جوى للانتاج الفني
الرئيسيةنقد تلفزيونيما هو عمل البيئة الشامية؟ وهل "ليالي الحلمية" بيئة قاهرية؟

ما هو عمل البيئة الشامية؟ وهل “ليالي الحلمية” بيئة قاهرية؟

سامي مروان مبيض

ما تسمى بأعمال “البيئة الشامية” تتناسى أن لدمشق وجهاً آخر كان فيه علم ومعرفة مع رجال أنيقين ونساء رائدات

عندما بدأ التلفزيون السوري بالبث سنة 1960،
كانت معظم أحداث المسلسلات تدور في مدينة دمشق، وتحديداً في أزقتها المتعرجة، وحاراتها العتيقة.
كان هذا أمراً طبيعياً بالنسبة للقائمين على الدراما السورية في حينها، من مخرجين وكتاب وممثلين،
كانوا جميعاً من أهالي دمشق وسكانها، لا يعرفون مدينة غيرها، ولا ثقافة سواها.
أظهروا الحياة اليومية في دمشق على الشاشة دون الحاجة إلى ذكر كلمة “دمشق” في أي من حواراتهم،
وتجلت دمشق في الحارات التي بُنيت في الأستوديو الموجود على قمة جبل قاسيون،
وفي لهجة المُمثِلين، ولباسهم التقليدي.
الفنان الراحل فهد كعيكاتي مثلاً، المعروف بشخصية “أبو فهمي”، لبس القمباز المقصب، ودريد لحام ارتدى الطربوش والشروال والقبقاب، وخرج الفنان أنور البابا بشخصية “أم كامل” بملايتها السوداء، ولهجتها الدمشقية الثقيلة، مع تعابير مغرقة في المحلية مثل “تقبرني” و”تكفني”، لا يفهمها إلا السوريون بالعموم والدمشقيون بالخصوص.
وبناء عليه، يمكننا اعتبار مسلسل “حمام الهنا” الشهير، الذي عُرض سنة 1968 أول أعمال البيئة “الشامية”.
فهو عمل “دمشقي” بامتياز،
حمل كل مكونات الحارة الشامية، من حمام السوق والمعلم والبحرة الرخامية وسطه. وينطبق هذا الكلام على بقية مسلسلات الأبيض والأسود مثل “حارة القصر” (1970) و “صح النوم” (1971) و”زقاق المايلة” (1972) وغيرها.

ثم جاءت النقلة النوعية سنة 1992،
عند إنتاج عملين “دمشقيين” فريدين: “بسمة الحزن” المأخوذ عن رواية الأديبة السورية ألفة الإدلبي،
و“أيام شامية” من تأليف الكاتب الفلسطيني أكرم شريم، وإخراج المخرج الشاب في حينها بسام الملا.
الكاتب شريم كان من تولد قلقيلية الفلسطينية،
وقد نزح مع أهله إلى دمشق إبان النكبة سنة 1948،
محتفظاً بذكريات عن حارات فلسطين وأهلها وعاداتها، التي كانت تشبه حارات الشام إلى حدٍ كبير.
وقد استرجع الملا من ذاكرته شيئاً من أيام الطفولة في حارات حي ركن الدين في دمشق،
التي جُمعت في نص أكرم شريم الشيق، وكانت النتيجة مسلسلاً “شامياً” بامتياز،
حقق نجاحاً مبهراً منقطع النظير،
كتب النقاد عنه أنه خلد كل من شارك فيه من نجوم.
معظم هؤلاء النجوم كانوا من أهالي دمشق القدامى الذين عرفوا المدينة في زهوتها وبساطتها،
مثل رفيق سبيعي وخالد تاجا وسليم كلاس وعدنان بركات وحسام تحسين بك،
ومعهم فنانون شباب، مثل عباس النوري، بطل مسلسل “أيام شامية”.

نظراً لهذه التجربة الناجحة جداً، ازداد طلب المنتجين على هذا النوع من الأعمال،
التي أطلق عليها ظلماً اسم مسلسلات “البيئة الشامية”،
ولا نعرف على وجه التحديد من يقف وراء هذه التسمية،
ولكن الهدف منها في الأساس كان لتمييزها عن المسلسلات المعاصرة أو التاريخية أو البدوية.
ولكن لو توقفنا عند هذه التسمية قليلاً،
وتساءلنا: ما هو عمل البيئة الشامية؟
هل هو الذي تدور أحداثه بدمشق؟ هل يمكن اعتبار “أيام شامية” عمل بيئة شامية،
وعدم إطلاق الاسم على مسلسل “مرايا” مثلاً؟
وهل يوجد شيء مماثل في الأعمال العربية؟
هل يوجد عمل “بيئة بغدادية أو بيئة بيروتية؟ وهل يجوز مثلاً إطلاق لقب “بيئة قاهرية”
على مسلسل “ليالي الحلمية”؟
رائعة أسامة أنور عكاشة، بأجزائها الخمس، تحدثت عن القاهرة وأهلها في أزمنة تاريخية مختلفة،
وأظهرت شرائح مختلفة من المجتمع القاهري،
من المناضل الثوري إلى القهوجي، مروراً بعالم الأعمال والصناعة، والعوالم والراقصات، وصولاً إلى قصور الباشاوات.
ولكنني لم أسمع أحداً يقول أن ليالي الحلمية هو عمل “قاهري” أو “بيئة قاهرية.”

وبالعودة إلى مسلسل “أيام شامية”،
الذي تزامن عرضه الأول مع انفتاح شركات الإنتاج العربية على سورية، إثر مشاركتها في تحرير الكويت، وطالب المشاهد العربي بالمزيد من أعمال “البيئة الشامية،” فيها زعيم قبضاي وحلاق ثرثار وقهوجي شهم ومخفر للشرطة أو “كركون” لفك المشاجرات اليومية. كرت السبحة من يومها، وبعد “أيام شامية” جاء مسلسل “الخوالي،” ثم “ليالي الصالحية،” وصولاً إلى “باب الحارة” سنة 2006. جميع هذه الأعمال حققت نجاحاً جماهيرياً كبيراً، ولكنها اختصرت دمشق في عناصر الحارة الرئيسة التي ظهرت مع “أيام شامية،” متناسية أن لدمشق وجهاً آخر، كان فيه علم ومعرفة، مع رجال أنيقين يرتدون البدلات وربطات العنق، ونساء رائدات في الأدب والطب والحياة الاجتماعية. نسوا أنه كان في دمشق صناعيون كبار، واقتصاديون وسياسيون وكتاب، كانت لهم أيادٍ بيضاء لا على دمشق وحدها بل على مدن المشرق العربي كافة.

ومن يومها ونحن أمام سيل جارف من أعمال سنوية، تدور أحداثها في مكان يشبه دمشق من حيث المظهر،
فيه مآذن وقناطر وحجر أبلق، ولكنه لا يمت إلى جوهر دمشق بالمطلق.
نحن لا نعمم على كل الأعمال الشامية، فهناك منها الجيد جداً والممتاز،
مثل “الحصرم الشامي” و”طالع الفضة” للمخرج سيف الدين سبيعي،
و”حدث في دمشق” لباسل الخطيب، و”حمام القيشاني” للراحل الكبير هاني الروماني.
أما عن بقية الأعمال، فقد كثرت إلى درجة لم يعد المشاهد قادراً على التفريق بينها،
وتكررت الأدوار والأحداث بشكل ممل وفاقد إلى أي ابتكار. شاهدت بعضها في شهر رمضان الماضي،
ولا أريد الدخول في التسميات، احتراماً لمن يأكل ويشرب من ورائها من مُمثِلين ومُخرجين وكتاب وفنيين،
ولكني أقول كمشاهد أولاً، ثم ككاتب سوري: أما حان الوقت أن تطلقوا رصاصة الرحمة على هذه الأعمال التي تصنف بيئة شامية؟ قد تكون أي شيء في الدنيا، ولكنها ليست دمشق.

سامي مروان مبيض: كاتب سوري ورئيس مجلس أمناء مؤسسة تاريخ دمشق

مقالات ذات صلة

- Advertisment -

الأكثر شهرة