جوى للانتاج الفني
الرئيسيةالمكتبةمذكرات نجيب الريحاني وقائع ما جرى لـ «كشكش بك».. وآخرين

مذكرات نجيب الريحاني وقائع ما جرى لـ «كشكش بك».. وآخرين

في جميع أفلامه التي لا تتوقف القنوات التلفزيونية عن عرضها، يجسد نجيب الريحاني الشخصية نفسها تقريباً: فقير معدم، مغلوب على أمره، بثياب رثة وشعر أشعث، مع نحس يطارده أنى توجه، ولا يكاد «يخرج من حفرة حتى يقع في دحديرة»، حسب القول المصري الشائع.. وذلك قبل أن تأتي يد القدر البيضاء فتنتشله من القاع، مغيرة مجرى حياته، واضعة إياه وسط ظروف موائمة لانطلاق حياة سعيدة. وهو انقلاب نتوقعه ولا نراه مجسداً، إذ يأتي غالباً قبيل نهاية كل فيلم..

هكذا كان في «سلامة في خير»، وفي «غزل البنات»، وفي «لعبة الست»، وفي «سي عمر»..

مذكرات نجيب الريحاني (1889 ـ 1949) تقدم، ربما، تفسيراً، إذ يبدو صناع أفلامه وكأنهم نسخوا عنه هو شخصياً، كأنهم اقتبسوا أجزاء من سيرته الشخصية الحقيقية، فقد كان هو أيضاً ذلك الفقير المعدم، المتصعلك والمنحوس، الذي نام ليال طوال على الأرصفة، وقضى أياماً بحالها جائعاً يكاد لا يجد ما يسكت معدته الخاوية، وما إن يعثر على وظيفة حتى يطرد منها لسبب أو لآخر، وما إن يستقر به الحال فترة قصيرة حتى يرميه هوس الفن إلى القاع مجدداً.

ترك وظيفته في المصرف الزراعي بسبب التحاقه بفرقة كان قد شكلها زميله في المصرف، عزيز عيد، والذي صار واحداً من أشهر المخرجين المسرحيين في مصر. ولكن الفرقة لم تقدم له وعداً بمجد فني كما لم تقدم له ما يغنيه من جوع، فتحول إلى عاطل عن العمل، وعن الفن كذلك، وصار جليساً دائماً في مقهى الفن مقابل أحد المسارح الشهيرة آنذاك.

يقول الريحاني في مذكراته إن عشقه للفن بدأ منذ طفولته، بل هو يوحي وكأنه ولد مفطوراً على هذا الشغف الذي ظل رفيقه حتى آخر يوم في حياته. ولقد ظن أنه وجد ضالته في فرقة سليم عطا الله، حيث أسندوا له دوراً في مسرحية درامية جادة عنوانها «شارلمان»، ويقول الريحاني أنه لعب دوره في العرض الأول بإتقان جعله يطغى على بطل المسرحية، صاحب الفرقة، سليم عطا الله، وقد تلقى التهاني والإشادات من الحضور ومن بعض زملائه، وعندما استدعاه صاحب الفرقة إلى غرفته اعتقد أنه سينال المزيد من المديح وربما علاوة مالية فوقه، غير أن سليم عطا الله كان استدعاه لأمر مختلف: كي يفصله من الفرقة، ومنذ الليلة الأولى.

توظف مجدداً، وهذه المرة في شركة السكر في نجع حمادي، وسرعان ما فصل من عمله، ليعود إلى التمثيل وينضم إلى فرقة مسرحية طافت به على مختلف أنحاء مصر، قبل أن يعود مجدداً إلى شركة السكر ويقضي بضع سنوات في نعيم الاستقرار وفي بحبوحة نسبية كانت نادرة في حياته حتى ذلك الحين. ولكن أخبار نجاحات جورج أبيض، رائد المسرح العائد حديثاً من الخارج، أيقظت هوس الفن في صدر الموظف المستقر، فترك الشركة، عام 1914، وهرع إلى القاهرة ليمثل في فرقة أبيض. وكان متوقعاً أن تكون الفرقة مستقره الأخير ومنطلق مجده المسرحي المنتظر، ولكن ما حدث هو خلاف ذلك، إذ لم تمض فترة طويلة حتى قام جورج أبيض بفصل الريحاني، فصلاً مسبباً بصيغة لافتة: «إن الريحاني بلا موهبة وهو غير صالح ليلعب أي دور في المسرح»!!.

بالطبع كان الريحاني غير مؤمن بهذا الحكم القاسي، بل، على العكس، كان متيقناً أن موهبته أكبر من أن يستطيع أحد فهمها وتقييمها. وهكذا أسس مع عزيز عيد فرقة «الكوميدي العربي» محققاً بعض النجاحات التي جعلت اسمه معروفاً.

ولكن عثوره على تميمة الحظ لن يكون في «الكوميدي العربي»، بل في ملهى «ابيه دو روز» الذي يملكه إيطالي يعيش في القاهرة، فهناك لعب مع استيفان روستي، الممثل الشهير، أدواراً في مسرح خيال الظل، وبعد قليل وجد كنز حياته، إذ تقمص، عام 1916، شخصية «كشكش بك» والتي صارت بسرعة الشخصية الكوميدية الأشهر في المسارح المصرية. وقد ظل «كشكش بك» ظل الريحاني الذي رافقه طويلاً وفي كل الأمكنة التي انتقل إليها، وحوله إلى من نعرفه اليوم: نجيب الريحاني نجم الكوميديا الأول، طيلة عقود، في مصر والمشرق العربي.

يروي الريحاني في مذكراته كيف جاءته فكرة الشخصية العجيبة، فذات صباح، وكان لا يزال على فراشه ينوس بين النوم والصحو، وإذا بطيف يمثل أمامه: رجل بعباءة وعمامة ولحية طويلة، في يد مسبحة وفي الأخرى عصا. وهب الريحاني من فراشه ليطلق اسماً على الطيف: «كشكش بك»، محدداً عمله: «عمدة كفر البلاص»، وتيمة حكاياته الأساسية: إنه ثري ريفي ساذج ومتلاف يأتي إلى القاهرة ليقع ضحية لغواني الملاهي اللواتي يتسابقن على خداعه والإيقاع به وسلبه ما في محفظته..

وقد بلغت شهرة الشخصية أن صار لها نسخ عديدة في بعض البلدان العربية وبلدان المهجر، فعندما زار الريحاني الشام ليقدم مسرحية عن «عمدة كفر البلاص» فاجأه الجمهور بصيحات الاستهجان مؤكدين أنه «كشكش بك تقليد»، ذلك أن «كشكش بك الحقيقي موجود هنا في الشام ويتحف جمهوره كل ليلة بمقالب كشكش الحقيقي الذي يميت من الضحك»!، وقد حدث الأمر نفسه عندما سافر الريحاني إلى البرازيل والأرجنتين، إذ كان بعض المهاجرين العرب هناك قد اقتبسوا الشخصية ونسبوها لأنفسهم.

ثمة بدهية تتعرض للدحض يومياً ومع ذلك تبقى بدهية، وهي أن الكوميدي على المسرح هو كوميدي في الحياة وفي الكتابة أيضاً. الريحاني، في مذكراته، يعيد تأكيد هذه البدهية ويمنحها مصداقية، فكتابته مرحة مليئة بالمفارقات، أسلوب رشيق وخفيف الظل، بل ويثير القهقهة في بعض المواضع. يلجأ إلى عبارات منمقة مزخرفة، وسريعاً ما يسخر من هذه الفذلكة، معتذرا أنه متأثر بالسادة أعضاء المجمع اللغوي. يقول مثلاً: «يا الله أين ذهب القوم الذين احتشدوا صباحا؟ وهل كانت مجرد مظاهرة قاموا بها ثم «افرنقعوا بعد أن تكأكئوا على المسرح كتكأكئهم على ذي جنة» شايفين الجملة يا خلق؟ أهو كل يوم من ده. أما أشوف بقى أنا والا المجمع بتاعكم!!». ويقول في مطلع المذكرات: «لست في حاجة إلى أن أرجع بالذاكرة إلى التاريخ الذي تلقفتني فيه كف العالم، فأقول مثلا إنني ولدت لخمس خلون من شهر كذا عام كذا.. أو أن ولادتي اقترنت بظهور كوكب دري في الأفق اعتبره أهلي طالع يمن وإقبال..».

نجيب-الريحاني
نجيب-الريحاني

والريحاني يسخر من نفسه بقدر سخريته من الآخرين، ففي فقرة طريفة يصف كيف قام بإفشال عرض لجورج أبيض، إذ كان الريحاني قد أخذ دور ملك النمسا في مسرحية درامية جادة، ومن المفترض أن تقوم الشخصية التي يلعبها أبيض بمبارزة الملك، ولكن الريحاني كان قد اجتهد في مكياج الشخصية، إذ نسخ صورة عن جريدة لامبراطور النمسا وقتئذ (وبالطبع هو غير ملك نمسا المسرحية القادم من عصر آخر)، وعندما ظهر على المسرح بدا كالمهرج ما أربك جورج أبيض وجعل الجمهور يعتقد أن المسرحية كوميدية، فضج بالضحك فيما أبيض يكاد يموت غيضاً.

والصراحة سمة أخرى للمذكرات، فالكاتب، مثلاً، يروي سبب فصله من شركة السكر بلا تردد: لقد ضبط في شقة زميله في الشركة وفي لقاء غرامي مع زوجته!.

ويثير كاتب المذكرات نقطة محيرة لا تزال موجودة حتى اليوم، وهو ميل الممثل الكوميدي إلى إثبات جدارته كممثل درامي جاد، بأي ثمن ومهما كلف الأمر، والريحاني لا يتوانى عن إعلان استيائه من إنكار الجمهور له كممثل دراما واعتباره نجماً كوميديا وحسب، ويلمح إلى أن الأمر لا يزال غصة في حلقه حتى ساعة كتابة هذه المذكرات!.

كشكش
كشكش

ولد الريحاني في العقد الأخير من القرن التاسع عشر، ومات بالتيفوئيد مع منتصف القرن العشرين، وهي مرحلة تاريخية غنية بالأحداث والمتغيرات والوقائع السياسية والاجتماعية المثيرة، ولكن قلما نلمح في المذكرات شيئاً مهماً عن هذا العصر، إذ اكتفى النجم بسيرته الشخصية ووقائع حياته الخاصة، مع إشارات سريعة إلى الشؤون العامة الجارية. وكذلك فقد انشغل بالوقائعي والإجرائي فكادت مذكراته تخلو من تأمل عميق أو رؤية فلسفية ما أو آراء لافتة في الحياة وشؤون العالم. على العكس مثلاً من مذكرات معاصرته فاطمة اليوسف (روز اليوسف) التي جاءت وثيقة تاريخية وفكرية ذات أهمية بالغة.

مقالات ذات صلة

- Advertisment -

الأكثر شهرة