جوى للانتاج الفني
الرئيسيةعلى الخشبةمسرحية الغنمة: الجانب الوحشي للقطيعية

مسرحية الغنمة: الجانب الوحشي للقطيعية

بطرس غيث

“يقع على عاتق المسرح العديد من المهام الجسيمة وأهمها اليوم تحريض الإنسان على بذل قصارى جهده لتجاوز الوحش الكامن في أعماقه”

مسرحية-الغنمة
مسرحية-الغنمة

كلمات تركها زين طيّار (مخرج العرض) بين دفتي البروشور الذي تصدّرته صورة خروف ببذلة رسمية ونظارات طبية ممسكاً بسماعة هاتف،
ليترك المتلقي في تساؤل حول ماهية الوحش الذي قصده، فمن ناحية لا يعصى على إدراك أحد الارتباط الوثيق بين صورة الخروف ومدلولات الوداعة والخضوع والرضوخ والانصياع والقطيعية والطاعة العمياء،
ومن ناحية أخرى فإن أنسنة الحيوانات هو تقليد أدبي عريق ومعروف لا يبدأ من كليلة ودمنة وحكايات ألف ليلة وليلة ولا ينتهي عند صرصار كافكا.

صرصور-كافكا
صرصور-كافكا

مفارقة شائكة ومربكة تدخلنا منذ اللحظات الأولى في لعبة المعاني والأسئلة، لعبة المرايا والرموز والمجازات والاستعارات. بكلمات أخرى: لعبة المسرح.

سترة من جلد الغزال
سترة من جلد الغزال

 

العرض الذي أعده طيّار السنة الفائتة وقدمه في مدينة حمص باللغة الفصحى مع فريق من الهواة،
ودخل به في تشرين الثاني من العام الجاري باللهجة العامية إلى مسرح الحمراء في دمشق برفقة كاست احترافي كحسام الشاه وسوزان سكاف وغيرهم؛
جاء عن نص Сако от велур (سترة من جلد الغزال) الذي نشره المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في دولة الكويت في العام 1994 ضمن سلسلة المسرح العالمي
تحت عنوان “سترة من المخملين” (ترجمة محمد سعيد الجوخدار وتأليف الأديب والسيناريست والصحفي البلغاري Станислав Стратиев “ستانيسلاف ستراتييف” 1941- 2000).

ستراتييف
ستراتييف

الثانية لستراتييف بعد مسرحيته الأولى “حمام روماني” 1974 التي لاقت نجاحاً باهراً وعرضت لأكثر من عشرة مواسم متتالية على خشبة مسرح صوفيا الساخر Sofia Satirical Theatre والذي سيشغل ستراتييف منصب مديره الأدبي من العام 1975 وحتى وفاته.

تصوّر إيفان أنتونوف، وهو شاب مثقف مثالي يُدَرِّس اللغويات في إحدى الجامعات،
يشتري سترة من جلد الغزال،
ويلاحظ أن الجلد المدبوغ غير مثالي حيث لا تزال هناك كتل من الشعر متبقية عليه فيقرر قصّه،
إلا أن الشخص الوحيد الذي يوافق على القيام بذلك هو جزاز أغنام القرية،
ولتتم المعاملة وفقاً للقانون يسجلها على أنها جز خروف خاص مضيفاً ملاحظة: إن إيفان أنتونوف يحتفظ بالأغنام في حوض الاستحمام كحيوان أليف،
فتصبح السترة خروفاً في سجلات الدولة،
الأمر الذي يرتّب على أنتونوف دفع ضريبة امتلاك حيوان داجن،
لتبدأ رحلته في متاهة مكتب الضرائب الذي يعج بالممرات المسيجة والأبواب التي لا تؤدي إلى أي مكان،
في تصوير يذكرنا بدهاليز المحاكم في “محاكمة” فرانتز كافكا.
وبينما تفشل كل وسائل أنتونوف في إقناع المكتب إن السترة ليست خروفاً،
يقترحون عليه شراء خروف كونه موجود في السجل على أية حال.
أما أصدقاء أنتونوف الذين جاءوا في البداية لمساعدته يتخلون عنه،
ليجبر الأخير على خوض المتاهة البيروقراطية بمفرده وسط لامبالاة الموظفين وتخشّبهم،
فنجده يأخذ سترته في النهاية ليرعى في الحديقة المجاورة للجامعة.

في إعداده للنص يخلط طيار بين خلفيتين:
بلغاريا التي نراها حاضرة في أسماء الشخصيات والأعلام المعلقة على المسرح،
و سوريا التي تطل من خلال اللهجة الشامية للشخصيات وبعض الإحالات المباشرة للواقع السوري اليوم كمنع تسريح الموظفين وضعف القدرة الشرائية للمستهلك.
بينما يطوّر حبكة ثانوية: إعجاب ينشأ بين أنتونوف وإحدى الموظفات ينتهي مع نهاية المسرحية بزواجهما على غرار المسرحيات الكوميدية،
فيما يبدو نوعاً من الخاتمة السعيدة لمغامرة أنتونوف العبثية،
وبصيص خلاص فردي لكل من أنتونوف والموظفة المتعاطفة التي تستيقظ على وضعها ووضع المؤسسة فتشتكي وتعبّر في واحد من المونولوجات التي تطلقها بعض الشخصيات في النصف الثاني من العرض.

يحافظ طيار على وجهة النص الأصلي الذي يصب في نقد المؤسسة البيروقراطية وهجاء جمودها وفضح تركيبتها وإبراز بلادتها ضمن محاكاة أدبية فنية ساخرة لواقع مأساوي،
تجلت أكثر ما تجلت في أمرين اثنين الأول هو بنية السينوغرافيا الظاهرة والمتخيلة لفضاء الأحداث:
كتلة من المكاتب المتراكبة والمتداخلة في شكل هرمي،
ومصعد معطل بين الطوابق يشغله شخص عالق يبدو أنه أصبح جزءاً من حياة المؤسسة الراكدة،
حاله حال فريق من الموظفين الذين يثغون كالخراف عند كل تعميم وارد حول زيارة مسؤولين لا يأتون أبداً،
وحديث عن طريق مسدود إلى الطوابق العليا لمؤسسة الثروة الحيوانية حيث المراتب الإدارية الأعلى،
ما من منفذ إليها سوى جسر يصلها بمبنى الثروة الفكرية الذي يحرسه حارس لا يسمح بدخول إلا ذوي التعليم المحدود.

أما الأمر الثاني، إذ تبلغ المحاكاة ذروتها الساخرة، يظهر في الحل الذي اقترحه مدير المؤسسة لقضية أنتونوف: إحالة موظف،
لم يبلغ العمر المحدد بعد، إلى التقاعد،
ثم ذبح خروف وهمي على شرف المناسبة، وإقامة مائدة فارغة جمعت كادر المؤسسة حولها في تواطؤ ضمني مشترك لالتهام الهواء،
لتحل قضية أنتونوف نهائياً على الورق ووفقاً للقانون، وتخمد جذوة المظاهرة التي انطلق بها الأخير محتجاً.

ترميزات وتوريات ونكات ولعب بالألفاظ حفل بها زمن العرض الذي سلط الضوء على الجانب الوحشي للقطيعية المشاعية حيث يتعطل العقل والإرادة وتستنزف الطاقة البشرية،
ويطمس الصوت الفردي، وتُهرس ذوات الموظفين والُمراجعين وتذوب في الكتلة الخاملة للمؤسسة،
ويراق الزمن ومصائر الناس في سبيل تغذية قوانين وشرائع وأنساق وأساليب وهياكل يفترض أنها وضعت لتخدم الإنسان وتسهل أموره لا لتقهره وتقف حجر عثرة في طريق حركته ونموه.

بينما أتت عناصر العرض الأخرى كالموسيقى الفاقعة والأزياء المستبدلة للرجال والنساء والإضاءة التي تفتح فضاءات اللعب على بعضها معظم الوقت،
وحضور الأجساد على الخشبة في أوقات يغيب فيها دورها الدرامي كشخصيات (كما في حالة المستخدمة مثلاً) لتضفي أجواءً مرحة متآخية مع الطابع الهزلي للمسرحية،
ولتكرّس الانطباع حول الحالة الهلامية والعبثية للمؤسسة حيث يختلط الحابل بالنابل ويتوه الفرد.

مقالات ذات صلة

- Advertisment -

الأكثر شهرة