جوى للانتاج الفني
الرئيسيةالمكتبةفاكهة السينما الممنوعة | عباس كياروستامي: سينما شاعرية بطعم الكرز

فاكهة السينما الممنوعة | عباس كياروستامي: سينما شاعرية بطعم الكرز

عباس كياروستامي: سينما شاعرية بطعم الكرز

أموات لم يُسمح لهم – وهم أحياء – بالكلام أو التنفس بصوت عالٍ، فاستغلوا فرصة موتهم العظيمة ليبوحوا بأسرارهم. دبت الرطوبة في أجسادهم الجافة، فتجرؤوا على سرد حكاياتهم، التي لم تكن مهمة سوى لروائي من طراز خوان رولفو.
هذه اللقطة المخرَجة بعبقرية، حبست أنفاسي، وأجبرتني على الخروج من المنزل هائماً على وجهي وأنا أتمتم: أنا حي الآن.
يمكن للقطة مقربة كهذه أن تتوسع وتتمدد وتستولي على كامل العمل، أن تصبح أثيرة، ولكنها، بالتأكيد، لا تختصر
العمل بأكمله.
عباس كياروستامي، خبير في التركيز على مثل هذه اللقطات المقربة. إنه لا يهمل التفاصيل الأخرى – المهمة بالفعل- ولكنه يثبت الكاميرا على حدث، على وجه، على ما هو مخفي وراء الكلمات، وكأنه عميل سري عالي الثقافة، ومهووس بالفن التشكيلي، ويلهث وراء مشهد عالمي، ليؤكد لنا – ولنفسه أولاً – أن هذا العالم الذي نعيش فيه، يحتاج إلى نفحة صغيرة من الرطوبة، كي تدبّ الحياة في أرواحنا اليابسة.

في “كلوز أب close up”، يدافع سابزيان عن نفسه، لا بل عن شغفه بالسينما، ويصر على أن من حقه أن يتنكر في شخصية المخرج الإيراني محسن مخملباف، وفي شخصية من يريد. فالحياة ليست ملكاً لأحد، لا لهواة تشريع القوانين، ولا لأصحاب السطوة المالية والسياسية. وكأننا نستمع إلى صوت دوستويفسكي عبر راسكولنيكوف الفاتن ــ المضطرب. ولا يتخلى كياروستامي في “طعم الكرز teste of cherry” عن هذا الحق؛ فهو يقرر ـ عبر بطله بديعي ـ أن حياته ملكه، ولا يحق للآخرين، مهما كانت معتقداتهم، أن يقرروا عنه أي أمر.

“طعم الكرز”، يتفرد في تقديم النكهة التي يرغبها كياروستامي، إنه سيل من الصور والأصوات التي تخرج عن مألوف الموسيقى التصويرية. ينطلق بديعي بسيارته قاطعاً مسافات طويلة، بحثاً عمن يعقد معه صفقة، ربما تكون مربحة للطرفين.

تنص الصفقة على أن يتناول بديعي حبوباً منومة، ويستلقي في حفرة بجانب شجرة كرز، وأن يقوم من يقبل بالصفقة بتفقده في
اليوم التالي، فإن لم يردّ بديعي، عليه أن يهيل فوقه التراب، وإذا استفاق يؤجل الموضوع حتى إشعار آخر. وفي كلا الحالتين، سيعود الرجل إلى منزله بحقيبة مملوءة بالنقود.

من يعقد صفقة مع الموت بهذا الشغف؟

ولنعد صياغة السؤال بشكل آخر: من ذا الذي يمكنه أن يبرهن على جدوى الحياة؟
يستمر بديعي في التجول بسيارته، ويصطاد جندياً شاباً، وحين يعرض عليه الصفقة، يطلق الجندي المرتعد لساقيه الريح، مع أن قتل الأعداء من البديهيات في الجيش. والفريسة الثانية كان رجل دين، يعترض على فكرة بديعي، ويحاول أن يستشهد بالمقولات الدينية لثنيه عن قتل نفسه. أما العجوز، وهو الثالث في القائمة، يوافق على دفن بديعي، لأنه بحاجة إلى المال لإجراء عملية لابنه. إن الأمر مجرد استبدال حياة بأخرى؛ وكأن العالم لا يستوي إلا بقتل مقابل المال. وهو توصيف لهذا العالم المجنون الذي نعيش فيه؛ حيث إن معركة الأنقياء مع الحياة، هي معركة محسومة سلفاً: الموت للنقاء.

تكون النهايات واقعية، لا تلطخها أي بقعة، مهما كانت صغيرة، من الخيال التجميلي. ليس هدف كياروستامي أن تكون النهايات مُرضية، وإنما أن تكون غامضة كالموسيقى والشعر والرسم، كما يقول هو نفسه.

يقف بديعي أمام مشهد عادي: آلات ضخمة تردم الحفر. يتمنى بديعي عندها أن يكون في إحداها. ولكن لماذا؟ هذا ليس مهماً،
لأن ذلك سيفسد المعنى من وراء الفيلم. الموت رحمة عند بديعي، ولكن هل هو رحمة عند أبطال خوان رولفو، الذين لم يشعروا بطعم الحياة وهم أحياء؟

ينتهي الفيلم وبديعي ممدد في الحفرة؛ هي نهاية مفتوحة، وعلى كل منا أن يضع نهاية تخصه. فبعد كل هذا الخيال ـ شديد
الواقعية، لا يفرض علينا كياروستامي رأيه، ولكننا نبقى معلقين في عالمه.

لم ترافق الفيلم موسيقى تصويرية، وإنما ضج بالصمت الكثير وبأصوات العمل ومحرك السيارة وانهيال التراب، مع صوت الريح، ومقطع صغير، صغير جداً، من موسيقا الجاز الأمريكي للويس أرمسترونغ. ولماذا الجاز تحديداً؟ لأن هذا النوع من الموسيقا استُلهم من قعقعة وصرير الأغلال التي كانت تقيد أيدي وأرجل وأعناق الأفارقة الذين كان يتم أسرهم وأخذهم
“كعبيد” بالقوة إلى العالم الجديد.

في الطريق إلى كياروستامي

خطوة واحدة داخل مختبر كياروستامي، تجعلك تدرك أن صاحب هذه التحف الفنية، ليس مجرد كاتب ومخرج ومصور عادي. إنه يستخدم هوسه بالفن التشكيلي والقراءة (وتحديداً الشعر) في صناعة صورة متحركة محقونة بروح محبة للحياة، بقدر ما تشك في جدوى هذه الحياة. إنه يصنع فيلماً شعرياً، وغالباً “ما يجيء بحكايات غير منتظرة وبشاعرية مؤصلة” كما يقول فجر يعقوب.
عليك أن تخطو لوحدك في عالم كياروستامي، فهو لن يدلك على الطريق. وفي حوار مع فجر يعقوب، يقول: “لا أستطيع شرح أفلامي بالكلمات، وكل صانعي الأفلام لا يقومون بذلك. ولكن السينما تفرض عليّ طريقة عميقة في التفكير”.
هذا الفنان التشكيلي والسينمائي الإيراني، لا يمانع من أن تقرأ فلامه كما تريد، ففيلمه “يشبه نصف بناء، وبإمكانك الإضافة
عليه وكسوه. أنت حر في إضافة ما تشاء على هذا البناء”.

جمال إيراني

يقول المخرج الياباني أكيرا كوراساوا: “أعتقد أن أفلام المخرج الإيراني عباس كياروستامي رائعة واستثنائية، والكلمات وحدها تعجز عن وصف مشاعري”. ورغم أن هذا الكلام كان مؤثراً جداً، إلا أن كياروستامي علق قائلاً: “هذا النوع من التمجيد لن يغير من أسلوبي”. إنه عالق في الفخ الإيراني الساحر، ولا يميل سوى إلى السينما الخاصة.
أخرج كياروستامي عدداً كبيراً من الأفلام، بينها: المسافر، أين يسكن الصديق، كلوز أب (جائزة سينما ريمني الفضية)، وتستمر الحياة (جائزة روسيليني في مهرجان كان)، طعم الكرز (الفائز بالسعفة الذهبية في مهرجان كان)، سوف تحملنا الرياح.

الحرية: صلاحية منتهية

تحاكي أفلام كياروستامي ـ في كثير من تفاصيلها ـ وهم الحرية، الذي أرّق المفكرين والفلاسفة والشعراء. في لقطة ما نسمع
أصوات دوستويفسكي وغوته وفرجينيا وولف وسيلفيا بلاث. وفي لقطات كثيرة، نسمع صوتنا الخاص، أعلى من صوت هدير الآليات والرعد، وندرك أن الحرية منتهية الصلاحية، ولا يمكن أن توجد إلا في عالم يعبق بالندى، كعالم أبطال خوان رولفو.
“عباس كياروستامي.. فاكهة السينما الممنوعة”، كتاب لفجر يعقوب، استعرض فيه بعض أفلام المخرج الإيراني كياروستامي، وحواره معه في مهرجان دمشق السينمائي، وخصص الفصل الأخير لكياروستامي نفسه، وجاء تحت عنوان “أرى السينما من نافذة سيارتي”، حيث تحدث فيه عن تجربته السينمائية وعن رؤيته الإخراجية باختصار شديد.

Postproduction

كثيراً ما نسمع هذه الكلمة على ألسنة العاملين في الوسط السينمائي وكذلك الدرامي وفي حقل الإعلان أيضاً.
تنقسم عملية صناعة فيلم أو مسلسل أو دعاية إلى مراحل ثلاث الأولى:
(preproduction) التحضير، وترجمتها الحرفية.
“ما قبل الإنتاج”.
(Production) وترجمتها “مرحلة التصوير”.
(Postproduction) وهي مرحلة العمليات الفنية أو ما بعد الإنتاج.
يعتقد كثيرون خطأً أن هذه العمليات تتم بشكل أوتوماتيكي، فالأهم (أي التصوير) قد مضى.. أبداً، فهذه العمليات تغير ماهية المنتج وقد تعيد بناءه من جديد.
تتم هذه العمليات على شقين: الصورة والصوت، تبدأ بمونتاج الصورة للوصول إلى الصيغة النهائية للسرد الفيلمي ومن ثم يأتي مونتاج الصوت وضبط الفضاء الصوتي للأحداث والأمكنة.

يلي ذلك عمليات الغرافيك والمؤثرات البصرية إن وجدت، ومن ثم التلوين للصورة وإعطاء آخر عناصر الهوية البصرية للعمل.
وتبقى العملية الأخيرة وهي المكساج وربط كل عناصر العمل الصوتية ببعضها إضافة للموسيقى.
إن لهذه المرحلة مفعول السحر، فهي قادرة أن تدمّر أفضل مادة إن نُفذت بشكل رديء، وبالمقابل تستطيع أن تحل مشاكل وترفع من سوية مشاهد، لا بل قد تصل حد الإبهار بما تضيفه صورة أو صوتاً، لذا تكون بتكاليف عالية جداً حين تنفذ بشكل احترافي.
بعد إنهاء كل ما سبق توضع المادة الفيلمية على حاملها النهائي، إن كان شريط السينما كما في السابق، أو ال dcp كما اليوم.
قد تستغرق هذه العمليات سنة أو أكثر في الإنتاجات الضخمة، أما زمنها الوسطي فهو من ستة إلى تسعة أشهر.

Dcp: digital cinema package

وترجمته الحرفية «الطرد السينمائي الرقمي»، ولكن نستطيع أن نسميه «القرص السينمائي الرقمي» وهو عبارة عن قرص صلب
يوضع عليه الفيلم، صورة وصوتاً، بدقة عالية جداً ضمن صيغ خاصة ويصبح قابلاً للقراءة حصراً من أجهزة العرض الرقمية السينمائية الحديثة، والتي حلت منذ أكثر من عشر سنوات محل أشرطة الخام أو البكرات كما كانت تسمى شعبياً.

مقالات ذات صلة

- Advertisment -

الأكثر شهرة