جوى للانتاج الفني
الرئيسيةمبدعونمحمد ملص .. سيرة إبداعية موزعة بين عشق الكلمة والشغف بالصورة

محمد ملص .. سيرة إبداعية موزعة بين عشق الكلمة والشغف بالصورة


أنتمي إلى سينما ذات صلة عميقة بالواقع والمجتمع

المخرج المخضرم محمد ملص غنيّ عن التعريف. إنه ظاهرة سينمائية قائمة بذاتها، لا يمكن لأحد أن يتحدث عن السينما في سورية دون أن يتوقف عند تجربته ويلاحظ بصمته الخاصة عليها، منذ فيلمه الروائي الأول «أحلام المدينة» (1984)، وصولاً إلى فيلمه التسجيلي الأخير «أنا يوسف يا أبي» (2023).

أطلقت العديد من الألقاب على ملص، لكن أكثرها التصاقاً بتجربته المهنية السينمائية، هو لقب رائد سينما المؤلف السورية، مثلما كان من روادها الأوائل على مستوى العالم العربي أيضاً.
حاز على العديد من الجوائز العربية والعالمية، وتم  تكريمه في عدد كبير من المهرجانات السينمائية.
وقد صُنّف فيلماه «أحلام المدينة» و«الليل»، ضمن قوائم أفضل الأفلام في تاريخ السينما العربية.

قبل سفره إلى موسكو لدراسة الإخراج، درس الفلسفة وعمل كمدرس بين سنتي 1965 و 1968.
ثم جمع بين عشقه للسينما وشغفه بالكتابة، وكان يأمل أن يصبح كاتباً أو روائياً.
لذلك، وقبل أن يصنع فيلمه الطويل الأول، نشر رواية «إعلانات عن مدينة كانت تعيش قبل الحرب»، (دار ابن رشد/ 1979).
ثم نشر العديد من الكتب الأخرى؛ منها كتاب «قيس الزبيدي/ الحياة قصاصات على الجدار»،
يوثق فيه علاقته وصداقته ومشاريعه المشتركة مع هذا المخرج العراقي الذي عاش شطرا كبيرا من حياته في سورية.
وكذلك «وحشة الأبيض والأسود»، وهو مفكرة سينمائية تؤرشف لمشاريعه المجهضة.
إضافة إلى نشر العديد من السيناريوهات، سواء لأفلامه التي صنعها (مثل المنام)،
أو تلك التي لم يتمكن من تحقيقها (مثل حين فقدنا الرضا/ 2022)، الذي بقيَ حتى اليوم مشروعاً على الورق.

 يحتاج المرء إلى كتاب، على الأقل، ليغطي كامل تجربة محمد ملص السينمائية والإبداعية، ولكن للحوار قوانينه ..

– لو لم تصبح مخرجاً بهذه القيمة والأهمية، هل كان يمكن أن تبقى مدرساً لمادة الفلسفة، أم أنك كنت ستتجه لتصبح كاتباً مهتماً بشؤون الفلسفة، أو روائياً، وخصوصا أن لديك رواية مطبوعة؟

 ــ أولا سلامات وأهلا وسهلا بكم. أما بالنسبة لسؤالك؛
في الحقيقة أنا لم أكن مرة أرغب أو أطمح أن أكون مدرساً للفلسفة،
لقد اخترت الفلسفة أساساً لشعور لدي بأن ما قرأته لوقت طويل، يحتاج إلى الفلسفة لأتمكن من أن أكون كاتباً،
وكان هذا هو طموحي الأساسي في البداية، (قبل أن تحتل السينما هذه المكانة).
وكان تصوري أن أداتي إلى ذلك هي الكلمة، وكل هذه السينما التي كرست حياتي لها، أيضاً،
لم تأت إلا بالصدفة والحب.
أنا درست السينما محبةً وبالصدفة المحضة حين تم اختياري للسفر إلى موسكو لدراسة السينما ضمن مسابقة «طويلة عريضة»، حيث فوجئت بأنه تم قبولي لهذه الدراسة.

– أصدرت منذ سنوات مفكرة سينمائية؛ بعنوان «وحشة الأبيض والأسود»، سجلت فيها مشاريعك السينمائية المجهضة. والسؤال: إلى أي حد حققت فيه طموحاتك الفنية، علماً أن طموحاتنا، غالباً، أكبر من قدرتنا على تحقيقها، ضمن الظروف المعروفة التي نعيشها؟

ــ كتاب «وحشة الأبيض والأسود»، وهو بالفعل مفكرة سينمائية، لم يكن كتابي الأول،
إنما سبق لي وحققت عددا من الكتب، ربما شكلت القنيطرة، باعتبارها مسقط الرأس،
منطلقاً وتحدياً لم يكن بمستطاعي إلا أن أعود وأبنيها مجدّداً على الورق بعد أن دمرها الإسرائيليون.
وكانت رواية «إعلانات عن مدينة كانت تعيش قبل الحرب» هي كتابي الأول.

فيما بعد، وحين استغرقت في العمل السينمائي كان يتاح لي كثير من الوقت للكتابة،
نظراً إلى أن الانتاج السينمائي في سورية يعتمد بشكل أساسي على المؤسسة العامة للسينما فقط،
وليس هناك انتاج للقطاع الخاص، وفي تلك الفترة كان كل مخرج ينتظر دوره للحصول على فيلم،
وهذا منحني الوقت للعودة إلى طموحي الأولي،
لأن السينما صارت هي طموحي الأساسي،
والكتابة هي واحدة من طموحاتي التالية.
فحين يتاح لي الوقت كنت أستعيد الكثير مما أكتبه من يوميات؛ سواءً خلال تفكيري في تحقيق فيلم، أم خلال تصوير هذا الفيلم،
وما يحققه الفيلم لاحقاً من أصداء. هذه اليوميات أخذت تشكل بالتدريج، المرجع الذي تستند إليه كتاباتي فيما بعد، بين انجاز فيلم وآخر.

محمد-ملص
محمد-ملص

وأنا بطبيعة الحال، لست ذاك المخرج الذي يستعجل تحقيق فيلم جديد ما أن ينتهي من فيلمه الذي يشتغل عليه ـ
لا فرق لديه كيف سيكون هذا الفيلم ـ
بل إنني أتأنّى وأدقق كثيرا في اختياراتي، وأعتبر أنني أنتمي إلى سينما قائمة على صلة حقيقية وعميقة بالواقع والمجتمع، وعلى ما يعيشه هذا المجتمع من مشاكل وحيثيات في الزمان والمكان المحددين في إطار الفيلم.
وغالباً ما أستخرج من هذه المعايشة بنية درامية وأساسية لفيلمي القادم.

وبين فيلم وآخر يحصل انقطاع زمني يفسح في المجال أمامي أن أتأمل بهذا الفيلم بشكل عميق،
وأن أشحنه بما أريد من وسائل تعبيرية ومن الشغل على موضوع الصورة واللون والضوء لتحقيق ما أصبو إليه.
لا أترك لأي هفوة أن تؤثر سلبياً على فيلمي، بل أسعى إلى تمكينه،
وفق مفهومي ومنظوري الخاص في التعامل مع السينما،
من امتلاك كل العناصر اللازمة التي تسمح بتحقيق الفيلم على أفضل شكل أطمح إليه. وهكذا كان يمكن لكتاب لي أن «يزمط» بين فيلم وآخر.

ــ في الدردشة التي سبقت المقابلة ألمحت إلى اشتغالك على رواية جديدة، هل يتصل موضوع هذه الرواية بنفس الانشغالات والهموم السابقة التي حكمت روايتك الأولى وكتاباتك اللاحقة؟

ــ لقد مرّ حوالي أربعون عاما منذ إصدار روايتي الأولى،
وأنا أعيش حياتي من أجل السينما والكتابة، وأوزع وقتي بينهما لأحقق ما أود تحقيقه،
وليس لدي أية انشغالات أو مهام أو أهداف أخرى. وأنا لا أعتبر نفسي كاتبا محترفا،
إنما أعتبر أن الطريقة الأدبية التي أصيغ بها كتبي هي محاولة للتأسيس لأدب بصري ذي أهمية لا تختلف أبدا مع ما أعيشه وما أعانيه بالذات.

وأنا حاليا أشتغل على رواية جديدة ما دام ليس لدي تصوير، وفيلم أشتغل عليه، مع أنه لدي سيناريوهات كثيرة تنتظر في الأدراج، ربما لا يساعدني العمر على تحقيقها كاملة. وهذه السيناريوهات أكتبها عادة بصيغة وطريقة أدبية تصلح للقراءة، ومن ثم تحويلها لاحقا إلى كتاب، مثلما تصلح للتحقيق كفيلم. وإضافة إلى الرواية الجديدة، لدي الآن سيناريو جديد سينشر قريبا في «كراسات سينمائية»، وهي مجلة جديدة صدرت في السعودية منذ فترة قريبة. ربما نشر هذا السيناريو سيعطيه فرصة للتحقق كفيلم، طالما أن المؤسسة العامة للسينما لا تريد أن تتعاون معي في تحقيق أي فيلم جديد، علما أنني منذ سنة 1994، بعد الانتهاء من فيلم الليل، توقفت هذه المؤسسة بكل الإدارات التي جاءت إليها، وبكل الوزارات الثقافية التي جاءت بعد الدكتورة نجاح العطار، عن التعاون معي ولم تتح لي الفرصة لتحقيق أي فيلم آخر.

لا بأس، ولكن في آخر المطاف يمكن أن نعثر على منتجين يشاركونني العمل، كما حصل في العديد من الأفلام، كما في فيلم «باب المقام» و«سلم إلى دمشق»، التي حققتها بالتعاون مع منتجين غير سوريين، مع أن الفيلمين ينتميان إلى السينما السورية بكل مل تنطوي عليه هذه الكلمة من معنى.

– يقال أنك مخرج حازم (ديكتاتوري بمعنى ما) في أعمالك، هل هذا صحيح أولاً؟ وهل مهنة الإخراج لا تتوافق مع أن يكون المرء ديمقراطيا فيها؟

ــ حسناً، ما يقال يقال، أحياناً يكون صائبا وأحيانا لا، وخاصة أن الثقافة العربية، (وعلى رغم وجود عدد لا بأس به من النقاد السينمائيين، وقد رحل الكثيرون منهم)، تعيش في هذه الفترة ما يمكن تسميته القراءة السريعة للأعمال، وبالتالي يلجأ عدد من المتابعين أو النقاد إلى ادعاءات غير دقيقة.

كلمة حازم هي صحيحة، لأنني لا أبدأ التصوير إلا وقد أصبح الفيلم خلية من خلاياي، وممتلئاً فيّ داخليا عبر أحاسيسي ومشاعري وذاكرتي، لأن السينما بالنسبة لي هي عشق. بيد أن هذا لا يمنعني من النظر إلى الأشياء والأشخاص الذين أتعامل معهم دائما بمحبة واحترام. ولقد عملت مع عدد كبير جدا من الممثلين المحترفين وبقيت علاقتي معهم جيدة، ولم أفقد يوما الصلة الشخصية والمحبة المتبادلة بيننا، وفي كثير من المرات أجد نفسي أسيراً بشكل حقيقي لهذه العلاقات، ومنها علاقتي مثلاً مع الفنان رفيق سبيعي، حيث كانت لقاءاتنا تغمرها المحبة والحميمية، حتى حين كنت ألتقيه صدفة في السنوات الأخيرة قبل رحيله.

إني حازم هذا صحيح، أما أن أحقق أفكاري عبر اللجوء إلى العنف، أو الطريقة غير المحترمة في التعبير،
فهذا شيء لا أنتمي له؛ لا بتربيتي التي تلقيتها في الحياة، ولا بعلاقتي مع السينما.
وعلاقاتي مع الجميع، سواءً من أعرفهم بصورة مباشرة أم غير مباشرة، قائمة على المحبة والاحترام،
ويمكنك أن تسأل كل الممثلات والممثلين الذين تعاملت معهم. أما إذا كان المقصود هو الاضطرار أحيانا إلى إعادة اللقطة مرات عديدة،
فهذا أمر تقني بحت يتعلق بمدى دقة وجلاء المشهد الذي نبحث عنه، سواء في الصورة أم في الصوت، وخاصة أننا كنا نشتغل بدون وجود جهاز مينيتور يرينا ماذا نصور،
فإذا كان لدي إحساس بأن اللقطة غير دقيقة لأسباب تقنية أو فنية، أعيدها.. ما المشكلة؟!،
وهذا ليس انتقاصاً من الطاقم الذي لدي؛ سواء مدير التصوير، أو مدير الإضاءة أو الصوت،
ثم هناك حدود دائماً لعملية الإعادة بسبب محدودية أشرطة النيغاتيف الممنوحة لنا خلال عملية التصوير.
وفي كل الأحوال فإن الإعادة قضية مهنية وليست سمة في الشخصية.

– بدا فيلم «المهد» الذي يتناول التاريخ القديم وغزو أبرهة الحبشي للجزيرة العربية، مغايرا تماما لسيرتك السينمائية المعروفة، هل كان هذا الفيلم أشبه بالمغامرة من قبلك؟

ــ في الحقيقة كلمة المغامرة صالحة إلى درجة كبيرة في توصيف هذا العمل، لكن رغبة والحاح الجهة المنتجة عليّ، وهي إماراتية، في أن أصور هذا الفيلم جعلني أقبل. وقد كان لدي اعتراضات على السيناريو، فقمنا بمحاولة إعادة صياغته بما يسمح بتأويل الحدث الحبشي بكسر قبيلة و«دولة» كندة، (وأقول دولة وأضع تحتها خط، لأنها كانت دولة على درجة متقدمة في تطورها التاريخي)، أقول حاولنا قدر الإمكان إعادة صياغة هذا الحدث بما يسمح بتحويله من حدث تاريخي محض إلى حدث يحمل اسقاطات راهنة في ضوء الوضع السياسي الذي كان قائما في العام 2005، إثر الغزو الأميركي للعراق.

والمفارقة العجيبة التي حصلت هي عدم التلاقي في الرؤية بين الانتاج والإخراج، ومع ذلك نفذنا الفيلم وفق أفضل المستويات التقنية والفنية. ولكن بالنتيجة أراد المنتج أن يقول لنا: يعطيكم العافية، دفعت ثلاثة ملايين ونصف، ولكن اتركوا هذا الفيلم لي، وكأن الفيلم ملك الانتاج فقط. وهكذا بدا هذا الفيلم مغايراً لسياق الأعمال الفنية التي اشتغلتها، وبدأ مغامرة فعلا، وانتهى إلى ما انتهى إليه. ولكن بالنسبة لي أعتز بتحقيق هذا الفيلم في بيئة تاريخية مختلفة كثيرا عن البيئة التي اعتدت العمل فيها.

– هل ثمة صلة ما بين الفن السينمائي والفن التشكيلي، هل صناعة السينما هي فن تشكيلي، أو تشكيل بمعنى ما، ما دام هاجسها الأول هو المشهد (أي الصورة المميزة)؟

ــ الصورة هي فعلا الهاجس الأول والأساسي في تحقيق الفيلم والسينما الجيدة. والتدقيق التاريخي المتعلق بالصلة بين الفنين (التشكيلي والسينمائي) يفيد أن إطلاق الفن السابع على السينما جاء بناء على أنها تأخذ بعين الاعتبار وتستوعب كلّ ما قبلها من فنون، ومنها الفن التشكيلي، إضافة إلى الفنون المنتمية للأدب أو الرسم والنحت أو الموسيقى، كإيقاع واستقبال، وبالتالي، نعم الصورة هي الهاجس.

– بالنسبة للوثائقي الذي حققته عن تجربة الفنان التشكيلي يوسف عبدلكي. تساءل كثيرون؛ لماذا يوسف عبدلكي؟ بماذا تردّ على هؤلاء؟

طبعاً السؤال مشروع، والجواب موجود في فيلم «أنا يوسف يا أبي»، لأن هذا الفيلم هو محاولة للتعبير عما حققه هذا الانسان، وتسليط الضوء على القيمة الكبيرة؛ الفنية والتعبيرية والانسانية، لما حققه.

يوسف عبدلكي فنان هام جدا، على صعيد الفن التشكيلي والغرافيك والحفر على المعدن. ومنذ اللقطات الأولى للفيلم كان يوسف وفيا للواقع ومحاولة التعبير عنه، كما يُحسّه ويفهمه ويريد أن يشاغب عليه ويسخر منه. وهو رجل ذو ثقافة فكرية هامة للغاية، انعكست بقوة في إبداعه وجميع لوحاته وأعماله الفنية التي حققها على مدى عقود. ولوحاته ليست نسخا للواقع، بقدر ما تعبر عن رؤية وإضافة إبداعية لهذا الواقع. ولذلك من البساطة بمكان الإجابة عن التساؤل المطروح.

– بدوت في فيلم «سُلم إلى دمشق»، وكأنك تزاوج بين الأسلوب الروائي والأسلوب التسجيلي، حيث يحضر، على سبيل المثال، الكاتب والمخرج المسرحي غسان الجباعي كشاهد أكثر من كونه ممثلاً، ما قولك في ذلك؟

ــ «سلّم إلى دمشق» ككل هو أشبه بشهادة سينمائية لما جرى عام 2011، قبل التطورات التي حدثت لاحقاً. وبالنظر إلى أنني سبق وحققت فيلماً عن غسان الجباعي بعنوان: «فوق الرمل.. تحت الشمس»، فقد احتجت إلى شهادة السجن من ذلك الفيلم، فأخذتها منه ولم أصور شيئا جديدا.

– السينما عندنا كانت، ولا تزال بالتأكيد، تمر بأوقات وظروف صعبة، وبسبب ذلك تحول كثير من المخرجين إلى التلفزيون، أنت لم تفعل، أليس كذلك؟

ــ إنه كذلك فعلاً. وبصراحة، في البداية (بداية السبعينات) كان لدي وهم بأننا سنحقق عبر السينما السورية الكثير من الأفلام، ولذلك توجهت إلى السينما فقط، في وقت لم تكن فيه الدراما التلفزيونية، كتعبير بصري، بالأهمية التي هي عليه الآن. ويمكن العودة بالذاكرة إلى الصديق هيثم حقي، الذي تخرج معي من معهد السينما، (لكنه توجه إلى الدراما التلفزيونية)، وهو أول من اتخذ الخطوة الأولى بنقل الكاميرا التلفزيونية من الأستوديوهات إلى الشارع، كما استمر في التطوير النوعي والهام على الصعيد البصري للدراما التلفزيونية.

أما أنا فبقيت في إطار السينما، في حين أنّ التغير والتطور التقني كان يحصل على صعيد المشاهد وغياب السينما؛ كإنتاج وكحياة في الشارع، كما غاب العديد من المخرجين أيضا، فتضاءل إنتاج المؤسسة العامة للسينما كثيرا، وهو قليل في الأصل، ووصل الأمر إلى غياب حتى صالات العرض. (لاحظ أن دمشق لا يوجد فيها سوى صالة واحدة، وفي المدن الأخرى ينعدم وجود الصالات تماما). فلم يعد هناك إمكانية للعرض وإيصال الفيلم إلى المتفرج إلا عبر التلفزيون أو عبر المهرجانات والتظاهرات السينمائية التي تحصل، كل ذلك ساهم بوجود دراما تلفزيونية أكثر تطورا مما كانت عليه سابقا، إلى الدرجة التي تجعلني على استعداد لقبول الإخراج لصالح التلفزيون في حال توفر النص الجيد، مثلما فعل المخرج السينمائي محمد عبدالعزيز حين أتيحت له الفرصة لأن يحقق شيئا ذا أهمية، (مثل مسلسل «النار بالنار» الذي تألق بإخراجه)، وذلك عبر منتج جدير وذي باع طويلة، فـ«الصباح» ليست شركة محدثة، بل بدأت في الانتاج السينمائي قبل أن نولد نحن.

– سينما المؤلف، السينما البديلة، ثم السينما المستقلة، ثم ماذا؟.. محاولات أغلبها كان متعثراً، ما هو بتقديرك مصير الانتاج السينمائي في هذا البلد؟

ــ هنالك فرق بين الأشكال التي سبق وذكرتها. دعنا ندقق في التعاريف والمصطلحات، فالسينما التي نشأت في سورية كانت بديلاً للسينما التجارية، وهذه حقيقة، فإذا عددنا الأفلام السورية الأولى، (السكين، المخدوعون، اليازرلي، الحياة اليومية في قرية سورية، القنيطرة 74، الفرات، وغيرها)، هذه الأفلام التي تم تحقيقها في الخطوات الأولى للمؤسسة العامة للسينما، هي سينما بديلة تدرك المعنى السينمائي بشكل عميق بين الروائي والوثائقي ومحاولة التعبير عن القضايا التي كان يعيشها المجتمع السوري آنذاك. لذلك لنترك المصطلحات والمفردات جانبا، فلكل فيلم هويته، لأن سينما المؤلف ليست تلك التي يقوم فيها المخرج بكتابة النص فحسب، كما يشاع أحيانا هنا، إنما هي السينما التي تكتبها أنت وغيرك، أو أنت وحدك، لكنها تريد أن تعبر عن عالمك الداخلي وانعكاس الواقع على هذا العالم الداخلي، والتقاط طرق التعبير والأفكار التي تساعد هذا المجتمع على التطور والنهوض.

أما عن مصير الانتاج، فإنه لا يخضع إلى التعدد في الأشكال والتسميات، بل يتعلق بمساهمة الدولة عبر المؤسسة العامة للسينما بشكل أفضل، وإتاحة الفرصة للتعبير بحرية عن الأفكار والآراء التي يحاول السينمائيون التعبير عنها، سواء كانوا ينتمون إلى الجيل القديم أم الجيل الشاب حاليا.

ــ هل يصحّ هنا استمرار التعويل على المؤسسة العامة للسينما؟

ــ لا أبدا، أبداً. ولكن في غياب فرص الانتاج الخاص، ليس هناك طريق آخر. وعلى السينمائيين أن يبحثوا عن حلول بأنفسهم، وخاصة في ضوء التطور التقني الكبير. فاليوم الشباب يحققون أفلامهم بمنتهى البساطة والصدق دون وجود أي انتاج خارجي، وهذا سيساعدهم مستقبلا بعد مشاهدة أعمالهم في المهرجانات، وبالتالي احتمال توفر شركات انتاج تساعدهم وتأخذ بيدهم.

ــ من فيلم «أحلام المدينة» (1984)، إلى «الليل» (1992)، هي أقرب إلى سيرة ذاتية تتكرر فيها تيمات الطفولة والأحلام، باحثة عن الزمن الضائع أو المفقود؛ سواءً على المستوى الذاتي، أم على مستوى الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية للمراحل التي تتناولها.. هل هذا صحيح؟

ــ تعال نلقي الضوء على الحقيقة، فمنذ بدأت التفكير بالعمل الروائي والبحث عن دور لي في السينما السورية، سعيت إلى محاولة رسم صورة لسوريا خلال خمسين عاماً، منذ البداية وأنا لم أكن أعرف ماذا سيحصل. وقد بدأت فيلم «أحلام المدينة» معتمداً على الأحداث الشخصية كمتكأ للرواية. لاحظ أنه ليس في ذاكرتي طفل يرى الشام ويصرخ، كما في بداية الفيلم، «يا أمي، يا الله ما أحلى الشام، تعالي شوفي»، هذا ليس من الذاكرة، ولهذا يجب أن أطرح أمامك تدقيقاً سينمائيا وثقافياً وهو أن الذاكرة هي متكأ للاستعانة بالحدث للتعبير عنه.

كان الانتقال بالنسبة لي شخصيا من القنيطرة إلى دمشق، بعد وفاة والدي، متكأً لكي أتحدث عن دمشق التي عشتها مع بداية الخمسينات. فأنا أحقق فيلماً بعنوان «أحلام المدينة» عام 1984، وأتحدث عن الوحدة (المصرية ـ السورية) التي سقطت في العام 1961. فأنا لا أعود إلى الماضي لكي أرويه، إنما أختار هذا الماضي الذي أريد التعبير عنه لأقول حقيقة فكرية ما. هذا الاتكاء على الماضي لإظهار الحدث كان يهدف إلى عكس صورة الشارع والحياة السياسية في دمشق، في الخمسينات، وفي حي شعبي كالحي الذي أظهرته في الفيلم. ونلاحظ أن الشارع كان يحفل بالحياة والانتخابات والمظاهرات، ومع ذلك، كنت أريد أن أشكو من غياب السياسة في الشارع. فالشارع كان خاويا عند سقوط الوحدة.

وفي فيلم «الليل» لا يختلف الأمر عن ذلك إلا بشيء واحد وهو عودتي إلى الوراء، أي إلى المرحلة الأولى في تاريخ سوريا التي حدث فيها أول انقلاب عسكري سنة 1949، وقد تحدثت عن تلك الفترة وما كانت عليه القنيطرة آنذاك. وكان من المفترض أن يكون هذا الفيلم هو الأول، و«أحلام المدينة» هو الثاني، كتحقيب تاريخي لتلك المرحلة من تاريخ سوريا.

– من المعروف، طبعا، أن الأحلام (المنامات) تحضر بكثافة في أعمالك، ومنها فيلم «المنام»، و«سلم إلى دمشق»، إضافة إلى فيلمي أحلام المدينة والليل، هل هذا تعويض عما نفتقده في الواقع، عما لا نستطيع قوله وفعله فيه؟

ــ لا هذا ليس تعويضاً عن الواقع، بل هو يتصل بجانب شخصي أخذ أهمية كبيرة في حياتي،
وهو القدرة على تذكر المنامات التي أراها والتوقف مطولاً عندها،
ليس لتحليلها وتفسيرها واللجوء إلى المختصين في ذلك،
إنما لما تختزنه هذه المنامات من قدرات هائلة في قراءة الأشياء التي حصلت معي، وإعادة صياغتها بأمكنة غريبة ومختلفة، إلى ما هنالك.
وهذا الاهتمام الشديد بالمنامات كان جزءاً من اهتمامي بالمعنى السينمائي حول المكان والزمان والفكرة،
وعلاقة تفاصيل ذلك ببعضهم البعض؛ كيف يخلط المنام بين الأشياء ويعيد تشكيلها بصورة مختلفة.
هذا الاهتمام الذي استمر مثيرا ومعلماً بالنسبة لي، جعلني أستند إليه في رؤية وبناء الشخصيات خلال المراحل الزمنية التي تناولتها.
وعلى ذلك، كان للمنام دور وأثر كبيران في حياتي وصناعتي للأفلام أو الكتابة عنها.

وفي فيلم «المنام» دخلت إلى وجدان الشعب الفلسطيني، لتثبت بجمالية فنية عالية،
أنه يعيش حلماً واحدا هو فلسطين والعودة إليها، ماذا تقول حول هذا الفيلم؟

فيما يخص هذا الفيلم، كانت خطرت على بالي فكرة تبناها «اتحاد التسجيليين السينمائيين» العرب،
وقدم لي منحة لتحقيقها. كنت أريد عبر «المنام» أن أصور فلسطين كما يراها من رآها من قبل، وكما يراها،
ويقاتل ويدفع حياته من أجلها، الجيل الجديد الذي لم يرها أبدا من قبل،
ولكن ورث هذه «الفلسطين» في المنام، ولذلك لجأت إلى صناعة فيلم «المنام».

ولم أكن أدري وأنا أكتب هذا الفيلم وأحضّر لصناعته،
أن ما أفعله سيكون له أهمية كبيرة. وفعلاً بعد أن أنجزت الفيلم، وجرى ما جرى من مجازر صبرا وشاتيلا أيضاً،
حيث رحل جراءها كثيرون ممن رووا لي مناماتهم، أو حدثوني عن فلسطين ولماذا يقاتلون من أجلها.
حفزني ذلك كله، وبالاستناد إلى الوثائق التي أنجزتها أثناء تحضيري للفيلم،
إلى كتابة كتاب بعنوان «المنام»، وحين قرأ صديقي الياس خوري، الكاتب والروائي اللبناني المعروف،
مخطوط هذا الكتاب، بادر وأخذه فوراً، ومن دون استشارتي، إلى «دار الآداب» التي نشرته سنة 1990.

ويبدو أن الفيلم كان هاماً وجميلاً ومؤثراً، إذ لقي إشادة كبيرة من النقاد،
إلى درجة دفعت لجنة الإبداع والتجديد للبرامج والأفلام الوثائقية في مهرجان كان،
وهي واحدة من أهم من يقيم الأعمال السينمائية على مستوى العالم،
إلى منحي «جائزة الإبداع والتجديد» مناصفة مع فيلم آخر، وهو فيلم «تروتسكي».
وقد أسعدني ذلك طبعاً، لأنّ منحي الجائزة دلّ على أن هذا الفيلم قد أوصلني إلى ما أصبو إليه على صعيد الفكرة وشكل التعبير عنها.
وهاتان القضيتان هما أساس التحضيرات الروحية والوجدانية والعقلية التي أعرفها والتي درستها وجعلت مني سينمائياً يطمح إلى تحقيق الفيلم بالصورة التي أرغبها وأتمناها. ولا أخفيك أنّ الكتاب حظي كذلك باهتمام موازٍ،
إذ تمت ترجمته إلى الانكليزية ونشرته الجامعة الأميركية في القاهرة، وهكذا فالنتائج لا بأس، كانت جيدة والحمد لله.

– ما دمنا في صدد الأحلام، هل تعتقد أنه ستتاح لك الفرصة لإنجاز فيلمك الثالث الذي تكمل فيه ما أطلقت عليه ثلاثية «بورتريه تاريخي» لسوريا،
بدأته في «أحلام المدينة» تعبيرا عن (الشارع المفقود)، ثم «الليل» تعبيراً عن (المكان المفقود)،
وصولاً إلى «سينما دنيا» كتعبير عن (الذات المفقودة)، والذي ينتظر في الأدراج؟

لنكن واضحين وصريحين، علينا أن نكون أوفياء للزمن الذي نريد التعبير عنه. نعم كان الهدف بالنسبة لي أن أتمّ صنع هذه الثلاثية السينمائية التي تدور حول تاريخ سوريا بمراحل زمنية ثلاث مختلفة.
وفيلمي الثالث عن الذات المفقودة، (الذي ربما لا زلت أحلم أن أتوّج به سيرتي السينمائية)،
كنت أود تحقيقه في الواقع قبل سنة 2000، ولكن لم يتح لي ذلك.
أما الآن، فإنّ الزمن تغير، والظروف تغيرت، والشروط التي نعمل بها كذلك،
وهو ما يقتضي مني إعادة النظر في هذا المشروع الذي فقد حرارته وأصبح بارداً بالنسبة إلي،
وحين يصبح كذلك، يفقد المشروع أهميته ويغدو من الصعب تحقيقه،
حتى لو كتبته على مدى سنوات، وتعذبت وتألمت خلالها.

وهكذا، ربما لم يعد متاحاً لي أن أحقق هذا إلا في المنام، أو بعد الموت!.

مقالات ذات صلة

- Advertisment -

الأكثر شهرة