جوى للانتاج الفني
الرئيسيةعلى الخشبةمسرحية "ترحال" الأرواح السورية المهاجرة تحط رحالها في دبي

مسرحية “ترحال” الأرواح السورية المهاجرة تحط رحالها في دبي

أحمد محمد السّح


يظن أي منا أنه اكتفى مما عرفه من، وعن، حزننا السوري،
وأنه لن يتأثر فيما لو رأى صورة جديدة من هذه المأساة،
وخاصة إذا قُدّمت فنياً،
لأن الفن مهما كان قاسياً لن يكون أكثر تراجيدية وإمعاناً في الأسى من الواقع،
ولكن هذا الظن يسقط مع أول دمعة تنحدر من عينيك وأنت ترى ما سمعته أو عشته مجسداً على خشبة المسرح،
وحتى ولو كنت في واحدة من أجمل وأكثر مدن العالم صخباً وهي دبي.

يمكن القول إن هذا ما فعلته مسرحية “ترحال – أرواح مهاجرة” على خشبة مسرح سمة للأداء الفني في شارع السركال في مدينة دبي،الإمارات العربية المتحدة،
العرض المسرحي الراقص الذي “يسلط الضوء على حكاية حب في زمن الهجرة” كما ورد في بروشور المسرحية.
وهو من تأليف وإخراج الفنان ماهر صليبي،
وتمثيل الفنانين مريانا معلولي ومؤيد الخراط، وأما أداء الرقص التعبيري فقد ضم كل من الراقصين لانا فهمي ومازن نحلاوي، وراما خليفة، ولويس ألبيرتو باهامون،
في انسجام عالٍ بين الأداء التمثيلي والرقص التعبيري.
إضافة إلى مخرج ومؤلف العرض راوياً حاضراً في المسرحية.

اعتمد مؤلف ومخرج العرض على تقديم حكاية بسيطة،
بعيدة عن الفعل الدرامي المعقد، وهو ما عكسه من خلال ديكور وإضاءة المسرحية،
وكأنه يجيب على سؤال في أذهاننا،
ترى ما هو أبسط من الحب!
وما هي احتياجات روح تهاجر، سوى أنها تترك خلفها كل تفاصيلها وذكرياتها ولا يشدها إلى مكانها سوى “خيط الروح”،
وهو الحبيبة التي أبقاها بطل العرض، “آرام”، صلته مع كل ما يريده من وطنه الذي أجبره على الهجرة.

قصة الحبيبين “آرام” و”شام” تشبه الكثير من قصص الحب التي عرفناها أو عشناها أو سمعنا بها،
ولكنها هنا خالية من المنغصات البينية،
بمعنى أنها لا تدخل في تفاصيل الخلافات الشخصية بين الحبيبن،
فدوافع الفراق ليست الغيرة أو المناكفة أو قلة الاهتمام أو اعتراض الأهل أو غيرها من تفاصيل حكايات الحب التي لطالما وقعت فريسة لهذه المشكلات، صغيرة كانت أم كبيرة،
فالمشكلة في قصص الحب السورية أبعد من ذلك بكثير،
إنها الحمل الثقيل المرخى على كاهل السوري وهو يعيش قبل أن يحب،
إنها حالة الفراق التي يعيشها على أرضه فتدفعه إلى خيارات أبعد،
ربما تكون نهاية العمر لا نهاية قصة حب فحسب.

مسرحية ترحال
مسرحية ترحال

تنسجم فواصل الرقص التعبيري في العرض المسرحي مع سردية الحكاية فلا تبدو مقحمة فيها،
وخاصة في اللوحة التي يدخل الراقصون فيها حقائب السفر،
وهنا يمكن القول إن هذه اللوحة تختصر الكثير من التراجيديا التي عاشها السوريون،
في شعرية بصرية عالية، حيث كانت حقائب سفرهم هي منجاتهم أو ربما سبب غرقهم في تغريبات البحر التي عرفها العالم كله،
ورأى وجوهنا تتلاطم في ازرقاق البحر،
لا مبتسمة هذه المرة إنما تتخبط تحت ضربات الموج،
باحثة عن نجاة، عن حياة عادية ربما يكون فيها أمل بغد مأمول.
كما أن الراقصين في كثير من المشاهد حضروا ليكونوا نسخاً عن أبطال العرض، ليكونوا طيف الحبيب المفارق وصورته المتخيلة بعد أن باعدت المسافات بين الحبيبين.

أعطى العرض المسرحي لكل التفاصيل التقنية حقها لتكون شريكاً داعماً للحكاية،
فالموسيقى التي ألفها كرم صليبي بدت مألوفة وكأنك تعرفها مع أنها مؤلفة خصيصاً لهذا العرض،
فهي تشبه رحلة حياتنا وتشبه تغريبة الحب التي عاشها بطلا المسرحية علواً وانخفاضاً وفقاً لسياق الأحداث،
ولم تقل الإضاءة أهمية في دورها باستخدام بؤر ضوئية واضحة ومحددة،
تبدو باهتة وحزينة في مرحلة ما قبل السفر ولكنها أكثر بهجة بعد نجاح السفر، وفي الحلم،
ويكثر اللون الأزرق في أثناء السفر في البحر،
ولكنها تعود لشحوبها مجدداً بعد أن توصلنا الحكاية إلى نهاية صادمة للجمهور لم يكن يتوقعها في نهاية العرض المسرحي، الذي اختار النهاية المأساوية بعد أن نجح بخديعة الجمهور بلحظات أمل في نهاية سعيدة تشبه حكايات الأطفال التي لطالما حلمنا بها ولكن الواقع أثبت عكس ذلك،
حيث أن النهايات لا يمكن أن تكون سعيدة في حياة بنيت أساساً على دعائم ملؤها القهر والظلم والخوف الذي يتردد صداه في حياة السوري، وكثر تردده أيضاً على لسان بطل العرض،
فالدافع الأساسي لسفره ليس قلة نجاحه في بلاده، بل الخوف الذي كان يخنق طموحاته،
ويجرده من الشعور بامتلاك اللحظة القادمة، والتخطيط لها.

مسرحية-ترحال

وكما بدا واضحاً لمشاهدي العرض أن المؤلف ابتعد عن الحوارات الطويلة،
مع أن الحوار ركن أساسي لا يمكن التخلي عنه في المسرح، عبر التاريخ،
ولكن الجمل الحوارية جاءت قصيرة، واضحة ومباشرة أحياناً لا تعتمد التراكيب اللفظية المعقدة أو الدخول في سجالات بعيدة عما يمكن أن يقوله حبيبان لبعضهما في حالة فراق،
وهذا يتسق مع سردية الحكاية، فما الذي يمكن أن تقوله حبيبة لحبيبها وهو يفارقها سوى أن تؤكد له على حبها، وماذا يقول حبيب مهاجر أكثر من الوعد القاطع بأنه إن نجا ووصل إلى بر الأمان فسوف ينتظرها،
وهنا ذهب مؤلف العرض ومخرجه إلى تحميل الراوي سردية الجمل الشعرية المؤثرة،
وكان حضور الراوي هنا فاعلاً مع أنه بدا في لحظة ما مغامرة، خشية أن يكون مقحماً على خصوصية حبيبين وقصة حب، ولكنه في مسرحية “ترحال” جاء الراوي ليقول ما لم تستطع قوله كلمات الحبيبين، بطلي العرض،
فقال الشعر الذي حفظاه،
وقال القصائد التي تهادياها من قبل وهي قصائد سورية،
بعضها تحول إلى أغنيات لطالما شكلت جزءاً من الوعي الفني السوري كقصيدة “كل شيء ضاق” للشاعر السوري الكبير “نزيه أبو عفش”.

مسرحية-ترحال

ثمة من قال يوماً إن الحرب حدث عظيم بحد ذاتها، وإن إحاطتها فنياً لا يجب أن تكون أقل عظمة منها،
والعظمة هنا ليست تمجيداً للحرب بل هي بمعنى الروع والأثر الذي تتركه هذه الحرب،
وربما اعتنت كثير من الشعوب والحضارات، التي عاشت حروباً، بتخليد آثار هذه الحرب على حياتها حتى اليوم،
فاليابانيون مثلاً ما زالوا إلى اليوم يقدمون أفلاماً ومسرحاً وروايات عن واقعة القنبلتين النوويتين في “ناكازاكي” و”هيروشيما” رغم البعد الزمني عن تلك المرحلة،
ولكن عظمة هذا الحدث تدفعهم دائماً للنبش في تفاصيله وتقليب وجهات النظر فيه،
وضمن هذا السياق يأتي العرض المسرحي “ترحال – أرواح مهاجرة” نبشاً عمودياً عميقاً في واحدة من أحدث التغريبات والهجرات البشرية المعاصرة،
وهي التغريبة السورية التي حملت معها أوجاعاً كثيرة،
ساهمت قوة الإعلام وقوة وسائل التواصل الاجتماعي في عصرنا هذا في جعلها حدثاً مرئياً في توثيقه أكثر من بقية الهجرات التي عاشتها شعوب أخرى من قبل،
وهذا صعّب المهمة على كل من يفكر في تقديم عمل فني يحيط بهذه الهجرة،
فماذا يمكن أن يقدم فنياً أكثر مما قدمته الوثيقة الحية والصورة المباشرة من صاحب المأساة،
وهنا تأتي خصوصية هذا العرض المسرحي في أنه جعل الرؤية البصرية أقل قسوة ولكنها أكثر تأثيراً،
وسمح للحكاية أن تقدم نفسها على منحيين، أحدهما درامي بأداء حركي بسيط وتعبيري،
منسجم مع المنحى الآخر ألا وهو لوحات الرقص التعبيري التي مازجت بين حركة الجسد ووقع الكلمة.

مقالات ذات صلة

- Advertisment -

الأكثر شهرة