جوى للانتاج الفني
الرئيسيةأيقونةدراما الأحلام العظيمة والخيبات الكبيرة

دراما الأحلام العظيمة والخيبات الكبيرة

ولا نزال سهارى في “ليالي الحلمية”

في ثمانينات القرن الماضي، بينما كانت مصر لا تزال محور اهتمام لكثير من أبناء جيلي بوصفها مختبراً لأحلامنا العريضة،
من
لحظة الصعود المتوهج لهذه الأحلام إلى لحظة انكسارها المدوي، أطل علينا مسلسل”ليالي الحلمية” ليضبطنا متلبسين

بالحنين، ومبلبلين إزاء الدروس التي تمخضت عنها العقود الأربعة الصاخبة المنصرمة..

وها هو أسامة أنور عكاشة يشعل النقاشات مجدداً، وينفخ في جمرات فضولنا المختبئة تحت تلال من رماد الإحباط.. معيداً طرح الأسئلة عن مشاريعنا الكبيرة وعن مآلاتها، مستعرضاً حقبات من التاريخ المصري القريب (ومن تاريخنا جميعاً بالتالي)،
من العهد الملكي حيث حضرت الليبرالية وغابت العدالة الاجتماعية، إلى الحلم الناصري حيث صعدت العدالة وغابت الحرية، إلى عهد بهتت فيه الشعارات وتكسرت الأحلام.. مقدماً أناساً من لحم ودم، تشابكت مصائرهم مع مسار هذا
التاريخ المترع بالدراما: باشا، مناضل، أرستقراطي، سياسي، صحافي، عامل، مثقف ملتزم، مهرج، صبي عالمة، عمدة ريفي يفتح المدينة، معلم قهوة”جدع” دبلوماسي، مخبر، زير نساء..

أسامة انور عكاشة
أسامة انور عكاشة

بكل الشغف، وكل اللهفة، كنا نتابع حلقات مسلسل “ليالي الحلمية”،
من دون أن يرمش لنا جفن في الأجزاء الثلاثة الأولى على الأقل،
في تماه لم نخبره من قبل مع أبطال الحكايات الفاتنة، ونبض حارات القاهرة وسرايات الباشاوات وأقطاب

الصناعة التي أرسى تقاليدها “أبو الاقتصاد المصري”طلعت حرب باشا.. كان البعض مأخوذاً بمصر وتحولاتها، منذ مطلع أربعينيات القرن الماضي،
ومحطاتها الزلزالية 1952، 1956، 1967، 1970، 1973، 1977، 1981 حتى الألفية الجديدة،
وبقبول أقرب إلى التسليم بسيناريو أسامة أنور عكاشة والرؤية الإخراجية لإسماعيل عبد الحافظ،
فيما البعض الآخر يحاول أن يتدخل في مسار الأحداث، تصحيحاً وجدلاً صاخباً أو مناكفة،
لكن الجميع كان يتسمر أمام الشاشة ليتابع صراعات الباشا الأرستقراطي سليم البدري (يحيى الفخراني) والعمدة الظريف الذكي بالفطرة،
القادم من أعماق الريف المصري بحثاً عن حضور في عالم القاهرة، 
سليمان غانم (صلاح السعدني)، وهما يتبادلان الصفعات لتصفية ثارات قديمة، وأزمات الهانم نازك السلحدار (صفية العمري) وهي تقاوم الانحدار من طبقتها المخملية بأي ثمن، وبأي عدد من الزيجات.

قدم أسامة أنور عكاشة في الأجزاء الخمسة التي كتبها، جرعة كبيرة من التاريخ والسياسة،
وجرعة أكبر من الدراما، ونجح مع إسماعيل عبد الحافظ في وضع ما يشبه المرجعية الدرامية للأعمال العربية اللاحقة، وعلى الرغم من الملاحظات التي

تتكاثر مع المشاهدة التالية على مستوى الإخراج والتقنيات وبعض السقطات في الحوار والأزياء والمكياج والديكور،
فإن العمل لم يفقد مكانته الأيقونية في تاريخ الدراما العربية، وفي ذاكرة أجيال حفظت لوازم الشخصيات عن ظهر قلب ورددت “التتر” الرائع،
الذي أبدع كلماته الشاعر سيد حجاب ولحنه ميشيل المصري وغناه محمد الحلو “منين بيجي الشجن.. من اختلاف الزمن. ومنين بيجي الهوى.. من ائتلاف الهوى..”

في كل مرة نسمع فيها أغنية محمد الحلو في”ليالي الحلمية” تحضر على الفور ضحكات سليمان غانم بعصاه وطربوشه،
وسليم البدري بالسيجار وحمالات البنطلون، و”عيني صفية”، ودموع المعلم زينهم السماحي (سيد عبد الكريم) وهو يشيع أخيه طه السماحي (عبد العزيز مخيون) الذي استشهد وهو يقاتل الإنجليز..

نتذكر أسرة السماحي المنذورة للتضحية دائماً، طه ومن بعده ابنه ناجي (شريف منير)، وأسرة البدري التي تراكم الثروات مهما تقلبت الأزمنة..
نستعيد خيبات علي البدري العاطفية (ممدوح عبد العليم) وقصة حبه مع زهرة سليمان غانم (آثار الحكيم في الأجزاء الثلاثة الأولى،إلهام شاهين في الجزأين التاليين)،
وانقلاباته الدراماتيكية من ناشط وسجين سياسي إلى رجل أعمال فاسد لا ينتمي لتقاليد وزمن سليم البدري.. نتذكر حيرة عادل البدري (هشام سليم).. وصيفة (إنعام سالوسة)

القانعة المحبة للجميع، العالمة سماسم العادلي (سهير المرشدي)، والراقصة حمدية (لوسي) صاحبة “الإفيه” الشهير “نعمين يا أبلتي” ..

شراكة أسامة أنور عكاشة و إسماعيل عبد الحافظ لم تبدأ مع”ليالي الحلمية”ولم تنته بها،
وإن بقيت بأجزائها الخمسة علامة فارقة في تعاونهما (الجزء السادس أنتج في العام 2016،
كتبه أيمن بهجت قمر وعمرو محمود ياسين، وأخرجه مجدي أبو عميرة)..
قدما معاً مسلسل “الشهد والدموع”من جزأين في العام 1985 وكأنه تمهيد لعملهما الأشهر”ليالي الحلمية” الذي بدأ عرض جزئه الأول في العام 1987، ثم “أهالينا”في العام 1997،
و”امرأة من زمن الحب”في العام 1998، و”كناريا وشركاه” في العام 2003، وبعده “عفاريت السيالة” في العام 2004،
وصولاً إلى مسلسل “المصراوية” بجزأين في العامين 2007 و2009،
وهو آخر أعمال السيناريست أسامة أنور عكاشة الذي وافته المنية في العام 2010، قبل عامين من رحيل رفيق نجاحه إسماعيل عبد الحافظ.

الحديث عن “ليالي الحلمية” هو حديث أولاً عن أسامة أنور عكاشة المولود في طنطا 1941،
الذي كان كاتباً لا يتعب من التجريب، وقد ترك خلفه إرثاً حافلاً في الرواية والدراما والسينما والمسرح..
أصدر مجموعته القصصية “خارج الدنيا” (1967)، رواية “أحلام في برج بابل” (1973)،
مجموعة”مقاطع من أغنية قديمة ” (1985)” ، رواية “منخفض الهند الموسمي” (2000″، رواية”وهج الصيف”(2001) ” ،
وأخيراً رواية “سوناتا لتشرين” (2010)، وفي السينما وضع بصمته في أفلام “كتيبة الإعدام”، “تحت الصفر”، “الهجامة”، “دماء على الإسفلت”،

“الطعم والسنارة” و”الإسكندراني” و “الباب الأخضر”، وكتب للمسرح “القانون

وسيادته”، “البحر بيضحك ليه”، و”الناس اللي في الثالث.”

بصمة أسامة أنور عكاشة الأكثر رسوخاً في الذاكرة كانت في الدراما، من خلال أعمال مثل “على أبواب المدينة”، “المشربية” “الحب وأشياء أخرى”، “الراية البيضا”، “وقال البحر “، “عصفور النار”، “رحلة أبو العلا البشري”، “ضمير أبلة حكمت”، “أرابيسك”، ” زيزينيا” “النوة”..

مسلسل “ليالي الحلمية” أنتجه التلفزيون المصري، وهذا يستدعي نوعاً آخر من الحنين إلى زمن قريب كانت فيه الدراما تمثل مساحة ما لوجهات النظر، وللمراجعة والحوار مع التاريخ، ومرادفاً للمسؤولية والارتقاء بالذائقة الجماعية.

بعد “ليالي الحلمية”توهم كثيرون أن الأرقام في تكلفة الإنتاج، وأجور النجوم وعدد الحلقات، وامتداد الأجزاء إلى ما لانهاية، هي الخلطة السحرية للنجاح، لكن تلك المتواليات التي تكاثرت كالفطر ولدت ميتة أو بعمر لا يتعدى “كبسة زر”

بين زمني سليمان غانم وجعفر العمدة الدراميين بضعة عقود، وأكثر من سنوات ضوئية، هي الفرق بين “ما تسرسبيش يا سنينا من بين إيدينا.. ولا تنتهيش ده احنا يا دوب ابتدينا”، وبين “السمك بيحب الليمون وبيعشق الطحينة.. وآه يا حنان”

مقالات ذات صلة

- Advertisment -

الأكثر شهرة