عمرو علي
يتميّز الفيلم الروائي القصير (مدينة الملاهي) من تأليف و إخراج نور خير الأنام و إنتاج المؤسسة العامة للسينما و الحائز على ثلاث جوائز دولية بوصفه واحداً من ألمع الأفلام السوريّة القصيرة خلال الآونة الأخيرة،
ولا يُبنى هذا التميّز اعتماداً على جودة العناصر الفنّية و الاقتدار البّين في تسخير عناصر اللغة السينمائية و حسب،
و إنما ينطلق من الحبكة الدرامية المُغلقة التي يتبناها السيناريو رغم انتماء الفيلم بشكل أو بأخر إلى جنر أفلام الطريق، و من التعبير الحقيقي و الصادق عن وجه من وجوه أزمات المجتمع السوري خلال مرحلة ما بعد الحرب،
وصولاً إلى تقديم رؤية واضحة تُدين سلوكيات و أخلاقيات طُبِعَت المرحلة بطابعها وتندرج جميعها تحت بند الوحشية و الافتراس،
و هي رؤية لا تتسم بحال من الأحوال بالمُباشرة، حتى أنها لا تسعى إلى إدانة الشخصيات صراحة،
و إنما تُبدي قدرَاً حذراً من التفّهم و الحيادية،
و إن كانت تنتصر في الجوهر للضعفاء و المُهمشين في مجتمع ينضح بالعنف و الفجاجة،
حيث ينطلق كلّ ذلك من مُفارقة يولّدها عنوان الفيلم و الذي ينضوي بحدّ ذاته على سخرية مُبطّنة تتكامل مع رؤية كاتب الفيلم و مخرجه الهادفة إلى تشريح الواقع و النفاذ نحو التشّوه الكامن في أعماقه.
يبدأ الفيلم بلقطات متوازية بين ثلاث شخصيات رئيسية لا يبدو أن ثمّة رابطا بينها:
الأول هو أب (سامر عمران) يتلّقى لتّوه خبر وفاة ابنه في إحدى المُستشفيات،
و الثاني بلطجي (فرزدق ديوب) يُمارس سطوته على أخيه المُراهق حيث يدفعه للعمل عند جزّار في سوق اللحَّامين مقابل دجاجة يأخذها ليعود أدراجه إلى قريته المُتاخمة للعاصمة،
أما الثالث (حسام سلامة) فهو سائق سيَّارة تنقل البضائع من القرية و إليها،
حيث تتقاطع هذه الشخصيات لاحقاً في موقع واحد هو كراجات السوق،
إذ يُقدم البلطجي بخفّة و عن سابق خبرة على سرقة نقود السائق،
و بينما يفشل الأخير في إلقاء القبض على سارِقِه عقب مُطاردة قصيرة،
يكون الأب قد وصل إلى الكراجات ليتفاوض مع السائق عيَنه على أجرة نقل تابوت ابنه من دمشق إلى نجها حيث نجح في تحصيل قبر شبه مجاني بالنقود القليلة التي بحوزته،
إلا أن السائق سرعان ما يدّعي خلال الطريق نشوب عطل في السيَّارة ليطلب من الأب المُساعدة في دفعها قبل أن يشتغل المُحرّك من جديد و ينطلق السائق مُخلّفاً الأب وراءه في العراء مدفوعاً برغبته في سرقة حقيبة هذا الأخير كنوع من التعويض السريع عن خسارته المدوية جرّاء السرقة،
قبل أن يكتشف ضآلة المبلغ الموجود في الحقيبة و الذي لا يتجاوز بضعه آلاف من الليرات.
في سورية موجة سينمائية جديدة يقودها سينمائيون شباب مسكونون بهموم الواقع اغتمادا على شخصيات تنتمي إلى الطبقات المهمشّة و المسحوقة
يلتقي الأب بالبلطجي العائد نحو قريته على متن درّاجته النارية و يُوافق الأخير على إيصال الاب إلى أقرب نقطة من وجهته ليكشف بموقفه هذا عن جانب إنساني لا يمكن إغفاله، لينزل الأب لاحقاً بجوار مدينة ملاهي مهجورة يكون السائق قد ترك عند بوابتها الحقيبة الجلدية و تابوت الابن ليبقى الأب واقفاً في انتظار وسيلة تقلّه نحو المقبرة.
يزخر الفيلم بدلالات تحتمل عدّة قراءات لعلّ أبرزها الأعطال الكثيرة التي تُصيب سيَّارة السائق و درّاجة البلطجي في إشارة واضحة إلى تعطّل حياة هذه الشخصيات المجبولة بوحل الواقع و التي تمارس مهناً مؤقتة تكاد لا تكفي لسدّ الرمق،
و على المقلب الآخر تبدو رحلة الأب لدفن ابنه بمثابة رحلة اكتشاف طويلة و قاسية للمُتغيرات التي أصابت المُجتمع خلال السنوات الأخيرة طالما أن حادثة وفاة الابن قد وضعت الأب بانطوائيته و خجله في مواجهة مفتوحة مع شخصيات وليدة عصرها تركض لاهثة في سبيل البقاء على قيد الحياة ضاربة عرض الحائط بالقيم و المبادئ الإنسانية،
لتبدو مدينة الملاهي في مشهد النهاية بألعابها الضخمة الماثلة في الخلفية أشبه بحُلم مفقود لا سبيل إلى تحقيقه طالما أن جثة الابن لا تزال مُمَدَّدة داخل التابوت في إعلان صريح عن نهاية مرحلة كان يُمكن لها أن تمتاز بالبراءة و السعادة و اللهو لولا أن الزمن الآن يبقى مفتوحاً على الوحشة و الخواء في مواجهة أسئلة ما بعد الموت بغموضها و احتمالاتها اللانهائية،
و بهذا المعنى يُسفر الفيلم النقاب عن أسئلة وجودية دون أن يتخلّى في الآن نفسه عن واقعيته، و إن كان ثمّة في اللقطة الأخيرة جنوحاً نحو التركيب القائم على مُصادفة صعبة التحقّق حين يُقرّر السائق ترك الحقيبة و التابوت عند مدخل مدينة الملاهي،
إلا أنه يمكن تفهّم هذا التركيب بوصفه ضرورة درامية تفرضها دلالة الصورة التي لا يُمكن للفيلم أن يكتمل بدونها، و إن كانت شخصية الأب تتسم على صعيد البناء الدرامي بالسلبية طالما أنها لا تُقدم على الفعل،
فإنها في الحقيقة تتجاوز مجرد كونها شخصية درامية لتتحّول تدريجياً إلى مُعادل لشريحة واسعة من محدودي الدخل و البسطاء والمُستضعفين عديمي القدرة على المُواجهة،
خاصّة إن كانت تلك المُواجهة إزاء نماذج طفيلية تمتهن السرقة و لا تتوانى عن الأذية،
بينما تشتبك الفاجعة الشخصية المُتمثلة بموت الابن في الإطار الخاص مع خسائر بالجملة عنوانها العريض الانهيار الأخلاقي و القيمي في الفضاء العام.
يتخفّف الفيلم على الصعيد الفنّي من أعباء الحوار الذي جاء مُقتَصَداً على نحو بعيد،
كما يتعفّف عن استخدام الموسيقى التصويرية على غير عادة الكثير من الأفلام السوريّة التي تتعامل مع الموسيقى بوصفها مقداراً من مقادير وصفة مضمونة لإثارة التعاطف و استفزاز المشاعر طالما أنها تشحن المُتفرّج عاطفياً على حساب التأمل و التفكّر في الحدث أو الدلالة،
لينتصر الفيلم بكّليته للصورة مُستنداً إلى قدراتها التعبيرية دون أن ينحو على المستوى البصري إلى الاستعراض أو الإغراق في التكوينات الجمالية التي تُثير عادةً شهية السينمائيين الشباب،
و هذا ما يؤكّد على نحو قاطع موهبة مخرج الفيلم و تمكنّه،
وسط تعامل حذر و مدروس مع مختلف العناصر السينمائية دون مُبالغة أو إفراط،
ليبلغ الفيلم في المحصلة درجة مُتقدمة من درجات التجانس بين الشكل و المضمون،
رغم التفاوت في مستوى الأداء بين الممثلين و خاصّة السائق الشاب و الذي يبدو أداؤه طريَّاً على عكس ما تفرضه تركيبة الشخصية و طبيعة عملها.
يُعبّر (مدينة الملاهي) إضافة إلى أفلام روائية قصيرة أخرى أبرزها (يوم عادي جداً) لأنس زواهري و (فول أيس) لسليم صبَّاغ عن موجة سينمائية جديدة يقودها سينمائيون شباب مسكونون بهموم الواقع و يسعون بجدّ نحو النفاذ إلى أعماقه البعيدة اعتماداً على شخصيات تنتمي إلى الطبقات المهمشّة و المسحوقة بدءً من سائقي سيَّارات الأجرة مروراً بعُمَّال المطاعم وصولاً إلى الموظفين المُتقاعدين و الشبَّان العاطلين عن العمل،
لتنهل أفلامهم من الواقع و تُعيد تالياً إنتاجه وفق رؤى ذاتية تُثير بمعظمها أسئلة وجودية كبرى و تُعبّر في الآن نفسه عن المرحلة الراهنة بقُبحها و وحشيتها دون تجميل أو تسطيح،
و الأهم أن كلّ ذلك يجيء عبر لغة سينمائية مُتقدّمة و متطورة لا تخلو من السعي نحو التجديد و الإبداع،
و هذا ما يفسر بالتأكيد حصول معظم هذه الأفلام على جوائز مرموقة و تسجيلها لمشاركات هامّة في مهرجانات عربية و دولية،
و هو ما يزيد بالتأكيد من توهّج الأفلام المذكورة بوصفها علامات فارقة على طريق سينمانا المُشتهاة.