جوى للانتاج الفني
الرئيسيةفي الصالاتفيلم "بنات ألفة".. تحفة سينمائية وثائقية

فيلم “بنات ألفة”.. تحفة سينمائية وثائقية

سلاف رهونجي

فيلم “بنات ألفة” للمخرجة كوثر بن هنية، حصل على عدة جوائز في مهرجان “كان” لعام 2023 منها جائزة العين الذهبية كأفضل فيلم وئاثقي، وجائزة “السينما الإيجابية”،
كما حصل  في نفس العام على جائزة جوثام كأفضل فيلم وثائقي في المسابقة السنوية المخصصة للسينما المستقلة، ورُشح الفيلم لأوسكار 2024 عن فئة أفضل فيلم غير ناطق بالإنجليزية.

يكمن تميّز الفيلم في عدة نواحٍ، تصب كلها في الإخراج والسيناريو. بداية،
يتحرر الفيلم من كونه فيلماً وثائقياً أو  فيلماً درامياً وثائقياً (ديكودراما) أو حتى فيلماً روائياً طويلاً،
ففي أغلب مشاهد الفيلم اعتمدت المخرجة عناصر مسرحية واضحة، سنتستعرضها لدورها المهم في بنية العمل.

العناصر المسرحية في التصوير والإخراج

 يبدأ الفيلم بمشهدٍ مسرحيٍ ساحرٍ لألفة وبناتها، حيث تجلس الأم على كرسي في وسط المكان وعلى الجانب في الأمام تجلس ابنتاها الموجودتان معها تيسير وآية،
وفي عمق المكان خلف نافذتين تظهر الفتاتان الغائبتان بإضاءةٍ معتمةٍ لا تُظهر ملامحهما،
ويكون الإعلان بشكل مسرحي عن اللعبة المسرحية التي سنشاهدها من قبل الراوية وهي المخرجة التي نشعر بظهرورها كمحرك للحدث من خلال صوتها وأسئلتها على مدى الفيلم.

ثم يأتي المشهد الثاني وفيه أيضاً إعلان عن المسرحة حيث نشاهد الممثلة المبدعة هند صبري التي ستمثل دور ألفة في بعض مشاهد الفيلم،
نراها بملابسها الشخصية وبشخصيتها الحقيقية تجلس أمام مرآة تضع الماكيرة لها مكياجها،
وهي تتحضر لمقابلة ألفة ويدور حديث بين هند وكوثر عن مدى توتر هند لمقابلة ألفة، فنرى نحن كمشاهدين أن هند صبري ستؤدي دور ألفة وستكون مرآة ألفة ويظهر ذلك بشكل واضح في المشهد الذي يليه حيث نرى ظهر ألفة في الكاميرا ووجه هند في المرآة،
وهما يقومان بالنظر إلى المرآة معاً وتعديل مظهرهما،
ويكون بطل المشهدين المرآة الموازية للكاميرا فتعلن المخرجة أن الفيلم والكاميرا سيكونان بمثابة مرآة للأحداث وللشخصيات الموجودة في الفيلم.

فيلم بنات الفة
فيلم بنات الفة

وللمرآة حضور واضح، فجميع المشاهد التي تجلس فيها الشخصيات على الكنبة تنظر إلى الكاميرا الموازية للمرآة فتتبدى لنا وكأنها تنظر إلى المرآة،
وخاصة في المشهد التي تمسح فيه آية علامات قلم الحمرا الموجودة على المرآة التي هي نفسها الكاميرا،
مشاهد ألفة وهي تنظف النافذة حيث الكاميرا تأخذ ظهر ألفة ووجه هند صبري لتبدو هند كمرآة لألفة ونسمع صوت هند وألفة تقولان نفس الكلام معاً، هند عندما تتحضر لتمثل شخصية ألفة وتسمع صوت ألفة على الهاتف المحمول، فتنظر إلى نفسها في المرآة وهي تحاول تقليد جمل ألفة ليكون مشهد آخر فيه إعلان عن المسرحة وأن ما نقوم به هو مسرح داخل مسرح،
كل مشاهد الفيلم مبنية على هذه التقنية المسرحية وذلك إما من خلال وجود هند وألفة في المشهد نفسه،
حيث إحداهما تمثل المشهد والأخرى في عمق المشهد كجهمور أو رقيب أو تتدخل أحياناً وتعطي تعليمات إخراجية (كما فعلت ألفة مع هند في العديد من المشاهد)،
أو تقدم تقييمات للقصة ورأي شخصي (كما فعلت هند مع ألفة والبنات في العديد من المشاهد)،
أو عرض المشهد عند التحضير لتمثيله وأثناء تمثيله وبعد تمثيله،
وأحياناً رأي الشخصيات بهذا المشهد وتبعاته النفسية وهم بنفس المشهد المعروض، كما في بداية الفيلم عند دخول الممثلتين اللتين ستمثلان دور غفران ورحمة وردة فعل ألفة وتيسير وآية ثم تحضير هند للممثلتين كي تشبهان بالشكل الفتاتين الغائبتين، ثم الإعلان من المخرجة أن تيسير وآية ستمثلان أدوريهما في الحياة رغم اختلاف شكليهما تماماً حيث كانتا طفلتين صغيرتين في الحدث الحقيقي ولكننا نقبل بالفرضية المسرحية..
هناك أيضا، مشهد ألفة مع زوجها وهما يحضران مشهدا رومانسيا من فيلم،
حيث تتناوب هند وألفة على تمثيل المشهد الرومانسي المعروض في التلفاز،
وهو من أحد أفلام هند صبري، التي تقول وهي تمثل دور ألفة أريد أن أكون مثلها فيضحك الممثل وتضحك هند بشخصيتها وليس بشخصية ألفة وتعلق على المشهد المعروض لها.

واللاف أن المخرجة أوكلت كل المشاهد التي فيها رجل لممثل واحد،
قام بدور الأب وعشيق الأم وسام وحبيب رحمة وحتى الضابط الذي تتكلم معه ألفه، فكل الرجال في حياتهن كانوا بصورة واحدة.

“التغريب” و”التطهير” من منظور مختلف

 كل ما ذكرناه سابقاً من تقنيات إخراجية، ساهم بكسر إيهام المتلقي تجاه ما يشاهده في الفيلم، فرغم أن الحدث حقيقي وأغلب الشخصيات موجودة أمامنا وتمثل الحدث الذي يحمل شحنات كبيرة من الألم بعاطفة مطلقة وبتأثر كبير إلا أننا كلما تأثرنا بالحدث يحصل “التغريب البريختي” ويكسر إيهامنا ويضع مسافة بيننا وبين الحدث، لتأرجحنا المخرجة بمهارة عالية بين التأثر والتعاطف مع الحدث القاسي وبين التفكير به بشكل عقلاني والبحث بمسبباته، فهي لا تريد أن نتعاطف ويحصل التطهير تجاه ما حدث بل تريد شحننا تجاه الحدث وكأنها تهزنا من داخلنا وتقول لنا انتبهوا هذا نتيجة المجتمع الذكوري، نتيجة العادات والتقاليد البالية التي تفكر بالمرأة منذ ولادتها كعار يجب وأده.. الطفلة الصغيرة، جسد يجب إخفاؤه وهو ليس ملكها بل ملك زوجها فقط.  طفلات صغيرات، ومع ذلك يشعرن بأنوثتهن، لأن الكل قال لهن أنتن جسد مغر فلم يفكرن بأنفسهن إلا بهذه الطريقة. طفلات بعمر الورد بدءاً من العشر سنوات تخبطن بين عبادة الشيطان والبحث عن الحب الأبوي البديل المتمثل بعشيق الأم وشباب الحي، ثم انسقن مع التيار الموجود أمامهن بحثاً عن الأمان والاستقرار والحب، ليكون نهاية مطافهن التطرف والجماعات الاسلامية، كل هذا أدى إلى وصول غفران ورحمة إلى السجن.

حضر ممثل واحد لكل الأدوار للتأكيد على الذكورية العابرة لكل الشخصيات

هذا ما أرادته المخرجة للمشاهدين، أرادت كسر الإيهام و التغريب تجاه الحدث كي لا نتعاطف ولا يحصل التطهير المسرحي معنا بل نفكر بالحدث ونشحن تجاهه، ولكنها أرادت العكس للممثلين وخاصة ألفة وآية وتيسير، فمشاركتهن في تمثيل مشاهد الفيلم هي بمثابة علاج نفسي لهن، لتُدخل المخرجة نوعاً مسرحياً أخر في الفيلم وهو المسرح العلاجي (السايكودراما) بمراحله الثلاث، حيث نرى مرحلة تحضير المَشاهد والمخرجة بمثابة المدير للعملية المسرحية، ثم المرحلة الثانية وهي إعادة تمثيل الأحداث الأكثر تأثيراً أو عنفاً في حياتهن، فإعادة عيش الحدث المؤلم والنزاع الذي مررن به مرة أخرى تجعلهن قادرات على مواجهته بدل الهروب منه، رغم تأجج مشاعرهن، التي تصل إلى الذروة، حيث ينحقق تطهير النفس من خلال التأثر والبكاء، عندها تشعرن براحة أكبر تجاه الأحداث، وينظرن إلى أنفسهن بشكل إيجابي، كخطوة أولى نحو بناء الذات التي تضررت، خطوة تختتم المرحلة الثالثة من رحلة العلاج النفسي عبر العمل الفني.

فيلم بنات الفة
فيلم بنات الفة

المكان واللونية

اعتمدت المخرجة مكاناً واحداً في معظم مشاهدها وهو منزل الأسرة الذي جرت فيه معظم الأحداث، وبالوقت نفسه لتوضح موقف المجتمع الذي يرى أن مكان المرأة داخل المنزل وليس خارجه، إما للجنس أو لتخبئتها مخافةً عليها من الجنس، ورغم ضيق المكان إلا أن المخرجة سحرتنا بلقطاتها الجميلة مع ان الكاميرا كانت غالبا ثابتة ومواجهة للشخصيات، وحركتها أثناء المشهد بسيطة، ولكن حضورها طاغٍ.

لقطات العمل الخارجية محدودة بالمقارنة مع اللقطات الداخلية، وجميعها لقطات نهارية، وبالعموم ترمز إلى الحرية والانطلاق، أميزها مشهد حب لألفة ووسام حيث نراهما من خلال نافذتين للمنزل ترصدهما الكاميرا من الطرف المقابل للمنزل، ليتبدى المنزل مظلماً والنور ينبعث منهما في عمق المشهد، وكأنها تقول الحب جعلها تنطلق وتشعر بحرية وتخرج من منزل الزوجية القاتم المليء بالعنف والقهر.

المروحة اللونية التي اعتمدتها المخرجة في مشاهدها، عريضة ومتنوعة، فهي فرحة يطغى عليه اللون الأحمر ليعبر عن البهجة والأنوثة والحب وبعضها قاتم وكئيب كالعديد من محطات حياة الشخصيات.

 تفاصيل فنية أعطت للإخراج هوية مختلفة ومتميزة ، ثم يأتي العنصر المهم الثاني في الفيلم والمتمم للعملية الإخراجية، إنه السيناريو.

سيناريو “بنات ألفة” فسيفساء السبب وليس النتيجة

  فيلم ” بنات ألفة” بعنوانه الرئيسي يعلن أن القصة حول بنات ألفة، ولكن اسم العلم الظاهر ليس البنات بل ألفة لأن شخصيتها والأحداث التي مرت بها هي الأساس بتكوّن شخصية البنات وبتحديد مصائرهن، ومنه تبدأ الكاتبة (المخرجة) بعرض قصة حياة ألفة منذ طفولتها على لسانها، وتستحضر تمثيلياً المشاهد المفصلية في حياتها ليكون أول مشهد ليلة الدخلة.

الرجل كان مصدر خوف في حياة ألفة، البداية مع أب قاسٍ تخلى عن أسرته، ما اضطرها لأن تتخلى عن أنوثتها لتتمكن من صد تحرش الرجال بها وبأخواتها وأمها، فكان من الصعوبة بمكان العودة إلى أنوثتها يوم زفافها وخاصة مع رجل يريد ممارسة الجنس معها بشكل آلي لإعلان عفتها أمام أهل القرية، ومع رفضها لتلك الممارسة تتهم بشرفها فتعطي أختها دم العريس بدل دم عفتها.

رفضت ممارسة الجنس مع زوجها لرفضها لأنوثة تربت على أنها شيءٌ آثمٌ، وعندما حاولت أن تطلب من زوجها التعامل معها برومانسية لم يقبل وبقي الجنس أحد أشكال العنف الذي كان يمارسه على زوجته وبناته، وعندما قررت الثورة على واقعها وتطلقت من زوجها وتعرفت على وسام القاتل الذي اختبأ عندها، شعرت بأنوثتها وسعادة لم تشعر بها من قبل ولكنها نسيت أنها أم لأربع بنات صغيرات، فلم يلبث وسام أن تحرش بهن، فكانت صدمتهن كبيرة بالذكر الثاني في حياتهن.

بعد غياب وسام بحثت البنتان الكبيرتان غفران 13 سنة ورحمة 12 سنة عن بديل الأب والسند في أحباء لهما، فكان رد أمهماعنيفا كأنهما مومستان، بل إنها أساءت الظن بآية الطفلة ذات الثماني بسبب صورة..

 أم قاسية وغائبة للعمل، ذكر سيء على مدار حياتهن، إحساس مسبق بالذنب تجاه أنوثتهن.. كل هذا سينتج عنه خلل نفسي وعدم توازن عند البنات، فكان البديل مجاراة التيار السائد حينها وهو التطرف الديني، عندها لن يقال عنهن لمجرد كونهن بنات أنهن مومسات.

 غفران ورحمة لم تلبسا النقاب لقناعة دينية حقيقية بل نتيجة صدمة جديدة، رحمة أمسكها عدة مشايخ وخوفوها من عذاب القبر الشديد عبر تلاوة قصص عن هذا الموضوع وهي الفتاة الهشة من الداخل فكانت ردة فعلها السريعة لبس النقاب والتطرف الديني بأبشع صوره، صدمة لم تستطع الخروج منها فكانت تعيد مع أخواتها تمثيل الموت ودفن الميت وظهور الملائكة للميت لسؤاله عن أعماله، كلعبة دائمة لتستطيع في عقلها الباطن أن تسيطر على هذه الحدث دون جدوى. حتى غفران ارتدت النقاب لأن شيخاً ذا مكانة وضع لها النقاب وعندما رفعه قال لها بأنها شمس وقمر، وهي من اعتادت على أن يتم التعامل معها على أنها بلا قيمة لكونها فتاة.

فيلم تناول قصة معاناة أسرة نتيجة هروب بنتين منها للانضمام إلى داعش، ولكن الملفت للنظر بالسيناريو أمران أولهما لا نعلم مصير البنتين ومسألة هروبهما حتى الربع الأخير من الفيلم، وثانيهما أن الفيلم لم يركز على داعش ولم يدخل بتفاصيل انضمامهما لها، فهروبهما لداعش هو نهاية السيناريو وليس بدايته أو حتى منتصفه، لأن الكاتبة (المخرجة) أرادت التركيز على الأسرة والبيئة والمجتمع الذكوري والأحداث التي قادتهما لذلك المصير المأساوي، أرادت التركيز على السبب وليس النتيجة، وهذا اختلافٌ مهمٌ آخرٌ في سيناريو الفيلم عن غيره من الأفلام التي تناولت تلك الحركات الإسلامية المتطرفة وما حدث فيها.

جرعة ألم كبيرة قدمت بمنطق بريختي يدفعنا للتفكير بدل التعاطف والتطهر

 السؤال الذي ركزت عليه الكاتبة : هل التطرف الديني هو من جعل ألفة تخسر ابنتيها؟ فكان الجواب في السيناريو، أن ألفة خسرت بنتيها قبل ذلك بكثير.

ولكن الملفت بالموضوع أن ألفة لا تشعر بذلك، بالنسبة لها هروب بنتيها إلى ليبيا ودخولهما بداعش ثم القبض عليهما وسجنهما هو الخسارة.
فنراها تلوم الثورة وتصف ما حصل لها باللعنةٌ فالذي عاشته هي مع أهلها تكرر مع بناتها،
رغم محاولة هند صبري أن تلفت نظرها بأن الإنسان يعيد تربية أطفاله بنفس الطريقة حتى يأتي الجيل الذي يكسر هذه السلسلة مشيرة إلى آية وتيسير،
عندها تقول ألفة أن اللعنة قد لا تصيب آية وتيسير،
لكن ليس هو حال رحمة وغفران، خاصة وأن الأخيرة أنجبت ابنتها قاطمة في السجن،
ولاتزال فيه لم تر النور إلى الآن..
ليكون مشهد النهاية في السجن حيث نرى رحمة وغفران وفاطمة،
مع لقطة قريبة على فاطمة الطفلة البريئة ذات الثمانية أعوام عاشتها جميعها في السجن.
لتنهي المخرجة (الكاتبة) الفيلم بغصة كبيرة في قلوبنا،
فكيف نطالب بالتغيير المجتمعي وأبسط حقوق للطفل غير موجودة !. عندها ندرك لمَ كان الاسم الفرعي للفيلم المقتبس من أسماء البنات الأربع هو: “آية الرحمة وتيسير الغفران”.

فيلم “بنات ألفة” بتوقيع المخرجة التونسية كوثر بن هنية، تحفة فنية متكاملة على صعيد التمثيل والتصوير والإضاءة والسيناريو والإخراج، ثورة على مستوى الأفلام الوثائقية، ارتفع بها لمستوى جديد.

 

مقالات ذات صلة

- Advertisment -

الأكثر شهرة