علي الرّاعي
لابدّ لمن تابع عرض فيلم (رحلة يوسف)،
– إخراج جود سعيد، سيناريو وسام كنعان وجود سعيد
عن قصة للفنان أيمن زيدان
– لابدّ من أن يحضر إلى ذهنه فيلمان آخران: (الطريق) للمخرج عبد اللطيف عبد الحميد،
و(الحكيم) للمخرج باسل الخطيب..
فهناك مشتركات كثيرة بين وقائع وشخصيّات هذه الأفلام، رغم افتراق أساليبها واختلاف حكاياتها..
حضور الجد
تشترك هذه الاعمال بحضور شخصية (الجد)،
كحامل لمختلف وقائع الفيلم، وتجسيده الشخصية الرئيسة فيه..
وعندما يحضر الجد، لابدَّ من حضور (الحفيد)،
فكانت له المساحة البصرية والدرامية اللائقة.
على خلفية الحرب الممتدة زمانيا ومكانيا، والتي طالت كثيراً من الأسر السورية،
فأعملت فيها تمزّقا ونزوحا وتشردا، وفقدانا للكثير من أفرادها؛
سيكون حضور (الجد) مُبرراً ومُقنعاً لغير سببٍ وغاية..
ذلك أن حالة العوز والفقد التي يعيشها السوري هذه الأيام،
يُبرر وجود حضنٍ دافئ وآمن مُشتهى وواسع كحضن الجد، وليس الأب،
لما يُعرف عن حنان الجد الذي يكون مُضاعفاً ومُركباً ل(الأبن والحفيد) معاً،
واللذان سيتماهيان في شخصية واحدة في وجدان الجد،
التي تتراءى في صورة الحفيد والذي سيكون في بعض ملامحه صورة مكثفة عن والده..
خاصة إن فقد، وما أكثر الفقد في سورية خلال هذه السنوات
قسوة تبلور المغزى
سيكون الدفق العاطفي مُضاعفاً عشرات المرات من الجد تجاه الحفيد، إذا ما كان (الأبُ، أو الأم) غائباً أو مفقوداً،
سواء لجهة الموت أو الرحيل والهجرة لأمكنة قصيّة،
وفي الأفلام الثلاثة كان الأب والأم مفقودين، ..
ومن ثمّ سيكون حينها (الحفيد\ الحفيدة)
– الأمل الأخير لهذا الجد الذي سيستبسل في حمايته وتأمين مستقبله، والدفاع عنه حتى الموت،
وهو ما أظهرته الأفلام المُشار إليها بكامل هذه الدراما من التراجيديا العالية،
الأمر الذي يصل لعمل أي شيء في سبيل غايته الوحيدة– حفيده أو حفيدته،
التي ستكون المغزى الأخير لما بقي من العمر للجد،
ولأنّ ما بقي ليس كثيراً؛ فقد يصل إلى بذل حياته في سبيلها.
هكذا سيعيش (الجد صالح)، في فيلم (الطريق) في سبيل تعليم الحفيد، وإيصاله إلى الحلم الذي رسمه له،
فيما (الجد يوسف) سيقوم برحلة طويلة عبر الفصول والأمكنة لإنقاذ (حبِّ حفيده)،
قصة حب الحفيد لأبنة الجيران المهددة بالضياع في متاهات العقلية الظلامية المستبدّة،
وهو ما سيفعله الجد (الحكيم) الذي حمل اسمه فيلم باسل الخطيب، لإنقاذ حفيدته..
في طريق الحماية
وإذا كان الجدّ انتصر في فيلم (الطريق)، وأوصل حفيده لآماله في التعليم،
وهنا لابأس من الإشارة لحكاية التعليم عند عبد اللطيف عبد الحميد،
التي أجدها أنها شكلت ملمحاً جمالياً وفكريّاَ مُدهشاً في سينما هذا المخرج كما شكلت معطى فكرياً وبصرياً في معظم أفلامه..
وهكذا أيضاً سينجح الجد في فيلم (الحكيم) في حماية حفيدته..
غير أن حلم الحفيد عند الجد في (رحلة يوسف) سينتهي إلى الدفن..
وبكلّ تأكيد، فإنّ حمولات الخواتيم في تلك النهايات كثيرة جداً لاسيما كرموز يُمكن إسقاطها على الحلم السوري كله.. وهو إنه بالحب وحده يُمكن للسوري أن يعيش،
وإذا ما دفن هذا الحلم، فإنّ رحلة المتاهة مستمرة، وهو ما يُنذر به فيلم (رحلة يوسف)..
هذا الحب الذي سيكبر بالعلم والتعليم الذي يُشيرُ إليه فيلم (الطريق)،
وسيتم حمايته وتكريسه بالحب وبعقد اجتماعي مشتهى في فيلم (الحكيم)..
شواغل فنية
اعترف إنه لم تكن الغاية من هذا المقال، أكثر من قراءة في جماليات فيلم (رحلة يوسف) البصرية والفكرية،
بمناسبة عروضه الجماهيرية،
وكنت سابقاً أنجزت مثل هذه القراءة لفليمي (الطريق، والحكيم) نُشرتا في مجلة (الحياة السينمائية)..
غير أن حضور (الجد) في فيلم (رحلة يوسف) مرةً ثالثة، أخذني باتجاه لم أكن أنوي الكتابة فيه،
وهو إيجاد نوعٍ من قراءة بعض المشتركات في شخصية الجد..
تحديداً لجهة حضور شخصية (الجد) في الأفلام الثلاثة..
هذا (الجد) الذي تحمل مفردته مخزوناً هائلاً من الحمولات لاسيما لجهة (الحنان)،
أو الجدار الأخير، والسند الذي يستبسل حتى النهاية لأجل غاية سامية تلك التي تتجسد بحماية الحفيد،
والذي سيضع فيه كلَّ ما افتقده خلال مرور سنوات العمر بما فيه غياب الأب\الأم – الأبنة\الأبن نفسه الذي كان قد افتقده لسبب أو لآخر..
الحالة السورية
وفي الحالةِ السورية التي يُصيبها الاغتراب حتى عن ذواتها،
ويضربها الفقد بعد حربٍ غادرة وشرسة لأكثر من عقد؛ لأجل كلِّ ذلك فإنّ أي سوري اليوم هو بحاجة لحنان يعوّض كل ما فعلته المحنة السورية من وجع وفقد..
حنان يُعادل أو يُقارب حنان الجد واستبساله..
الجد الذي أجده بعد متابعة وحضور تلك الأفلام،
إنه ربما سيُشكّل غواية لأعمال سينمائية ودرامية أخرى، وبصياغاتٍ مختلفة،
لما تحمله – كما ذكرت – مفردة الجد في العائلة السورية من مخازين التأويلات والرموز،
حيث بيت الجد والجدة كمكان هوالأكثر مدعاة للطمأنينة وهو الملجأ الأخير للهروب من أي خوف،
بما فيه خوف الولد من عقوبة ما من الأب أو الأم..
دريد وأيمن وموفق
بقي أن نذكر، إنّ من جسّد شخصية (الجد) في فيلم (الطريق) الفنان موفق الأحمد،
وفي فيلم (الحكيم) جسدها الفنان دريد لحام؛ وجسّد شخصية (الجد) في فيلم (رحلة يوسف) الفنان أيمن زيدان،
فيما كانت شخصية الحفيد في تلك الأفلام لفنان شاب غير معروف سابقاً،
أو له مشاركات محدودة في أعمال سابقة..
أما في فيلم (الطريق)، فقد جسدّت دور الحفيدة الفنانة ليا مباردي،
وتختلف الحفيدة هنا غير أنها أنثى، هي أيضاً بالنسبة للجد ابنة البنت،
وليست ابنة الأبن، ربما لأن السيناريو يحمل توقيع امرأة، هي السيدة ديانا جبور..
تكثيف عن الثلاثة
وفي تكثيف سريع لحكايات الأفلام الثلاثة؛ حيث ترصد حكاية فيلم (رحلة يوسف) هجرة الجد يوسف مع حفيده إثر رغبة غريزية متوحشة لأحد قادة العصابات المسلحة التي تسطو على إحدى القرى السورية،
والتي يبدو أنها قريبة من الحدود اللبنانية، وبما يوحي أنها في منطقة القلمون..
هذا الجد الغامض الذي لا نعرف انتمائه إلا للحب الخالص،
حيث يقوم بمساعدة الفارين من جحيم الحرب،
وسحب جثامين الموتى ودفنها بدل تركها لضباع وذئاب البراري.. وفي مناخات هذه الحرب التي تأتي كلّ يوم بفقدٍ جديد، تعيش بجواره امرأة مع ابنة شقيقتها التي يبدو أنّها هي أيضاً فقدت عائلتها خلال الحرب،
فيما الجد الذي فقد الكثيرين لم يبقَ بجواره إلا صديقه عبد الهادي/سامرعمران والذي يبدو هو الآخر إنه فقد كلَّ أفراد عائلته،
لا يعيش مع يوسف الجد/أيمن زيدان، حفيده فقط، بل يعيش لأجله، ولأجله وحسب..
هنا تنشأ علاقة حب بين الشاب/الحفيد وابنة الجيران/هاجر..
غير أن أبا الوليد زعيم العصابة المسلحة يطلبها للزواج،
كما يجري الأمر في اعتقاد هؤلاء بالزواج من الصغيرات،
وهو الأمر الذي يدفع الجد لأن يهرب مع كامل حب حفيده وبتشجيع من صديقه عبد الهادي الذي يُقدّم روحه في سبيل ذلك،
وكان الاتجاه إلى مخيم لللاجئين السوريين في الأراضي اللبنانية قرب الحدود مع سورية..
وفي المخيم لم تكن الأجواء أفضل من أجواء القرية،
فمخلفات الحرب ستكون كارثية وعلى الصعد كافة،
ولعلّ أشدّها وطأة هو الاغتراب الروحي والنفسي لجوانيات اللاجئين.. حيث الابتزاز واستغلال حاجات الاخرين.
بالتركيز على الجد تجاوز ذكي لجيل تورط بالحرب
في المخيم تشيكتشف الحفيد مواهبه الكروية التي تُلفت جهات عالمية، وبين تمزق الجد بين أن يترك حفيده يُسافر، وبين أن يبقيه تحت ناظريه طالما هو يرى ويسمع في هذه الحياة،
يكون (أبو الوليد) زعيم الميليشا المسلحة قد اكتشف مكان (هاجر) حبيبة الحفيد، فيرسل عمها لجلبها،
وهنا يحدث ما كان يُرعب الجد، يُقتل الحفيد مع حبيبته خلال هروبهما،
ويدفنهما الجد بجوار قبر صديقه عبد الهادي، ويكمل بعدها رحلة الاغتراب الطويلة..
في فيلم (الطريق)؛ تموت أم الحفيد، ويتزوج الأب من امرأة أخرى، وتذهب العائلة إلى الجزيرة السورية،
وهناك يعيش الحفيد قسوة تعامل الخالة زوجة الأب، الأمر الذي يضطره للعودة لحضن الجد، ونظراً للظروف النفسية التي يعيشها الحفيد هنا، يفشل دراسيّاً، وفي مقاربة مع قصة (إديسون) مخترع الكهرباء، يبني الجد للحفيد مدرسة خاصة مستغلاً خبرته كمعلم سابق حيث يأتي بزملائه لتعليمه، حتى يكبر حلمه أمامه ويصل به لما كان يُريد إيصاله..
أما في فيلم الحكيم فلا يدخل في التعقيدات ولا في النظريات الفلسفية،
وإنما إلى قصيدة حب مصورة مُفعمة بالمشاعر الإنسانية الدفاقة، تعتمد على تجميع قصص بسيطة،
ووقع الحرب على الناس، وإن حاول أن يتم ذلك بعيداً عن التسجيلية والمباشرة،
أو التيه في تفاصيل الحرب وأسبابها، ومن هم أطرافها،
بل يأتي الأمر بتغليف تلك الحكايات بالكثير من الشعرية سواء التي ظهرت في تشكيل الصورة،
أو حتى في شعرية الحوار.. حرب تأكل الأخضر واليابس، وتُخرّب النفوس الهشة..
فبعد حرب طويلة ومضنية وشرسة، لن تأتي أجيالُ الأنبياء بعدها، وككل الحروب سيسود التهتك والإحباط والهجرة ومختلف أنواع الجريمة، وما على أصحاب النفوس القوية،
أو ربما لم يبق ثمة خيارات أمامها غير الاستجرار من (الضعف) القوة لبثها في النفوس المهزومة والمكسورة الخاطر والعاجزة.. و(ليا مباردي) التي ستأخذ دور الحفيدة (ياسمين)،
هي من سيأخذ بالسرد ليُشكّل ذروة الأحداث، ودونها لأمسى الفيلم أقرب للتسجيلي عن يوميات طبيبٍ عجوز في الأرياف يقوم بمساعدة أهله الفقراء..
الحفيدة التي تدرس الفنون الجميلة في العاصمة، هي من نسل عائلة تموتُ نساؤها – الجدة والأم- خلال ظروف الحرب القاهرة غير أن طيف أم الحفيدة (روبين عيسى – شمس) ابنة الطيب سيبقى حاضراً في تفاصيل حياة الحكيم،
ومن هنا كان إصراره في محاولات أحيائهن من خلال شجرات خضراء غرسهن بجوار المنزل، وأطلق عليها الأسماء ذاتها..
والحفيدة التي تربّت في منزل الجد تحملُ قيمه الإنسانية النبيلة،
وهو ما يُذكرنا بفيلم (الطريق) لعبد اللطيف عبد الحميد الذي أخذ “التيمة” نفسها،
وبنى عليها سيرورة أحداث فيلمه..
وإذا كنا في فيلم (رحلة يوسف) وجدنا غيابا تاما للأب الذي مات بظروفٍ غامضة خلال تعب الحياة للأب والجد معاً في اسفارهما الطويلة طلباً للرزق..
نجد ثمة بعضٍ من الحضور له في فيلم (الطريق) أثناء زياراته للإطمئنان عن والده وولده في القرية، فيما يحضر طيف الأم في حالات الشعور المرعب بالفقد التي يعيشها “الحكيم جابر –الجد” في فيلم (الحكيم)..
الحب.. الحبِّ وحده
وفي الأفلام كذلك لم تحضر الحرب على سورية بشكلٍ مباشر، كما لم يحضر الموقف السياسي لهذه الحرب،
أو تحميل جهة ما مسؤولية كلّ هذا الخراب، وإنما كانت الغاية تصوير نتائج هذه الحرب وكارثيتها..
وفي الحرب؛ كما يوجد الكثير من القتلة والمجرمين؛ كذلك هناك – وإن كانوا قلة- رجال ونساء فدائيون معجونون بالحب، يُقاربون القديسين في فدائهم،
من هؤلاء الفادين/الفدائيين: الأجداد: الحكيم جابر، وصالح ويوسف..
في هذه الأفلام أيضاً، إعلاء لشأن الصداقة،
هناك المرأة- تماضر غانم التي واظبت على جلب كوب الحليب الصباحي للحفيد في فيلم (الطريق)..
وهناك عبد الهادي وأبو ياسر في فيلم (رحلة يوسف)،
الأول صديق يوسف في القرية قبل رحلة اللجوء والذي سيفدي صديقه وحفيده بروحه،
والثاني أبو ياسر/وائل عز الدين صديق يوسف في مخيم اللجوء، الذي سيحمل عنه وزر مقتل جماعة (أبو الوليد) التي كانت تطارد الحفيد وحبيبته وقد نالت منه مقتلاً،
وهناك العشرات من أهل القرية في فيلم (الحكيم) الذين يشبهون في وفائهم الشخصيّات السابقة في فليمي (الطريق ورحلة يوسف) ..
ليشكًّل الثلاثة مقولة الحب التي هي غاية هذه الأفلام الثلاثة التي نوّعت عليها في كلِّ هذه المساحة البصرية من السينما..