ماهر عزام
“كليوباترا السمراء ”تشعل حرب الوثائقيات
ليس الخلاف على من هي الملكة الفرعون كليوباترا وما أهميتها،
ولا كيف أثرت في أهم قائدين بتاريخ الإمبراطورية الرومانية (قيصر وانطونيو)،
بل الخلاف حول درجة سمار بشرتها،
وهل هي بيضاء كإليزابيت تايلور أو سلاف فواخرجي أو حنطية أو سمراء كالممثلة الإسرائيلية كال غادوت المرشحة للعب دور البطولة في فيلم هوليودي العام 2025،
أو انها سوداء كما ظهرت في فيلم نيتفليكس الوثائقي قبل أسابيع بصورة الممثلة أديل جيمس المشابهة لأفارقة جنوب الصحراء؟
وسط هذا كله تصاعدت الردود والردود المضادة على من يملك كليوباترا، بطالمة أوربا.. مصر الفرعونية.. الإسكندرية الهلنستية.. أحفادها الموريتانيون.. أم “اجدادها الأفارقة”!؟
السلسلة الوثائقية (أربعة أجزاء:170دقيقة) أشعلت حربا في مصر وبريطانيا والولايات المتحدة،
فهناك من قرر ــ ونفذ فعلا ــ انتاج فيلم وثائقي مدته 90 دقيقة لتفنيد ما جاء في سلسلة نيتفليكس،
والفيلم من إخراج كريستين رايان وودسايد، دعمه ورعاه وزير الآثار السابق وعالم المصريات الدكتور زاهي حواس وتم بثه مجانا على اليوتيوب،
لكن العمل | الرد جاء مليئا بالكلام والسرد ولم يستطع أن يكون بقوة سلسلة نيتفليكس، ليس لعدم قوة الحجة،
إنما بسبب ضخامة وتميز الإخراج وعرض المعلومات في فيلم المنصة الأميركية والذكاء في تمرير المعلومة وسط المشاهد الدرامية.
بالعودة إلى المصادر التاريخية الباقية عن تلك الفترة،
وأهمها المؤرخ الروماني بلوتارك، الذي أورد قصة كليوباترا كجزء من حياة أنطونيو، نرى أن الوقائع عند نيتفليكس صحيحة كما استخدمها العديد من الكتاب عبر التاريخ،
سواء في الأدب او الفن، وبلوتارك لم يتحدث عن بشرتها أو هيئتها إنما تحدث عن ذكائها وعن ثقافتها المميزة ومقدرتها في النقاش وقوة الإقناع،
وأبرزت نيتفليكس دور المعرفة في تكوينها فأظهرتها كفتاة وشابة وهي في مكتبة الإسكندرية تطالع وتحاور وتبحث
وتتعلم وتشكل لنفسها مستقبلا واضحا في المرحلة البطلمية،
بمقابل الإمبراطورية الرومانية التي لم تكن تعطي أدنى اهتمام للمرأة،
فنراها وقد قررت أن تؤثر في قادة روما فتفحم أشهر خطبائها عبر التاريخ، شيشرون.
لقد حاول هذا تبخيسها على مائدة قيصر بأن قال إن أجمل ما فيها هو قطافها،
فردت: “أهكذا تخاطبون الملوك”، فجاءها الرد بأن “روما لا تعترف بالملوك وأنتم قدماء لكم الماضي أما روما فهي المستقبل”..
ثم جملة واحدة من كليوباترا وحل الصمت بعدها: “لا مستقبل بلا ماضي، ولا وجود لروما بلا مصر”.
لكن اللغم المتحرك طيلة الفيلم هو صورة الممثلة السمراء بشعرها المجعد،
وهي الصورة التي ستبقى في أذهان المشاهدين لسنوات قد لا تمحوها عشرات الساعات التي ستظهرها بغير ذلك،
السلسلة لاقت رواجا كبيرا في أوربا وأميركا،
وظلت لأسابيع ــ وما تزال ــ في أعلى المشاهدات،
وهذا لم يأت صدفة فقد تم الترويج لهذا العمل على مدى زمني ومكاني كبيرين وبدأت التصريحات تواكب عرضه حتى احتل منصات التواصل.
أين السر؟ ولماذا هذه المبالغة؟
بالبحث في تفاصيل العمل، نتبين أن المشروع أدارته، فكرة وانتاجا، جادا سميث، الأميركية السوداء زوجة الممثل الشهير وول سميث، وهي تعمل كمحرك فاعل ولها نشاط كبير في منظمة (السنترو أفريكان/ المركزية الافريقية) وهي منظمة بدأت منذ سبعينات القرن العشرين، لديها طروحات تسعى من خلالها لسحب البساط في موضوع مركزية الحضارة من أي مكان إلى أفريقيا، واعتبار القارة السمراء هي مركز الكون تاريخيا وحضاريا وحتى جينيا، (هناك أبحاث علمية يتم تمويلها
لتعزيز نتائج تبين أن الجينات الأفريقية هي المصدر الأساسي للسلالات البشرية)، وفي هذا العمل هناك تأكيد دعائي بأن “أصل الفراعنة من وسط أفريقيا، أما الشعوب التي جاءت إلى مصر من الجزيرة العربية وبلاد الشام وأوربا عبر مئات السنوات، فقد همّشت مصر الأفريقية وحولتها عن مصدرها وأصلها، وكذلك غيرت لون بشرة الناس. و”هؤلاء الأفارقة أثروا في أوربا، لكن الأوربيين ينكرون ذلك”، ومهمة هذه المنظمة إعادة الاعتبار إلى الحضارة السوداء وإبراز دورها. وقد منعوا أكثر من مرة من إقامة ندوات وأنشطة دعائية في مصر.
ما يؤكد ما نذهب إليه أن الباحثة الرئيسية في السلسلة (شيلي هايلي) هي برفسورة في جامعة هاملتون ومتخصصة بالدراسات الافريقية والنسائية، وليست عالمة تاريخ، وهي الوحيدة التي تحدثت عن سواد بشرة كليوباترا لا كحقيقة تاريخية بل كما كانت تتخيلها وفق حكايات جدتها، أما الباحثون الآخرون في السلسلة فلم يتحدثوا عن ذلك والفقرة الخاصة بلون بشرة كليوباترا قصيرة جدا، وهناك باحثة
بريطانية (كولين دارنل ــ عالمة مصريات) رفضت الفيلم وقالت بأن نيتفليكس أجرت معها عشرات اللقاءات وأخذت جزءا بسيطا، ولم تعرف أن كلامها سيرد في سياق مختلف، وهذا ما أكده باحث آخر هو الدكتور إسلام عيسى (أستاذ تاريخ ــ جامعة برمنغهام)، المصري الوحيد المتحدث في الأجزاء الأربعة، والذي صرح لـ (BBC) أن نيتفليكس منعته من التصريح ضد العمل لكنه لم يمتثل وفضل الانتصار لاختصاصه العلمي بمقابل الدعايات السنتروأفريكية.
لكن السؤال الهام: هل ادعاءات هذه المنظمة مجرد تهويمات عنصرية ضد كل ما هو مخالف لنظريتها، أم لها سند حقيقي في التاريخ؟
كليوباترا السوداء: هناك من يرجع أجدادها الى مرحلة من حكم الأسرة الخامسة والعشرين أثناء حكم ما يعرف بمملكة كوش، وهي قبائل من السودان جنوب الصحراء، بنت حضارة كانت عاصمتها مروة النوبية، وحكمت مصر لخمس وسبعين سنة، وتم إجلاؤهم عن مصر سنة 655ق.م، ولأن بطليموس الثاني عشر، والد كليوباترا، كانت له زيجات كثيرة على عادة العصر الروماني، فلم يتم تحديد أمها أو جدتها. ومن هنا يتغلغل الشك وتبنى على ذلك الفرضيات.
وكي يتم إعادة كليوباترا إلى أفريقيا، تصرح الباحثة آشلي (محراك الشكوك في السلسلة) بأن ابنة كليوباترا من أنطونيو، وهي كليوباترا سيليني، بعد نقلها الى روما سبية عاشت في كنف زوجة أنطونيو الأولى، أخت أوكتافيوس، وتم تزويج الابنة الى ملك موريتانيا وهناك استمرت سلالة كليوباترا.
أخيراً: “اللي تعملوه في الناس حيتعمل فيكم”!!
بين ثمانينات وتسعينات القرن العشرين ظهرت مجلدات بعنوان (أثينا السوداء للباحث التاريخي مارتن برنال) ولم ينتظر المصريون حينها انتهاء نشر الأجزاء حتى بدأوا الترجمة، بل باشروا نشر فصول الجزء الأول تباعا، وصدّروا الأغلفة بصور منحوتات وجداريات لفراعنة تبدو ملامحهم سمراء، وذلك لكون الكتاب يعيد الاعتبار لدور الثقافات غير الأوربية في صناعة الحضارة اليونانية، وأهمها الفرعونية إضافة الى الكنعانية والاشورية، وكانت بمثابة رد على نظرية المركزية
الأوربية ودور العرق الآري في كل من أثينا وروما. وقد احتفى المصريون بهذه الخلخلة أيما احتفال، والآن يأتي من ينشر نظرية مركزية جديدة (السنتروافريكية) بمقابل مركزية الفراعنة والمصريين في تاريخ افريقيا والعالم. هكذا فإن أهم ما في كليوباترا أنها امرأة أشعلت الحقائق والوثائق ــ ولا تزال ــ لأنها امرأة مثقفة وتربت بين أحضان الكتب وكانت مكتبة الإسكندرية بيتها، وإن كانت غرف نوم القادة الرومان سكنها الزوجي.