عمرو علي
أعلنت منصة «شاهد» قبل أسابيع قليلة عن بث الفيلم المصري «19 ب»
من تأليف وإخراج أحمد عبد الله وإنتاج «فيلم كلينك»،
والذي سبق له وأن عرض ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي بدروته الأخيرة ليحوز على ثلاث جوائز دفعة واحدة دون أن ترافق تلك المشاركة مشاركات أخرى على نفس القدر من الأهمية.
تدور قصة الفيلم حول حارس إحدى الفلل القديمة في القاهرة والتي تحمل الرقم 19 ب وهو الرجل الستيني (سيد رجب) الذي تفتح وعيه في الفيلا ودأب على حراستها طيلة عقود عقب وفاة أصحابها الأصليين وانتقال ملكيتها إلى ورثة نسوا العقار وكأنهم قد استغنوا عنه نهائياً،
ليتحول الحارس إلى مالك فعلي للمكان يفعل به ما يحلو له،
ولأن الرجل يعرف قدر نفسه فإنه يكتفي بالعيش برفقة قططه وكلابه الأليفة التي يطعمها ويسقيها بينما يستمع يومياً عبر الراديو القديم إلى أنغام كبار المطربين المصريين الراحلين،
ولكن هناءة الرجل في حياته البسيطة لن تستمر طويلاً إذ سرعان ما يقتحم خلوته بلطجي شاب (أحمد خالد صالح) ليشاركه في إشغال الفيلا حيث يحول واحدة من غرفها إلى مستودع لبضاعته من السجائر المهربة وسط عجز الحارس العجوز عن الرفض أو إبداء الاعتراض،
خاصة أنه قد وافق منذ البداية على قبض ثمن هذا التأجير قبل أن يتراجع عن قراره بعد فوات الأوان ويقدم على محاولات خجولة وبائسة لطرد البلطجي وعصابته،
تارةً عبر ترك صنبور المياه مفتوحاً لإغراق البضاعة،
وتارةً أخرى عبر طرد البلطجي صراحةً،
وهو الأمر الذي لن يتحقق للحارس سوى بعد قتله للبلطجي في شجار عنيف تتداعى على إثره دعامات العقار الآيل أصلاً للسقوط.
تنتهي أحداث الفيلم عند ذروة درامية كبيرة تتمثل في عملية القتل،
وهذه بالتأكيد شجاعة تحسب للسيناريو حيث كان يمكن للقصة أن تذهب بعد هذا الحدث في اتجاهات مغايرة ومغرية لجهة التورط في سياق بوليسي كفيل بتحويل الفيلم برمته إلى واحد من أفلام الجريمة أو التشويق أو حتى الغموض التي تزخر بها السينما المصرية،
ولكن صناع الفيلم يختارون بحسم إنهاء أحداثه عند تلك النقطة مع إبقاء الباب موارباً إزاء جريمة القتل نفسها،
فالفيلم لا يقدم إجابة واضحة وصريحة حول موت البلطجي،
فهل مات الشاب فعلاً؟
أم أن الحارس العجوز كان يحلم ويتمنى إلى درجة أنه قد قتل الشاب في أحلام اليقظة؟
خاصة أن الحارس سرعان ما سيستيقظ في المشهد الأخير ليشرب الشاي برفقة بواب العمارة المجاورة وليلقي التحية على واحد من أعوان البلطجي القتيل وهو السايس الشاب الذي يمسح السيارات في الشارع المجاور دون أن نجد أثراً لجريمة القتل أو حتى للانهيارات التي طالت المبنى.
ينفتح الفيلم بلا شك على قراءات متعددة ومتنوعة كما يحتمل إسقاطات سياسية واجتماعية شديدة الصلة بالواقع المصري، إلا أنه يدعو في المحصلة إلى التمسك بالأصالة في مواجهة ثقافة وسلوكيات هجينة تخترق المجتمع وتعمق الهوة بين الأجيال إلى درجة إحداث قطيعة كاملة بين منظومتين ثقافيتين وأخلاقيتين،
وهو التباين الذي استطاع الفيلم التعبير عنه باقتدار عبر شريط الصوت عندما وضع الأغاني التي يستمع الحارس إليها عبر المذياع في مقابل أغاني المهرجانات والراب التي يدأب أفراد العصابة على سماعها عبر هواتفهم المحمولة،
وهو ما يمكن ملاحظته بسهولة أيضاً عند رصد طريقة تعامل هؤلاء الشباب مع القطط والكلاب الأليفة والتي لا يترددون في قتل بعضها إزاء اهتمام الحارس الدائم بها والذي يصل أحياناً حد الهوس،
وعلى هذه الشاكلة يحيي الفيلم القيم الأصيلة ويدين على طريقته السلوكيات البربرية المجردة من المبادئ والتي تبدو أشبه بطوفان يبتلع في طريقه كل شيء،
خاصة وسط تخاذل أفراد الجيل القديم وأصحاب القيم والمبادئ الحقيقيين وتقاعسهم عن حماية الفيلا المتداعية أو الالتفات إلى رعاية شؤونها،
وأبرزهم المحامي العجوز (صبري عبد المنعم) المكلف بمتابعة شؤون العقار القانونية والذي يكشف للحارس،
عند استعانة الأخيرة به للتحرك قانونياً ضد العصابة،
أن ورثة الفيلا قد نسوا أمرها منذ زمن طويل وأنه يتكفل شخصياً ومنذ سنوات بإرسال الراتب الشهري نظراً للعشرة القديمة التي كانت تجمعهما،
وهذا ما ينسحب أيضاً على الطبيبة التي تساعد الحارس في الاهتمام بالحيوانات وبواب العمارة المجاورة واللذين يكتفيان بشرب الشاي وتبادل الأحاديث دون اتخاذ فعل حقيقي يساهم في حماية الفيلا،
والحقيقة أنه يمكن للمرء الذهاب أبعد من ذلك والنظر إلى الفيلا على المستوى السياسي باعتبارها معادلاً لبلد يتعرض لنهش متواصل من الداخل رغم تداعي أساساته وتأرجحها واحتمالية سقوطها،
ولكن الفيلم يبقي الباب في النهاية مفتوحاً أمام سؤال مرعب حول الثمن الذي دفع لبقاء هذه الفيلا شامخة في مكانها، وحول مآلات المكان والحارس إن اكتشف أمر الجريمة المرتبكة وراء الأسوار؟
لا يقدم الفيلم على صعيد الشكل مقترحاً سينمائياً جديداً وسط اعتماد المخرج على إيقاع متأن ومتأمل يذكر قليلاً بأجواء فيلمه الشهير «فرش وغطا»،
واستخدام محكم لشريط الصوت لجهة التوظيف الدرامي للأغاني القديمة التي يبثها المذياع،
ولكن الفيلم لا يخلو رغم توهج بعض العناصر الفنية من الإطالة والتكرار خاصة في مشاهد رعاية الحيوانات وإصلاح أعطال الكهرباء وسواها،
ويحسب للفيلم وصناعه إعادة اكتشافهم لبطله (سيد رجب) الذي أتخم مسيرته بالمسلسلات التلفزيونية خلال الآونة الأخيرة وكذلك (أحمد خالد صالح) الذي أدى دور البلطجي الشاب.
يبقى «19 ب» واحداً من أكثر الأفلام المصرية المستقلة إشكاليةً خلال السنوات الأخيرة على صعيد المضمون،
رغم أنه لا يتجاوز من الناحية الفنية أفلاماً أكثر أهمية صنعها أحمد عبد الله خلال مسيرته السينمائية الطويلة نسبياً وأبرزها «فرش وغطا»،
والملفت أن المخرج لا يزال يسعى إلى التجريب واختبار الأدوات رغم أن التوفيق لم يحالفه في أفلام أنجزها خلال السنوات السابقة مثل «ديكور» و»ليل خارجي»،
وهي أفلام تراوح في منطقة وسطى بين السينما التجارية والمستقلة بحيث لا يمكن حسبانها على أي من هذين الاتجاهين رغم تحقيقها لبعض المشاركات السينمائية هنا وهناك،
وهذه واحدة من مآزق فيلمنا الجديد الذي يبدو بدوره مراوحاً في مسافة فاصلة،
وإن كان بعض النقاد ينظرون إلى معضلة التجريب باعتبارها فضيلة تضاف إلى فضائل المخرج فإنها تضفي مزيداً من التشتت على صعيد فيلموغرافيا زاخرة بأفلام مختلفة الأنواع ومتنوعة الأشكال يكاد لا يربط بينها رابط رغم كثرتها الكمية، وإن كان يمكن للمرء أن يهتدي أحياناً إلى مقياس المشاركات السينمائية والجوائز الدولية باعتباره معياراً للجودة فإن غياب أفلام هذا المخرج عن المسابقات الكبرى يثبت مجدداً انحسار تجربته لصالح جيل جديد من السينمائيين المستقلين من أمثال أيتن أمين ونادين خان وهشام صقر وسواهم،
ولعل واحداً من الجوانب الأكثر أهمية في سياق هذه التجربة يتمثل بمشاركة منصة «شاهد» في إنتاج هذا الفيلم منخفض الميزانية
وهذا مؤشر يدلل ربما على توجه جديد لدى المنصة في دعم إنتاج الأفلام العربية المستقلة فضلاً عن عرض بعضها.