جوى للانتاج الفني
الرئيسيةالمكتبةقصة حياتي لـ شارلي شابلن

قصة حياتي لـ شارلي شابلن


سلمان عز الدين

الصعلوك الذي صار أشهر رجل في العالم

في عام 1919 وجد نجم السيرك العالمي، مارسلين، في غرفته بنيويورك، ممدداً على الأرض وغارقاً في دمه،
وكان مسدس لا يزال في يده،
وبالقرب منه كانت أسطوانة تدور وتصدح بموسيقى “ضوء قمر وزهور”..

لم يكن مارسلين هو الكوميديان الوحيد الذي قرر موعد انصرافه بنفسه، وبهذه الطريقة الدراماتيكية،
ذلك أن شارلي شابلن (1889 ـ 1977) يعدد في كتابه “قصة حياتي” الكثير من أسماء الكوميديين الذين لقوا ــ قرروا المصير نفسه:
الكوميدي الإنكليزي المشهور فت إي دنفيل الذي أطلق رصاصة على رأسه بالقرب من ضفة نهر التايمز،
ومارك شيريدان الذي أردى نفسه برصاصة في حديقة عامة في غلاسكو،
وفرانك كوين، الذي كان مرحاً ومليئاً بالحيوية ودائم الابتسام، “ولكن بعد ظهر أحد الأيام، كان سيقوم بنزهة مع زوجته في عربتهما الصغيرة التي يجرها حصان، فنسي شيئاً ما، وقال لها أن تنتظره ريثما يعود. لكن مرت ثلث ساعة دون أن يعود، فذهبت لترى ما الذي يؤخره هكذا، ووجدته على بلاط غرفة الحمام، وسط بركة من الدم، وفي يده موس حلاقة.. كان قد ذبح نفسه، قاطعاً رأسه تقريباً”.

واللافت أن نجم الكوميديا الأشهر عالمياً لم يتوقف، في سيرته الذاتية، طويلاً عند هذه الظاهرة،
ولم يتصد لتفسيرها،
وبالتالي لم يجب عن سؤال بدهي: ما سر هذه المفارقة.. هذا الارتباط الغريب بين احتراف الإضحاك والغرق في الكآبة المفضي إلى الانتحار؟..
وربما كان شابلن لا يزال، وهو يخط مذكراته، خائفاً من هذا القدر المشؤوم، فعجل في ترك الموضوع إلى أشياء أخرى أقل مأساوية وتجهماً..

والواقع أن في حياة شابلن الكثير مما كان يدفع إلى الوقوع في براثن الاكتئاب:
فقر مدقع، أيام وليال طويلة يلفها البرد والجوع، أب سكير مستهتر تخلى عن أسرته وتزوج من امرأة أخرى وأنجب منها ولداً بائساً آخر،
أم محبة ومقاتلة ولكن سرعان ما خذلتها قواها النفسية فانتهت في مصحة للأمراض العقلية،
ولكم كان تشخيص الأطباء قاسياً: جنون بسبب سوء التغذية..
وشابلن يروي كل ذلك، في كتابه، بأسلوب يشبه كثيراً ذلك الموجود في أفلامه،
حيث السخرية المثيرة للحزن،
والضحكات التي تتخللها الدموع..
الكوميديا والتراجيديا يسيران معاً، يداً بيد، مع صعوبة الفصل بينهما..
ووراء ذلك ثمة روح شفافة مترعة بالأسى،

ليس على المصير الشخصي وحسب، وبل وعلى العالم برمته.
في طفولته، تنقل شابلن بين مهن كثيرة: نافخ زجاج، طباع، بائع زهور، صبي في محل للألعاب، نادل..
ولكن الحياة كانت تخبئ له ابتسامة عريضة،
إذ التقطته فرقة مسرحية صغيرة وأسندت له دوراً ثانوياً،
فأظهر من اليوم الأول أنه خلق لأمر واحد: أن يكون ممثلاً كوميدياً.
ومن فرقة إلى أخرى توصل، وهو على عتبة الشباب، إلى توقيع عقد في فرقة “فريد كارنو” المرموقة، التي قدمته ممثلاً من الصف الأول،
وجعلته يجول في كل أنحاء المملكة المتحدة، كما اصطحبته إلى بلدان أخرى أهمها فرنسا،
ولكن ضربة الحظ الكبرى جاءت عندما حلت الفرقة في الولايات المتحدة الأميركية.
هناك، في نيويورك تحديداً، شعر الكوميديان الشاب أنه على موعد مع حياة جديدة، وهذا ما كان بالفعل..

وفي عام 1914 انتقل شابلن من المسرح إلى السينما،
فتعاقد مع استديوهات كيستون، لينجز معها عدداً من الأفلام الناجحة،
وسرعان ما عثر على “كاركتر” حياته: شخصية الصعلوك الطيب، الظريف والمتبجح، بقبعة عالية وعصا في اليد، جاكيت ضيقة وبنطال واسع، مع مشية خاصة تشبه مشية البطريق..

في مقارنته بين السينما والمسرح، يقول شابلن كلاماً لا يروق كثيراً لنساك “أبو الفنون”،
إذ أنه يخالف كل الكلام الرومانسي عن “مواجهة الجمهور وجهاً لوجه،
ومتعة الحصول على ردة فعل فورية، والمساحة الكبيرة للارتجال”..
ليعطي الأفضلية وبكل بساطة للسينما، واصفاً الفن المسرحي بأنه ينطوي على تكرار ميكانيكي،
فما أن تصل إلى صيغة ما حتى يصبح لزاماً عليك حفظها وتكرارها ليلة بعد ليلة إلى ما لا نهاية،
أما السينما فهي مرتع للخيال والتجريب والابتكار..

ولكن الفنان الكوميدي القادم من إنكلترا سوف يصطدم، بداية، بعقلية مختلفة في استديوهات السينما،
حيث اللجوء إلى الكليشات الثابتة، وتغليب التقنية على الموهبة،
وأسر الممثل لصيغ جاهزة تناسب المخرج والمصور ومعداتهما أكثر من مناسبتها للممثل نفسه..
وهو ما سيحارب من أجل تغييره، وينجح في ذلك عندما صار يكتب أفلامه ويخرجها.

وإذا كانت الفصول الأولى من الكتاب مليئة بالخيبات والمنغصات،
فإن الأجزاء التالية على العكس من ذلك، ففيها الكثير من الرياح المواتية،
حكايات نجاح وإشارات كثيرة على حظ دائم التبسم. لقد صار شارلي شابلن النجم السينمائي الأشهر،
أفلامه مطلوبة في كل أنحاء العالم، وإيراداتها هي الأكثر، كما أن أجره هو صار الأعلى.
وصار الزعماء السياسيون، والمفكرون، والأدباء، والفنانون،
يحرصون على لقائه وأخذ صورة إلى جانبه. تشرشل، غاندي، خروتشوف، ألدوس هكسلي، جورج برناردشو، اتش جي ويلز، بروتولد بريخت..

في زيارة له إلى موطنه، إنكلترا، يقف أمام الجمهور جنباً إلى جنب مع ونستون تشرشل،
فيبادر هذا إلى مخاطبة الناس، مقدماً صديقه شابلن،
هذا العبقري الذي كان مجرد صبي معدم يتصعلك في أزقة لندن ثم صار ما هو عليه الآن..
ضحك الحضور معتقدين أن الزعيم، المشهور بحس الفكاهة، يمزح..
ولكن شابلن كان يعرف أن هذا هو تلخيص دقيق لمسيرة حياته.

غير أن المتاعب تجد طريقها إلى الرجل وهو في أوج عظمته. فقد تورط في مواقف عامة ملتبسة، تقاطعت مع ظروف الحرب الباردة، وجرت عليه نقمة دوائر سياسية وإعلامية (اتهم بالشيوعية)،
وشيئاً فشيئاً صار عدو الصحافة، كما أن امرأة غريبة الأطوار اقتحمت حياته الخاصة وحولتها جحيماً، قبل أن تجره إلى المحكمة بتهمة تخليه عن ابن غير شرعي..

وتجمعت الغيوم السوداء فوق رأسه، فغادر الولايات المتحدة ليستقر في سويسرا، في قصر جميل في منطقة ساحرة، وهناك عاد إليه الهدوء، ونعم بالسكينة التي جعلته يتابع قطاف نجاحاته السينمائية المستمرة.

حكايته الشخصية تشبه حكاية سينمائية لواحد من شخصياته. فتى فقير معدم يصبح مليونيراً يعيش في قصر.. ولكن هل كان شارلي شابلن سعيداً؟

كل شيء في سيرته الذاتية يوحي بأنه، على الأقل، كان بعيداً عن الاكتئاب المفضي إلى الانتحار. وعلى كل حال هو لم ينتحر.

مقالات ذات صلة

- Advertisment -

الأكثر شهرة