طارق العبد
بعد مسلسلي “على صفيح ساخن” و”مع وقف التنفيذ”،
ترتفع الرهانات حيال ما تقدمه ثنائية الكاتبين يامن الحجلي وعلي وجيه،مع المخرج سيف الدين سبيعي،
ليتبين أن التوقعات كانت في مكانها فعلاً بعمل تم شغله بعناية وبتفاصيل دقيقة لم تدفع للملل أو الإطالة الزائدة. فكان لدينا ثلاثون حلقة على سوية متقاربة تستحق المتابعة.
ستلعب الأقدار لعبتها مع مال القبان حين يخرج من المنافسة في العام الماضي،
ليعود في هذا الموسم ويفتح الباب على عوالم سوق الخضار وحجم الصراعات التي تدور بين جدرانه.
فتنعكس على عوالم كل شخصية، من كبار المتنفذين إلى التجار والعاملين هناك، وحتى اللصوص.
قد تكون الحكاية مطروقة في وقت سابق بالنسبة للدراما العربية،
ولكن ما الضير في تقديمها مجددًا بمعالجة جديدة تبحث في الماضي الذي أصبح حاضرًا،
كما تقول مقدمة الحلقة الأخيرة؟ ستبدأ الحكاية إذًا من عدوية الفتاة الهاربة من بطش زوجها لدمشق،
فتستقر في سوق الخضار وتنجب طفلها نعمان وسط دكاكين السوق وصناديق الفاكهة والخضار.
فيشب الفتى ويكبر وهو يحب المال حبًا جمًا يدفعه للتلون حسب كل الظروف والتحولات،
لأجل أمر وحيد هو كسب المزيد من الصفقات. لن يتورع لأجل ذلك عن تخريب بضائع تجار آخرين،
أو احتكار سلع معينة، أو حتى مصاهرة مهربي المعابر الحدودية،
بهدف تعزيز اسمه بصفته كبير تجار سوق الجبر. لن ينافسه سوى وارث هذا المكان،
أباً عن جد وممسك كار التجارة في هذا المكان، أبو عمار الجبر.
الأخير لن يتردد في قلب حياة نعمان رأسًا على عقب،
ومنذ كان فتى صغيرًا فيتحرش بأمه ويزرع الوسواس في داخله دون أن تنفع محاولات عدوية لإقناع ولدها بطهارتها، فيجافيها ويتنكر لها أمام الجميع قبل أن يكتشف الحقيقة بعد رحيلها. فهل سيكتفي مالك سوق الجبر بذلك؟ لن يتردد بإبلاغ السلطات عن نجله المتظاهر بداية الاحتجاجات،
فيتم توقيفه ومعه طبيبة تخدير وزوجة قاضٍ. ستفتح بدورها خطًا دراميًا جديدًا بعد خروجها من السجن،
لتكشف أن زوجها ارتبط بصديقتها بهدف رعاية ابنتهما المصابة بطيف التوحد،
وتكتشف أن مستقبلها المهني قد انتهى، اثر منعها من مزاولة المهنة وحتى مغادرة البلاد.
يسجل هنا للكاتبين نقاط إيجابية عديدة. فغالبية الشخصيات تم صياغتها بعناية فائقة لتبدو ماثلة بيننا، لا خير مطلقًا ولا شر مطلق. الجميع هنا ضمن دوامة الأيام، يتلون كل منهم حسب مصلحته وتبعًا للظرف المحيط.
فمن يسعى لرفع سعر البطاطا أو البصل في السوق لن يتردد في تنظيف المساجد للتكفير عن ذنبه وذرف الدموع في الحضرة الصوفية. بل سيضع يده بيد عدوه اللدود حين تتهدد مصالحهما بإضراب العتالة.
ومن يدمر تجارة لشاب بسيط، سيعود ويقف لجانب رفاقه حين يطلبون منه العون.
كذلك، القاضي المتمسك بالقانون سيضطر للتخلي عن ضميره لأن حياة طفلته في خطر، والخطر ذاته يرغم فتاة الليل على مواجهة المهنة الشائنة لتكسب لقمة العيش ولو دفعت ثمنًا بخسارة سمعتها.
في المقابل، قطع المخرج خطوات إضافية للأمام بتنفيذ العمل،
بداية من مشاهد فلاش باك من الماضي المرتبط بكل شخصية، تفسر لمرحلة بعيدة،
عوالمها في الحاضر، مرورًا بأدق تفاصيل السوق الذي تم تشييده (صممه مهندس الديكور حسان أبو عياش) وإدارة المشاهد بالنسبة للشخصيات.
التي رغم كثرتها، إلا أن معظمها كان متقنًا. على أن هذه الإشادة لا تمنع من ذكر نقاط سلبية أضعفت إيقاع العمل في البداية، كمشهد الشجار وسط السوق في الحلقات الأولى،
والذي امتد طويلًا مترافقًا بحركة بطيئة وموسيقى كلاسيكية،
أو كمشاهد العنف والضرب لتحصيل الديون، والتي تكررت في البدايات خاصة على يد خير الذي يظن أنه ابن نعمان قبل أن يكتشف أنه ابن صفقة ابرمها زوج أمه في الثمانينات. وهي نقاط تراجعت لاحقًا بفضل مشاهد أخرى أعادت البريق وتماسك الحكاية حتى الحلقة الأخيرة، دون الحاجة للإطالة في الأحداث أو الصراعات لتبدو كلزوم مالا يلزم.
إيجابية أخرى تسجل لسيف الدين سبيعي وهي الاستعانة باثنين من الكبار.
يتقدمان الساحة الدرامية، الأول هو موفق الأحمد، الذي يتحول من كبار التجار لمفلس بائس دمره لعب القمار دون أن يفرط بنجله وأحفاده.
والثانية هي الفنانة اللبنانية ختام اللحام لتجسد دور والدة نعمان (لعبت رسل حسين الدور في المراحل الأولى) لكن اللحام لن تنطق بكلمة واحدة باللكنة اللبنانية بل ستتقن اللهجة السورية بحرفية عالية وأبعد من ذلك بالمشاهد التي تجمعها بنعمان الذي يؤديه بسام كوسا ليتصاعد الأداء حتى الذروة بين معلمين في التمثيل يقدم كل منهما دوره باقتدار عال، وبسام كوسا هنا أيضًا في ملعبه الخاص يجسد شخصية تتلون من الجبروت والجشع للانكسار والندم. يشمل ذلك مشاهده مع منافسه بالسوق نجاح سفكوني والذي بدوره يستعيد ألقاً كبيرًا ككبير تجار السوق والمتلاعب بمصير نعمان حتى عزاء والدته لتبدو مشاهد البطلين كمبارزة أداء تحبس الأنفاس.
لن تغيب عن هذه المنافسة بطلة العمل وصاحبة الخط الموازي سلاف فواخرجي رغم تأخر ظهورها حتى نهاية الحلقة الخامسة لكنها تحبس الأنفاس بمشاهدها الصامتة وتعابير وجه مؤثرة حتى ضمن اللقطات التي تتطلب انفعالًا زائدًا. كان كل شيء في مقداره وهو ما ينسحب على أبطال العمل الشباب الذين ظهر كل منهم بموقعه بداية من ملهم بشر الذي يتقدم خطوات للأمام بشخصية جاويش الشاب المدمن عل القمار حتى يخسر ما يملك ويصل لمرحلة ترك أطفاله أمام دار للرعاية بمشهد لم يتحدث به طويلاً لكنه وصل للذروة.
الإيجابية أيضًا تتكرر مع حلا رجب، بشخصية ابنة نعمان المصابة بالاكتئاب والمهملة من أبيها وإخوتها والمكسورة حتى من زوجها. فتتلون بين الضحك الهستيري والانفجار بالحزن والغضب بإتقان بالغ.
كما تسجل لصفاء رقماني وروبين عيسى الحضور الجميل، لكن التفرد يمتاز به الشابين فادي الشامي وسليمان رزق. فالأخير ظهر في العمل بشخصية أبو الرموش، اللص المتشرد المقيم في السوق والباحث عن أبيه،
لو كلفه ذلك قتل ابن كبير التجار عمار الجبر.
ليعتني رزق بكل التفاصيل، من الشعر المهمل للأسنان المتسخة وحمل السكين والتورط في المعارك الجانبية، وكأنه ابن السوق منذ خرج للدنيا. أما فادي الشامي فيخرج من عباءة البيئة الشامية لدور الشاب الفاشل في كل مهامه، حتى بإنهاء حياته ليستعين بأبو الرموش لقتله مقابل كشف حقيقة والده. بينما ختم الراحل محمد قنوع مشواره بشخصية مختلفة عما قدمه سابقًا، ويغدو في أفضل حالاته.