جوى للانتاج الفني
الرئيسيةأيقونةفيلم كتب له الخلود

فيلم كتب له الخلود

لـمـاذا عـلـيـنـا ألا نـتـوقف عن مشــاهدة العراب ؟

جود سعيد

العرّاب، كلمة نسمعها في الحياة كثيراً،
أحدهم يقول: “فلان عرّابي”، والآخر يردّد إن ذلك الشخص هو “عرّاب تلك المهنة” وقس على ذلك
.

لكن في السينما هناك عرّاب واحد فقط، إنه عراب كوبولا.
تعال نعرف لماذا علينا ألا نتوقف عن مشاهدته؟
ولماذا سوف يستمتع محبو السينما من الأجيال الجديدة بهذا الفيلم!

كيف يصبح العمل الفني خالداً؟

عندما يصير جزءاً من الذاكرة الجمعية، وساعة يصبح قطعةً من حكاية البشرية.

استعادة هذا العمل الفني للأجيال الجديدة ليست بالأمر الهيّن، فشرط عرضه الأول قد لا يتوفر دوماً، بالتالي فهو يفقد جزءاً من تأثيره الذي أراده صانعه.

لا يمكن استعادة مسرح شكسبير، مثلاً، كما قدّم في عصره. ومن المستحيل استنساخ شوبان ليقدم أعماله كما أراد حين ألّفها..

ولكن.. السينما ثابتة في كل مرة تعرض فيها، لا شيء يتغير. الفيلم هو ذاته اليوم أو بعد مئة سنة، وطريقة عرضه تبقى نفسها، ويختلف التلقي فقط باختلاف العصر الذي نعيشه.

من هنا تتميز السينما عن باقي الفنون، فهي استعادية بامتياز دون أي تبديل أو تغيير فيما أراده صناعها، ما خلا التحسين التقني لشرط العرض أو عمليات الترميم التي تخضع لها الأفلام لتتماشى وطرق العرض التقنية المعاصرة.

في العام الفائت وبمناسبة خمسين عاماً على إطلاقه، قدمت شركة “باراماونت” نسخة رقمية مرممة من ملحمتها “العراب”، الفيلم الذي قدم جزؤه الأول في العام ١٩٧٢ وهو من إخراج فرانسيس فورد كوبولا، وبني نصّه عن رواية ماريو بوزو (شارك كوبولا في كتابة السيناريو) التي تحمل الاسم ذاته.

الرواية التي حكت إحدى قصص المافيا الإيطالية في أميركا، معرجةً على أصولها وشارحة علاقتها بالمجتمع والسلطة، تحولت إلى أيقونة سينمائية من ثلاثة أجزاء

حول عائلة الدون ڤيتو كورليوني الذي جسده مارلون براندو في الجزء الأول، وروبرت دي نيرو في الجزء الثاني.

الدون ڤيتو، شخصية لا تشبه أحداً، بل ربما يكون أحد الأشرار القليلين في عالم الحكاية عموماً والسينما خاصةً الذين يجمع المشاهدون على محبتهم. الرجل يمثل منظومة أخلاقية متكاملة، صادق وعادل وكريم ووفي!.

أجل، زعيم المافيا الأقوى هو كذلك، لا بل تراه يرفض تلويث المجتمع بتجارة المخدرات!.

هنا تتوقف للحظة، ماذا يريد كوبولا؟

لنبسط الأمور، هل يقول للمنظومة الحاكمة في أميركا، نعم المافيا أفضل منكم، أنتم أفسدُ ما عرفنا في حياتنا، لربما أراد ذلك.

أو هو يضع منظومتين متغولتين في مواجهة بعضهما ويترك للمشاهد أن يحكم من الأكثر شراً؟ (مشهد المحاكمة في الجزء الثاني).

العائلة أساس البناء الأخلاقي في المنظومة المافيوية التي يقدمها “العراب”، لا شيء يعلو فوق صوت العائلة الصغرى (البيت)، والكبرى (المافيوية المكونة من البيت الرئيس أي الكورليوني وبيوتات أخرى ملحقة).

العائلة وقصتها هي الواجهة الدرامية التي يقدم كوبولا لنا من خلال صراعاتها الداخلية وحروبها مع أعدائها تشريحاً دقيقاً (من وجهة نظره) لفترة مهمة من التاريخ الأميركي منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، شارحاً بعض الجوانب الخفية لكيفية تشكل الجبّار الاقتصادي الأميركي.

إن هذا الجانب المعرفي الذي يحمله الفيلم لا يطغى أبداً على حكائيته العظيمة، فهو لا يُنظّر عليك بل يحملك معه في رحلة الدون فيتو وأولاده وأحفاده بمتعة خالصة.

العراب

يبدأ العراب بجملة تقول “إن أميركا محبوبة هذا الرجل (ڤيتو) لأنها صنيعة أمثاله”، شيء جديدٌ يولد من العنف، أمة تعيش على مبدأ الأقوى يحكمُ.

عرسٌ واحتفالٌ بالقتل، يسحر المتلقي فيتقبل المنظومة منذ اللحظة الأولى، حكاية تعلّم كيف أن هذا العالم بنيَ على الدم والانتقام، على مساءلة السلطة كمجرمة، وعدوها هل هو أقل إجراماً أم أكثر؟!.

الحكاية لا تعطي حكم قيمة أخلاقياً، بل تدعك تنساب مع وجع عائلة ترسم قواعدها التي ستحكم مصائر الناس.

جزء أول يبتكر معنى السلطة في شكلها البدائي: القوي يحمي الضعيف والأخير يؤدي فروض الطاعة. هكذا أنشأ الدون عائلته.

دون ڤيتو، كما حكام القرون الوسطى أو أباطرة روما، يثبت حكمه وحين يضعفُ يورّث السلطة وتبعاتها للابن الأصغر مايكل (آل باتشينو) بعد موت الأكبر سانيتو في عملية انتقامية من قبل عائلة منافسة. مايكل، الدون الجديد، كان شبه مستبعد من أعمال العائلة بل اختار قبلاً تأدية الخدمة العسكرية كأي مواطن صالح رغم قدرة نفوذ والده على إعفائه منها (تداخل مصالح المافيا والسلطة). وهكذا ينتهي أول الأجزاء بتنصيب زعيم جديد.. بنصرٍ للعائلة – المافيا على كل شيء، حتى على القانون.

وهنا يبدأ ثاني الأجزاء مع دي نيرو (فيتو الشاب) وكيف أصبح زعيماً منذ مغادرته لإيطاليا طفلاً، بالتوازي مع رضوخ الحياة لزعامة ابنه مايكل..

جزء بني على قصتي الأب وابنه. صنع الزعامة وتكريسها ضمن حكايتين تبدوان مستقلتين ولكن يجمعهما معنى واحد.

نعم هذه الدنيا تحكمها منظومات موازية.. هذا ما يقوله الجزء الأول والثاني، وينهي كوبولا الجزء الثاني مع ترسخ سلطة المافيا على المجتمع وقدرتها على هزم القانون..

ليعود بعد تسع سنين، في نهاية الثمانينيات، (لا نعرف لم فالجزء الثالث لا يوازي فنياً سابقيه) ليقول إن العائلة ستخضع للنظام الجديد الذي ولد للتو، فمحاولات المافيا لشرعنة ذاتها ستنهار أمام القوى الجديدة، وسيصرخ الدون (مايكل عجوزاً) لخسارة ابنته وهزيمة العائلة.

حسناً، هذه الثلاثية تستحق المشاهدة. بصرياً ابتكرت خطىً جديدة لمعنى الصورة، ففي ضوء الفيلم عيون تحكي بالتوازي مع الكلام لأنها رسمت بإضاءة جديدة مبتكرة لغوردون ويليس خرجت عن المألوف وصنعت أبجدية جديدة صارت قاعدة لصنع ظلال للشر والخير.

أما الموسيقى فجعلها نينو روتا آيةً موازية للفيلم حيث باتت نغمة لأجهزتنا الخليوية دون أن نعرف مرجعها (أفلا يستحق مرجعها أن يشاهد؟).

العراب ثلاثية شغلت العالم السينمائي في نهاية القرن الماضي واستمرت في كونها مرجعية لصناع ومحبي هذا الفن.

على صعيد التمثيل نلحظ أداء خاصاً من براندو وباتشينو كأنهما شخصية واحدة في قلة الأفعال وهدوء ردود الفعل حتى في أصعب اللحظات (موت الابن الأكبر سانيتو في الجزء الأول، واكتشاف خيانة ألفريدو في الثاني) على عكس سانيتو وألفريدو اللذين يشي أداؤهما بطبيعة شخصيتهما: العنفية عند سانيتو (جيمس كان)، والمتوترة الضعيفة عند الفريدو (جون كازال)، فضلاً عن الأخت كوني (تاليا شير) التي تنتقل من فتاة ضائعة عابثة في الجزء الأول إلى أم رزينة في الثاني، وحليفة لأخيها العراب مايكل في إدارة البيت.

وعند حديثنا عن التمثيل يجب أن لا ننسى روبرت دوڤال الذي لعب ببراعة شخصية توم، المستشار والأخ المتبنى للعائلة، والذي شكل عبر الجزأين الأولين دور منفذ أوامر الدون وبيت أسراره.

الفيلم يزخر في كل جزء بالشخصيات الثانوية التي أجيدت من قبل الذين قاموا بأدائها: كبينتانجيلي في الجزء الثاني وهو يقلب المحاكمة رأساً على عقب، أو بوناسيرا في افتتاح الجزء الأول وهو يطلب من الدون قتل من تحرّشوا بابنته.

تخيّلوا أنكم في عالم كله من الأشرار وأنتم مستمتعون!

نعم، عالم شرير فيه أنثى وحيدة تمثل كل ما هو مثالي ورومانسي وهي كاي (ديان كيتون)، حبيبية الدون الابن التي لم تملّ من محاولة إعادة الرجل الذي أحبته إلى عالم المثالية الذي عرفته فيه، ولكنها وعبر ثلاثة أجزاء تفشل إلا في جعل ابنهما بعيداً تماماً عن المافيا.

على صعيد آخر لعلّ عبقرية الدراما في الثلاثية هي الحضور الهامشي لعدو البطل.

نعم فالشخصية الرئيسية وعائلتها تتعرض لمكائد وكمائن وحروب من شخصيات لا تظهر كثيراً كما عودتنا دراما العصابات التقليدية. في “العراب” لا يهم أن ترى من هم ضد العائلة. سيكفي أن تستمتع بما تفعله العائلة بهم.

إذا أردنا أن نضع الأجزاء الثلاثة في ميزان،
فبالنسبة لي سينتصر الثاني فنياً والأول عاطفياً والثالث لأجل صرخة آل باتشينو في نهايته
والتي جعلتني أتوه: أيبكي على ما حصل له أم على انتهاء الثلاثية؟!.

غوردون ويليس، مدير التصوير، علينا أن نوفيه حقّه فقد استطاع أن ينقل ما تخيله كوبولا ويجعله جزءاً من السرد،
أي استطاع غوردون أن يخلق هوية بصرية للعائلة، حتى أن إضاءة عيني الدون في بعض المشاهد باتت ماركة مسجلة باسم الفيلم.

نينو روتا جعل موسيقى الأشرار نغمةً لن تموت ما بقينا نسمع.

براندو ودي نيرو وباتشينو فتحوا باباً لمفهوم الأداء بني عليه الكثير لاحقاً.

كل هؤلاء مدينون لصانع اسمه فرانسيس فورد كوبولا غيّر مفهوم عالم الجريمة في السينما.

من لم يشاهد الفيلم من الأجيال الجديدة فاته فقط بعض من السحر. أنصحه أن يفعل ما سأفعله وأنا أنهي المقالة: مشاهدة الثلاثية

مقالات ذات صلة

- Advertisment -

الأكثر شهرة