طارق العبد
قلة هم أولئك القادرون على اختزال عالم مهني بحضورهم، ولا شك أن إسماعيل ياسين هو من هذه القلة، فما إن تُذكر الكوميديا حتى يحضر اسمه، منذ الأربعينات وحتى اليوم، ذلك أنه أسس حالة فنية خاصة به جعلت اسمه بمثابة علامة فارقة في عالم الفن، وشكل مع زملاء له أركاناً لعصر الكوميديا الذهبي.
في ذكرى ميلاده في أيلول نوجه تحية خاصة لـ “سمعة”.
من المونولوج إلى السينما فالمسرح
لعل إحدى مفارقات مسيرة “إسماعيل ياسين إسماعيل علي نخلة” (1912-1972) هي شغفه بالغناء بداية لا التمثيل،
حيث عمل على غناء أغنيات نجم جيله محمد عبد الوهاب، حالماً أن ينافسه،
قبل أن يقوده ذلك لرحلة من مدينته، السويس، للقاهرة بعمر السابعة عشر لدراسة الغناء والموسيقا قبل أن يكتشف أن المعهد مغلق بسبب الاجازة الصيفية،
لكنه وسط ذلك سيلتقي برجل يغير له قليلاً وجهته الفنية نحو المونولوج بداية من ملهى صانعة النجوم آنذاك بديعة مصابني، وصولاً للإذاعة المصرية. وهذا الرجل هو شريك نجاحاته في فترة لاحقة: أبو السعود الإبياري (1910-1969). على أن شغفه بالغناء ولاحقاً بالمونولوج سيرافقه حتى في مشواره السينمائي، لدرجة اقتباس أغنيات شهيرة وتحويلها لمونولوج، كما فعل في “أيظن” لنجاة الصغيرة، حين أداها في مشهد تنفيذ حكم الإعدام في فيلم “إسماعيل ياسين في السجن”، بل لعله قد ذهب لأبعد من ذلك فلا يكاد فيلم له يخلو من مشهد غنائي كمحاولة للتعلق بحلم المراهقة الذي لم يتحقق.
وتعتبر فترة نهاية الثلاثينات هي بداية مشواره في السينما دون أن ينقطع عن فن المونولوج، حين اختاره المؤلف والمخرج فؤاد الجزايرلي للمشاركة في فيلم “خلف الحبايب” سنة 1939 إلى جانب فوزي الجزايرلي، أنور وجدي، إحسان الجزايرلي، وتحية كاريوكا، ليواصل رحلته في الأدوار الثانوية حتى منتصف الأربعينات، حين لفت انتباه أنور وجدي فاستعان به ضمن أفلامه قبل أن يتخذ قرار إنتاج أول فيلم له، “الناصح”، بمشاركة الممثلة الصاعدة، آنذاك، ماجدة صباحي، وعندها سيؤسس إسماعيل ياسين علامته الخاصة في الفن السابع، فعلى الرغم من غياب الوسامة عن شكله مقارنة بنجوم تلك المرحلة، إلا أن الفارق هذا هو ما تمكن “سمعة” من اللعب على وتره بابتكار شخصيات تعتمد الكوميديا بالكلمة والموقف وردات الفعل، فلا يمكن تجاهل الصوت الضعيف الخائف الذي ينتظر من ينقذه، مثلاً، أو المبالغة بالسخرية من حماته في “حماتي قنبلة ذرية”.. مستعيناً في كل هذا، بما يكتبه شريكه الإبياري ليحقق بذلك نجاحاً استثنائياً يقوده ليكون ثاني نجم في السينما العربية يضع اسمه في عنوان الفيلم بعد ليلى مراد، فكانت أعماله التي حملت عناوين “إسماعيل ياسين في متحف الشمع، إسماعيل ياسين في السجن.. في الجيش.. في البوليس الحربي.. في البوليس.. في دمشق.. إسماعيل ياسين للبيع..)، وقد انضم المخرج فطين عبد الوهاب ليشارك “سمعة” ويوقع له جزءاً هاماً من أعماله، أبرزها: “الآنسة حنفي”، “ابن حميدو”..
ولعل تميمة الحظ التي رافقت اسمه أصبحت إشارة للنجاح، حتى لو لم يكن البطل الأول، كما في فيلم “مغامرات إسماعيل ياسين” لكمال الشناوي وشادية سنة 1954. والسنة هذه ستكون سنة القمة في مشوار “أبو ياسين” لدرجة مشاركته في ثمانية عشر فيلماً دفعة واحدة بنفس العام، لتبدأ مرحلة لافتة في السينما المصرية، تؤسس للكوميديا بمشاركته مع رفاق دربه (عبد الفتاح القصري, عبد السلام النابلسي, ماري منيب, حسن فايق، زينات صدقي، رياض القصبجي)، حتى تردد أنه لم يكن يرفض أي عمل يقدم له، ويتنقل يومياً بين استديوهات الأفلام وخشبة المسرح التي أسس لها فرقته المسرحية والتي نافست عملاق الكوميديا في وقتها نجيب الريحاني، بل ويستعين بأبطال فرقة منافسه الخاصة في الخمسينيات حيث قدم ما يقارب خمسين عملاً مسرحياً، بالتزامن مع نشاطه السينمائي. هكذا سيتحول إسماعيل ياسين إلى أحد أبرز نجوم الخمسينيات وليستعين به كبار النجوم في أعمالهم لضمان نجاحها، فاجتمع بمحمد فوزي وفريد الأطرش وشادية وبالتزامن مع استقرار عاطفي مماثل شكله زواجه من فتاة أحلامه (فوزية)، حيث أنجب ابنه الوحيد والذي اسماه ياسين تيمناً بوالده.
ولكن فترة الستينات لن تكون مثل المرحلة السابقة، ساهم في ذلك انطلاق التلفزيون سنة 1960 ومن ثم تراجع الاهتمام
بالمسرح الخاص، وإنشاء مسرح التلفزيون يومها بالتزامن مع العوارض الصحية التي ألمت به، فتراجع انتاجه السينمائي لأعمال تعد على أصابع اليد الواحدة وصولاً لسنة 1964، حيث لم يقدم أي عمل نهائياً، قبل أن يحل فرقته المسرحية أيضاً إثر تراكم الضرائب عليها، وابتعاد المنتجين، فيتوجه للكويت ثم لبنان مشاركاً بأعمال محدودة، وليصدم برحيل شركائه أبو السعود الإبياري وفطين عبد الوهاب وعبد الفتاح القصري، فيعود لمرحلة المونولوج (حيث بدأ مشواره الفني) ويعمل على إضحاك الناس، رغماً عن إصابته بمرض النقرس الذي منعه من الحركة كثيراً حتى رحيله سنة 1972.
هكذا سطع وهكذا أفل
لعل المتتبع لما قدمه إسماعيل ياسين سيجد شخصيات مقدمة بأساليب أداء متشابهة فيما بينها، مع إضافات ترتبط بالمادة الفنية المقدمة، غير أنها شخصيات ترتبط بمدارس الكوميديا القديمة حيث الاعتماد على أداء مؤطر لشخصيات بعينها، أو لديها صورتها المرسومة مسبقاً في ذاكرة الجمهور لكن بطابع بلدي شعبي، وليتكئ عليها بطل “الستات ميعرفوش يكدبوا” وينسحب ذلك تدريجياً على أبطال تلك المرحلة في السينما. فاعتمد عبد الفتاح القصري على شكله وإفيهات مرتبطة بشخصياته في الأفلام، ومثله كانت ماري منيب أشهر من جسد شخصية الحماة في السينما، أو لجهة شخصية العانس التي قدمتها زينات صدقي. والمفارقة أنهم جميعاً التقوا في أعمال مشتركة عديدة شكلت علامة فارقة في السينما العربية. غير أن التكرار في نمطية الشخصيات، كان أحد العوامل التي سحبت البساط من تحته، لتتراجع حصيلة الإنتاج مسرحياً وسينمائياً مع ابتعاد الجمهور, سيما أنه اعتمد على مؤلف واحد في غالب أعماله وهو شريكه الإبياري، فباتت الإفيهات والمشاهد والأداء تتكرر بطريقة قادت للملل, يضاف لذلك ظهور منافسين جدد في الستينات بداية من التلفزيون ونجوم مثل “ثلاثي أضواء المسرح” وفؤاد المهندس وصولاً الى ثنائية عادل إمام وسعيد صالح في فرقة الفنانين المتحدين. لتتجه خيارات المنتجين بعيداً عن “سمعة” وأبناء جيله، وتتراجع ايراداتهم في السينما والمسرح، وتتراجع حتى قيمة أعمالهم، وصولاً للسبعينات التي شهدت انطلاقة الجيل الجديد وأفول عهد إسماعيل ياسين.
رغم كل هذه العوامل بقي إسماعيل ياسين علامة لا تتكرر في دنيا الكوميديا، واسماً قادراً على صناعة الضحك بمفردات وتعابير بسيطة لا تتعالى على الشارع، بقدر ماهي تتماهى معه فيظهر بشخصيات قريبة ومحببة, تشكل مع أبناء جيله في الأربعينات والخمسينات مرحلة ذهبية في السينما العربية.