توجه للكتابة التي لفتته وسحر بعوالمها، إلا أن تجربة الإخراج التي خاضها مؤخرا مع مسرحيته “ميت مات” عكست صورته كفنان متعدد الجوانب وصدرته كمبدع عربي قادم بقوة إلى عالم الإخراج.

كتب عبد النبي الزيدي عشرات النصوص المسرحية، والمطلع على تجربته سيكتشف الرابط المشترك ما بين نصوصه، فهي تلامس، شكلاً، ظاهرة مسرح العبث، أو اللامعقول بمعنى أدق، لكنها في الوقت عينه تدق بقوة ناقوس الخطر فتتطرق لقضايا إنسانية داخلية تشترك وتشتبك بها البشرية، ومسرحيته “ميت مات” واحدة من تلك المسرحيات التي تخطت مرحلة العبث ولامست الواقع.

كتب الزيدي مسرحيته “ميت مات” ما بين العامين 2018 – 2019، أي في المرحلة التي  يعيش فيها العراق تداعيات لأحداث ساخنة عصفت به وما زالت رياحها مستمرة، وهذا الوضع أو الجو العام بطبيعته يشكل للكاتب مناخاً مناسباً وخصباً لكتابة نصوصه ويومياته وربما ليسخر منها، فالعراق ما زال محتاجاً لمخلص لينجو، أو هكذا يعتقد الأغلبية، وهذا الُمخلص قد يكون الله بالنسبة للمتدينين، وقد يكون وهماً من صنيعة السلطة اخترعته وأوهمت الناس به، وقد يكون المخلص بطلا من زمان الكاتب الايرلندي صموئيل بكيت الذي انتظره الجميع ولكنه لم يأت، في كل الأحوال جميعنا ننتظر المنقذ والمنقذ بدوره  ينتظر المنقذ، وهكذا هي دوائر الحياة.. نعيش على أمل لا جدوى من تحقيقه، والحل على ما يبدو، أو كما يراه الزيدي، بموت الميت لينتهي ذلك الحلم الأشبه بالكابوس.

ميت-مات
ميت-مات

هو2: خلقتك السلطة مثلما خلقتني كما يبدو… من أجل أن نتحول إلى حقنة مخدرة لن ينتهي مفعولها، من أجل أن يموت الصوت ويعيش الصمت في البيوت والشوارع.

هو1: أريد أن أستيقظ منك ومن كل المصاطب التي مت عليها وعدت، استيقظ من أطنان الكلمات التي تراني ليس كما أرى نفسي، أستيقظ مني لكي أعيش باسم آخر لا يشبه غودو

هو2: ولا يشبه مولاي

حازت مسرحية (ميت مات)، كنص أدبي، على عدة جوائز، منها جائزة أفضل نص مسرحي من مهرجان بغداد الدولي للمسرح بنسخته الثالثة، لكن الزيدي لم يكتف بالنص الأدبي ليجسد رؤيته أو ما أراد أن يقوله عبر الكلمة، بل أخذ مقعد الدراماتوج وقام بإعداده للخشبة، فقدم تجربته الإخراجية الملهمة في مسرحية (ميت مات)، في محاولة منه لإعادة اكتشاف نصه وكشف خباياه، فلم يترك تفصيلة سواء كانت صغيرة أو حتى كبيرة إلا وأضاء عليها.

وتدور أحداث المسرحية حول رجلين ينتظران القطار جلوسا على المصطبة، لكن ذلك الانتظار قد طال طويلاً، ربما تجاوز الألف عام، لدرجة لم يعد بإمكانهما التحرك، ولا حتى مجرد الوقوف، وربما بات أقصى طموحهما اليوم تبديل موقعيهما على المصطبة فيجلس الأول مكان الآخر، لكن الفكرة  تبدو جد ثورية لدى أحدهما، وتحقيقها على بساطته شبه محال بعد كل ذلك الوقت من الثبات واللا فعل، وبطلا العرض (مولاي، وغودو) اللذان ينتظران قطار النجاة هما في الواقع في انتظار بعضهما البعض، لكن ذلك الانتظار العبثي لا طائل منه ولا فائدة، فالرجلان غير مفيدين لنفسيهما فكيف سيفيدان العالم ويخلصانه من ويلاته، ويبقى الخوف كل الخوف أن يصل مخلصهما بعد أن ينتهي العالم وتحصل الكارثة.

هو1: المهزلة… إن تأتي وقد ذبل الياسمين في أرواحنا، المهزلة… إن ينقضي العمر وعيوننا على دربك وليس هناك حتى ظلك، المهزلة… يرونك سيفاً طويلاً وأنت لست سوى فراشة، المهزلة… إن تمت وأنت تنتظر الحياة لتعيشها…!

ميت-مات
ميت-مات

وحين تصدى الزيدي للتجربة كدراماتوج فإنه قارب دور المخرج دون أن يسميه صراحة، فذهب بالنص لمناخات وقراءات أخرى كحاجة للتجريب، وفي كل مرة كان يطور في نسخة العرض لم يكن يتعدى أو يشوش على النص الأدبي، برغم أنه كان يحذف كلاماً ويضيف غيره أو يعدل بعضاً منه، كما أنه كان يضيف وربما يعدل على السينوغرافيا الفقيرة التي صممها بطريقة تخدم تطور النص ونهايته الجديدة.

ويبدو أن الزيدي قد اختار دور المخرج كنوع من ردة الفعل على بعض من عروضه التي قدمت على الخشبة ولم يكن راضياً عنها، فحاول في “ميت مات” أن يحقق حلمه في الغوص والنبش في أعماق النص، فجعلنا نشعر أن الرجلين جالسان ربما في قبرين متقاربين وسط مدفن واحد، يأتيهما حفار القبور لينظف قبريهما ويسقيهما بالماء، لكننا سنكتشف مع نهاية العرض أنهما مجرد تمثالين حجريين باليين في متحف للحضارة،  ولكن إدارة المتحف تقرر عزلهما عن العرض بعد اليوم الأول لهما بسبب أوامر عليا، فالتمثالان أصبحا خردة غير صالحة للعرض، أو ربما لأنهما اكتشفا الحقيقة وأرادا تغيير الواقع.

وبالمقارنة ما بين النص الأدبي ونص العرض في كل من (العراق والمغرب)، نجد أن الزيدي قد أعاد خلق النص مكانياً، فأضاف له أبعاداً أخرى لم تكن جلية أو حتى واضحة في النص الأدبي الذي كتبه بنفسه، كما أضاف شخصية عامل التنظيف أو حفار القبور، وهنا تتجسد رحلة النص من الورق إلى الخشبة وما يطرأ عليها من تطورات في أغلبها ذات بُعد بصري لا يمكن تجسيده على الورق، ويبقى بطبيعة الحال للمتلقي الحرية في أن يقرأ ما بين سطوره من حوارات تنطقها الشخصيات في ظل سينوغرافيا مغايرة ، وهذا أهم ما يميز النص المسرحي الجيد:  قدرته على التطور المستمر.

شاركت مسرحية “ميت مات”، كما ذكرنا سابقا، في مهرجان بغداد الدولي للمسرح بنسخته الثالثة وحصلت أيضا كعرض مسرحي على جائزة نقاد المسرح لأفضل عمل، كما قدمت في مهرجان المسرح العربي الذي نظمته الهيئة العربية للمسرح في المغرب بداية العام 2023،  وتوجت بأفضل عرض متكامل من مهرجان مسرح الرحالة لفنون الفضاءات المفتوحة في الأردن في العام 2022، وهي من تمثيل محسن خزعل ومخلد جاسم وسجاد جارالله، ومن إنتاج مشغل دنيا للإنتاج السينمائي والمسرحي في الناصرية.

المادة السابقة
المقالة القادمة

مقالات ذات صلة

- Advertisment -

الأكثر شهرة