جوى للانتاج الفني
الرئيسيةعلى الخشبةمسرحية "إدفع ما بدفع" .. غياب الخطة الإخراجية

مسرحية “إدفع ما بدفع” .. غياب الخطة الإخراجية

د. ميسون علي

ضمن مشروع التبادل الثقافي قدمت فرقة “مسرح الشمس” الأردنية بالتعاون مع مديرية المسارح والموسيقى مسرحية “إدفع ما بدفع” عن نص “لا تدفع” للكاتب الإيطالي داريو فو،
ترجمة نبيل حفار، إعداد وإخراج عبد السلام قبيلات،
عنوان المسرحية باللغة الإيطالية Non Si Paga!  وترجم للإنجليزية Can᾿t pay Won᾿t pay (لا أستطيع الدفع،لا أريد الدفع)،
وداريو فو (2016-1926) ممثل وراقص باليه وممثل إيمائي وناشط سياسي،
أسس عام 1958 فرقته المسرحية مع زوجته فرانكا راما.

 يعرف فو مسرحه على أنه “مسرح مناضل”،
وقد لوحق وطبقت الرقابة عليه أشد المنع، وخضع لعدة محاكمات،
وطرد من التلفزيون الإيطالي بسبب عرض قدمه على الشاشة حول إضراب البنائين،
وتم اختطاف زوجته فرانكا راما وضربها وتعذيبها،
وعلى الرغم من الشهرة التي تمتع بها، لم يسمح له بالدخول إلى أميركا إلا عام 1985 بسبب ميوله اليسارية،
وداريو فو الحائز على جائزة نوبل (1997) كتب أربعين مسرحية أهمها “ميستيروبوفو”، “لا تدفع”،
“موت فوضوي صدفة”، “إيزابيل ثلاثة مراكب ومشعوذ”.

مسرحية-ادفع-ما-بدفع
مسرحية-ادفع-ما-بدفع

الإعداد المسرحي

توجه مسرحية “لا تدفع” نقداً قاسياً للتجار وأصحاب البيوت،
وتجري أحداثها في إيطاليا 1974 إبان الأزمة الاقتصادية،
حيث تسطو مجموعة من النساء على متجر للمواد الغذائية احتجاجا على غلاء الأسعار،
وتسرق كل ما تجده أمامها (طعام للقطط والكلاب، رؤوس أرانب، معكرونة، طحين..إلخ)
وتحاول أنطونيا ومارغريتا إخفاء البضائع تحت ثيابهما، وتدعيان الحمل لتبربر الانتفاخ،
خوفا من اكتشاف زوجيهما الأمر، خاصة بعد أن حضر البوليس للبحث عن البضائع المسروقة،
لتجري سلسلة من الالتباسات والمفارقات المضحكة،
وتنتهي المسرحية بمجيء مسؤول يطالب بإخلاء البيوت بسبب عدم دفع الإيجار،
بينما تتصاعد أصوات المتظاهرين في الشارع.
يتخلل ذلك كله تهديد جيوفاني لزوجته أنطونيا ووصفها بالمجرمة لأنها سارقة،
لتكتشف الأخيرة أن جيوفاني سرق البضائع في الخفاء،
معترفاً أمامها بخوفه من إبداء رأيه في ما يتعلق بالغلاء وارتفاع إيجار البيوت،
فالمسرحية تشجب اعتدال الحزب الشيوعي الإيطالي (الذي يمثله جيوفاني) عندما أعلن “برنامج التسوية التاريخية” من أجل مجتمع أكثر تقشفاً واتباع “سياسة التضحيات” من أجل المصلحة الوطنية.
وهذا الخط السياسي المهم في المسسرحية تم حذفه في الإعداد دون البحث لإيجاد معادل له،
كما استعاض المخرج (معد النص) عن شخصية المسؤول عن تنفيذ إخلاء البيوت بشخصية الشيخ الذي يظهر فجأة ليطالب الجميع بدفع ديونهم للحكومة،
من دون مبررات درامية مقنعة لظهوره! كما تم انتقاء المشاهد التي تركز على موضوغ الغلاء وصعوبة دفع الإيجار،
والإبقاء على مكان الأحداث (إيطاليا) وأسماء الشخصيات كما وردت في النص الأصلي،
ونقل لغة الحوار إلى اللهجة الأردنية المحلية.

الأداء المسرحي

يشكل العنصر الكوميدي عاملاً ضرورياً في خلق علاقة المشاركة الوجدانية بين العرض والجمهور،
يقول داريو فو “إن المسرح الشعبي ليس مسرحاً متباكياً” والمسرحية من نوع “الفارس” Farce (المهزلة) التي يقوم الإضحاك فيها على المبالغة الكلامية والحركة،
مما يعطيها طابع الغروتسك Grotesque (المضحك من خلال المبالغة والتشويه) والدور الأساسي للجسد في الفارس يربطها بأصولها الكرنفالية الاحتفالية.
وقد استخدم داريو فو “الفارس” كوسيلة فضح واحتجاج من خلال البعد الغروتسكي والساخر الذي تتضمنه المسرحية،
ويشكل الأداء المسرحي أحد العناصر الأساسية والمهمة في مسرح داريو فو والسمات المميزة لهذا الأداء والمتمثلة بالسخرية والتهكم والميل أحياناً إلى التهريج،
كما ويفيد الأداء من ملحمية برتولد بريشت، وهذا يعني أن الأداء التقليدي والطبيعي بشكل خاص،
لا يتناسب إطلاقاً مع بنية المسرحية وأسلوب الكاتب ورؤيته الفكرية،
والملاحظ أن الأداء في العرض كان ينوس بين الطبيعي والأداء الملحمي التهكمي الساخر،
بعض الممثلين أدوا أدوارهم بكاملها بالأسلوب الطبيعي،
من هؤلاء أحمد سرور (جيوفاني) وسعيد مغربي (لويجي)،
إذ ابتعدا تماماً عن الملحمية التي تتطلب تقنيات خاصة في التعامل مع الدور،
وبما يحقق تواصلاً خاصاً مع الجمهور، ويقوم على كسر الإيهام المسرحي،
والبعض الآخر استخدموا هذه التقنيات الملحمية سواء في تعاملهم مع أدوارهم أو في توجههم المباشر إلى الجمهور، والمفترض أن أسلوب الأداء يتطلب مبالغة شديدة في التهكم الساخر بحيث تقترب من التهريج،
لكن الأداء في العرض اتسم بالتصنع وعدم الإقناع والبرودة والسخرية الضعيفة الباهتة،
التي لا تمس روح السخرية الشعبية، خاصة في أداء حياة حابر (أنطونيا) وعدي حجازي (رجل الشرطة).
ومن حيث الموسيقى والغناء في العرض نجد الرقص تارة على أغنية Ma Baker لفرقة الديسكو الشهيرة Bony M  وتارة على إيقاع العراضة الأردنية!
وفي سعيه لتحقيق التغريب لجأ المخرج إلى عدة عناصر، منها الممثل الذي يلعب أكثر من دور في العرض،
وخرق الجدار الرابع (التوجه للجمهور)،
والممثل الذي يؤدي دوره ثم يتحول إلى متفرج في حيز مخصص لذلك على يمين الخشبة،
لكن التغريب ليس حلولاً شكلية أو مبدأً جمالياً مرتبطاً بالتقنيات الجمالية فحسب، وإنما موقف أيديولوجي وسياسي.

مسرحية-ادفع-ما-بدفع
مسرحية-ادفع-ما-بدفع

 المهرج الملحمي

يقول فو “أنا لا أهتم بالسياسة قدر اهتمامي بالعدالة”،
وينسج في تهريجه الملحمي القضايا التاريخية والدينية والاجتماعية والسياسية معاً،
لينتج عرضاً كوميدياً ذا جاذبية شعبية وفكرية،
وبما أن المهرج أحد التقاليد المهمة في مسرح داريو فو يفترض بالممثل في العرض أن يكون قادراً على لعب دور المهرج، بحيث يستقطب الاهتمام ويقود الفعل المسرحي،
وأن يتميز بالمقدرة على شد انتباه المتلقي، وإقامة تواصل حميمي معه (بحسب داريو فو) ليصل إلى رؤية نقدية خاصة في مقدمة العرض،
وهو ما لم يتحقق على الإطلاق،
إذ خرج الممثل أو مدير اللعبة Meneur de jeu (حسب بريشت) متوجهاً للجمهور قائلاً “المسرحية إيطالية، والأحداث عم تصير بإيطاليا،
قديش بتبعد إيطاليا عن عمان، ليس بالكيلومتر إنما بالإنسانو متر”  ثم تتساءل أنطونيا “بأي لهجة نحكي فلاحي ولا مدني ؟ ولا شوكولامو؟”   

كما ويفترض أن يمتلك الممثل ثقافة شاملة وعميقة وموهبة تسمح له بالارتجال بما يخدم بنية العرض المسرحي،
وبما يحقق تواشجاً عميقا وواضحاً بين المشكلات والقضايا التي يعالجها النص،
وتلك التي يعايشها المتلقي في مجتمعه بجوانبه الاجتماعية والسياسية والثقافية وغيرها،
وهذا أيضاً أمر لم يتحقق، فالعرض قلص الارتجال إلى حدوده الدنيا من ناحية،
ومسخه من ناحية أخرى، ولم يتجل الارتجال إلا في عبارات وجمل سطحية وغير مدروسة الدلالة،
لم تساهم في إغناء العرض، ولا في إدخاله في نسيج البيئة التي يقدم فيها،
ومثال على الجمل المرتجلة قول جيوفاني للجمهور “أعطوني دقيقتين لروح عالحمام وأرجع”،
أو “السفارة الفيتنامية بجبل عمان، نسيت إنو نحنا بإيطاليا، وأنا عم إحكي عن جبل عمان”،
أو ترديد جملة “يا مخرج بدنا نوقف”،
أو اللعب على الألفاظ كما في قول أنطونيا لجيوفاني الذي يرفض تناول طعام القطط والكلاب الفاخر “رح ساويلك شوربة بروس الأرانب، وإذا ما بيعجبوك الروس بجبلك أميركان”…
لقد لاحظنا الفوارق والتناقضات التي شكلت فوضى واضحة في الأداء،
الذي اتسم بالتشتت والضياع والارتباك وغياب الخطة الإخراجية،
ما أدى في نهاية المطاف إلى التأثير السلبي على بنية العرض.

وما يميز المهرج الملحمي حسب داريوفو هو كمية المفارقات التي يعرف الممثل كيف يعبر عنها من خلال جسده وصوته وعنفه الكوميدي،
ويوضح فو تصوره عن التهريج الملحمي: “المهرجون الحقيقيون كانوا مشغولين على الدوام بحالات الجوع الأساسية، ليس فقط الجوع للطعام والجنس، وإنما كذلك الجوع للكرامة والجوع للعدالة”،
ولكن المخرج لم يعمل على إعناء حضور المهرج،
وغياب الخطة الإخراجية قد أفقر الأداء ودفعه نحو التشتت والفوضى والارتباك،
ما حرم العرض من تلك المبالغة الأسلوبية التهكمية الساخرة، وهذا ما يتيحه ويبرره وجود الكرنفال.

الكرنفال

يشكل الكرنفال خلفية مهمة لأسلوب النص، ومن ثم لأسلوب العرض والأداء بشكل خاص،
كما يشكل أرضية ومناسبة لخرق المقدسات وإطلاق المكبوت والكلام الحر من أية رقابة ذاتية أو موضوعية،
لكن الإخراج لم يجتهد في إغناء هذا الخط،
وهو أمر يتطلبه نص داريو فو، الذي تقترب كتابته من هذه الناحية إلى حد بعيد من سيناريو “كوميديا الفن” المرتجلة، الذي ينتظر من الممثلين أن يملأوا ثغراته،
وأن ينوعوا على تيماته بما يخدم القضايا التي يعالجها النص ويتلاءم مع البيئة التي يقدم فيها العرض،
والملاحظ أن العرض قد مارس على نفسه رقابة ذاتية واضحة،
وربما تعرض لرقابة موضوعية أيضاً استجابة لدواعي اللياقة الزائفة.
فكيف سيجرؤ العرض على الجانب الأهم والأخطر وهو المتعلق بخرق المقدسات الدينية والسياسية والثقافية والقانونية، سواء ما ورد منها في ثنايا النص،
أو في الإشارة والتلميح، وربما التصريح إلى معادلاتها في البيئة الراهنة لزمان العرض ومكانه،
وهو ما يفترض بالارتجال أن يحققه، وفي هذا السياق يقول لويجي مثلاً “مرتي ما بتاخد حبة منع الحمل حتى ما تروح عالنار” وظهور الشيخ بهيئة مضحكة،
ولكن دون أي تأثير حقيقي للمشهد أو موقف نقدي واضح.

مسرحية-ادفع-ما-بدفع
مسرحية-ادفع-ما-بدفع

الشرطية والأسلبة

انسجاماً مع الملحمية التي يتميز بها بناء النص،
كان من المناسب اعتماد الشرطية والأسلبة Stylisation (الابتعاد عن المحاكاة التصويرية للواقع) في الديكور والأزياء.
تم استخدام عدة بانوهات عليها رسومات مع بعض الأغراض لتشكل الخطوط العريضة للمكان (منزل جيوفاني)،
واللوحة الخلفية في العمق تمثل الخارج،
وقد عبر الديكور عن ثنائية الداخل/الخارج،
والانتقال السريع والديناميكي بينهما،
لكن بعض الأغراض واستخدامها كان يشكل خرقاً لهذه الأسلبة،
أما الأزياء فلم تكن متناسبة مع الشرطية والأسلبة العامة المسيطرة.

مقالات ذات صلة

- Advertisment -

الأكثر شهرة