جوى للانتاج الفني
الرئيسيةفي الصالاتظاهرة التحرش في هوليوود.. حتى لا يبقى الصمت هو الحل

ظاهرة التحرش في هوليوود.. حتى لا يبقى الصمت هو الحل

السينما الهوليودية تطرقت لقضايا التحرش الجنسي منذ بدايتها وحتى الآن،
ولكن سنختار اليوم الحديث عن فيلمين تصدرا الريتينغ لعام 2022 لما كان لهما من أثر كبير على الرأي العام ليس داخل أميركا فحسب بل على الصعيد العالمي.
وهما فيلم «هي قالت» إخراج ماريا شرادر،  سيناريو ربيكا لينكيويتز، وفيلم «حديث النساء» سيناريو وإخراج سارة بولي.

الفيلمان تحدثا عن قضية التحرش الجنسي الذي تعاني منه النساء في المجتمع،
ولكن مع اختلافهما في طريقة طرح القضية والشكل الفني والدرامي بشكل كامل من إخراج وتصوير وسيناريو وإضاءة.

سارة-بولي
سارة-بولي

 الفيلم الأول تكلم عن التحرش الجنسي الوظيفي من الرجال الأعلى مكانة وظيفية في العمل تجاه النساء الأقل منصباً وظيفياً، الفيلم سيرة ذاتية لقصة حقيقية لصحفيتين في مجلة النيويورك تايمز، ميجان توهي وجودي كانتور،
ترصد إجراءهما تحقيقاً صحفياً استقصائياً عن تحرش منتج سينمائي مشهور، هارفي واينستين، في شركة ميراماكس للإنتاج، بمساعداته وبممثلات صاعدات على مدى مسيرته المهنية.

  أحداث الفيلم تدور في عام 2017 في أميركا ورغم ذلك تعاني الصحفيتان من عدم رغبة النساء الضحايا في ذكر أسمائهن في التحقيق الصحفي،
وكأن فكرة الخزي من فعل التحرش، رغم كونهن ضحايا ورغم التطور الثقافي والحضاري الكبير،
بقيت موجودة مجتمعياً.
وهنا تكمن أهمية هذا الفيلم، فهو فيلم مكون من تقنيات واقعية من إخراج وإضاءة وتصوير،
لا يحوي أي إبهار بصري ليكون ملائماً لسيناريو بسيط واقعي بشكل ملائم للصحافة الاستقصائية،
حبكته الأساسية هو كيفية إقناع الضحايا بذكر أسمائهن في التحقيق الصحفي ليحقق مصداقيته.

هي-قالت
هي-قالت

تكمن قوة الفيلم في تناوله قصة واقعية لأكبر فضيحة تحرش جنسي وظيفي في القرن العشرين حدثت على مدى عقود في أهم شركة إنتاج سينمائي، والضحايا هن نساء يملكن شخصية قوية ويستطعن ببساطة التكلم إلى الصحافة والإعلام كونهن ممثلات ورغم ذلك كان هناك عقود من الصمت، صمت في مكان لا يعقل الصمت فيه، هذه المفارقة جعلت للفضيحة ضجة كبيرة إعلامياً، فإذا كانت هؤلاء النساء القويات صامتات لعقود زمنية فما حال باقي المجتمع وباقي الشركات؟! ماذا يحدث فيها؟!. من هنا أطلقت الفضيحة حملة كبيرة واسعة امتدت إلى العالم كله لتكسر صمت النساء اللواتي تعرضن للتحرش، ولينطلق صوتهن المكمم بأعلى ما يكون لتقول كل منهن «أنا أيضاً تعرضت للتحرش»، والحملة اسمها «أنا أيضا» لتكون مكمن القوة الثاني في الفيلم.

الناس تريد أن تعرف ما هو الذي فجر هذه الحملة، القصة من ورائها، الدافع، لنكتشف بأن النساء مهما كن قويات إلا أنهن يخفن من نظرة المجتمع لهن، يخفن من تكذيبهن والتشكيك بمصداقيتهن، يخفن من تأثير حادثة التحرش على مسيرتهن المهنية في مكان آخر، لذا لجأن إلى طي هذه الصفحة بصمت لأنهن غير قادرات على مواجهة مجتمع بقي ذكورياً رغم كل تطوره في أكبر دولة في العالم سياسياً واقتصادياً شعارها الحرية، مجتمع ينظر إلى الضحايا على أنهن محرضات للجريمة، أو يسخف ألمهن، مجتمع مدعوم بقوانين ردع تحرش جنسي ضعيفة جداً وتكاد تكون معدومة إذا كان عمل المرأة بخس الأجر. ليكون حل قضايا التحرش الجنسي لنساء قررن كسر صمتهن، خارج المحاكم متضمناً تعويضاً مادياً مرفقاً بوثيقة التزام الصمت من قبل الضحية، عملية شراء صمت كاملة تتيح للمتحرش مواصلة تحرشه دون حساب.

صمت يفرضه مجتمع ذكوري مدعوم بقوانين تدعم المتحرش لا المتحرَش بهن، ليكمل المُتحرِش الجنسي تحرشه دون حساب، الفكرة الأساسية في فيلم «هي قالت» هي نفسها الفكرة الأساسية في فيلم «حديث النساء». الفكرة نفسها ولكن القالب مختلف تماماً على جميع الأصعدة. الفكرة نفسها ولكن لشريحة نساء مختلفة تماماً وأحداث ومجتمع معاكس تماماً لفيلمنا الأول.

ماريا-شرادر
ماريا-شرادر

 قدمت مخرجة العمل – وهي نفسها كاتبة السيناريو المقتبس عن رواية تحمل نفس اسم الفيلم للكاتبة الكندية ميريام تويوز- تحفة فنية على جميع الأصعدة، بدءاً بسيناريو لغة الحوار فيه عالية جداً يكاد يكون لكل كلمة قيمة فنية أدبية عالية مماثلة للشعر رغم بساطة الكلمات، حوار كتبته المخرجة بكاميرتها وإضاءتها وبلحظات صمت الممثلات والممثلين ليكون ليس أقوى من الحوار المقال ولكنه يماثله بالقوة.

أركز على السيناريو والحوار لأن مكمن القوة الأساسي في الفيلم هو الحوار، فبينما اسم الفيلم «حديث النساء» لنعتقد بأن الفيلم مبني على كلام قد يكون لا معنى له أشبه بنميمة – وهي فكرة مجتمعية ذكورية مؤطرة لحديث النساء عادة وهذا ما أردات المخرجة أن نعتقده- إلا أن حديث النساء في الفيلم هو أشبه بحديث الفلاسفة رغم أنهن نساء بسيطات أميات، ولكن قوة حديثهن تأتي من مسيرة ظلمهن وقهرهن ومعاناتهن من سحق المجتمع لهن.

 نساء ضمن مستعمرة متخيلة في أميركا عام 2010، اختارت أن تنأى بنفسها عن كل التطورات التاريخية والحضارية لتعيش بعقلية القرون الوسطى خارج زمن الأحداث، مستعمرة تجسد أفكار المجتمع الذكوري البحت الواضح وليس المخبأ كما في فيلمنا السابق، مجتمع المرأة فيه تابع للرجل وشخصيتها مسحوقة ومهمشة بشكل كامل، امرأة تعمل داخل المنزل وخارجه وتلبي أهواء الرجال ولا يحق لها الإفصاح عن رأيها أو تعلم القراءة والكتابة.

نساء تتحدث
نساء تتحدث

قصة تعرض هؤلاء النساء للتحرش الجنسي هي بحد ذاتها قصة خيالية، فبينما النساء نائمات، طفلات كن أم سيدات متزوجات، يأتي رجال ويخدرونهن بمادة تستخدم للأبقار لتهدئها ثم يقوم الرجال باغتصابهن وهن نائمات.

ينكشف أحد الرجال المغتصبين ويعترف على باقي الرجال، تأتي الشرطة وتأخذهم إلى مركز الشرطة، ولكن يقرر باقي الرجال الذهاب ودفع كفالة لهؤلاء الرجال ويُطلب من النساء الغفران لهم أو عليهن الخروج من المستعمرة، كما في فيلم «هي قالت» تم شراء صمت النساء واستمر المُتحرِش باعتداءاته، هنا أيضاً فُرض على النساء الصمت وعندها سيستمر المُتحرِش باعتداءاته، أو عليهن الرحيل.

 يبدأ حديث النساء لتقررن قراراً مصيرياً، أول مرة يُطلب قرار من النساء يكون قراراً مصيرياً صعباً في خياراته الثلاثة، الغفران وكأن شيئاً لم يكن مع استمرار الاغتصابات، مواجهة الرجال وقتالهم، الرحيل عن المستعمرة.

هذه هي الحبكة الأساسية في الفيلم، فيلم يكاد يكون خال من الأحداث، فحدث الكشف يكون في الدقائق الخمسة الأولى، وحدثه الأساسي الرحيل يكون في الدقائق الخمسة الأخيرة.

كل الفيلم مبني على نقاش النساء للخيارات المطروحة، ورغم ذلك الفيلم يشد المشاهد ويبهره بحواره و إخراجه، الإخراج والحوار اللذان أعلنا عن نفسهما منذ اللحظة الأولى بلقطة تكاد تكون أشبه بلوحة فنية عالية المستوى، لقطة للكاميرا من أعلى غرفة البطلة التي تلبس قميص نوم مرفوع لنرى دماً وتراباً على فخذها، قميص نومها من نفس قماشة ملاءة السرير، فالمخرجة توحد النظرة بين السرير والفتاة، وكأنها تقول: في هذا المكان المرأة هي فقط  للجنس. ثم تأتي مجموعة من المشاهد لتعرفنا على المكان (المستعمرة) وآلية التفكير ضمنها، على لسان الراوية التي تتكلم عن حدث الاغتصاب ونظرة مجتمعهم الذكوري وتبريره لهذا العمل. اعتمدت المخرجة لونية معتمة وغامقة ورتيبة تتراوح بين البني والرمادي الأخضر الغامق لكل مشاهد الفيلم، بدءاً بلونية الكاميرا والإضاءة والديكورات في الحظيرة والبيوت وحتى الحقول مروراً بملابس الممثلين، لتوحي بالبؤس والظلم والرتابة والخوف.

كما أتحفتنا المخرجة بسلسلة من المتناقضات، نساء أميات لا يعرفن الحرية يختبرن الحرية بقرار مصيري، ومكان ممارسة الحرية والتصويت في حظيرة حيوانات، وكأنه المكان الوحيد المريح للنساء، المكان الوحيد الذي يكون فيه للمرأة كلمة مسموعة، حريتها في الحظيرة، تعامل معها ذلك المجتمع الذكوري على أنها جزء من الحظيرة على مدى عقود فتصالحت مع هذا التعامل وخضعت له فكان انعتاقها بخطوته الأولى انعتاقاً من الحظيرة، حتى بعد أن تساوت الأصوات وكان لابد لهن من اختيار ثلاث عائلات تمثل النساء جميعاً وتأخذ القرار باسمهن كان نقاشهن في الحظيرة، نقاش يتضمن تحليل الخيارات الثلاث وما يترتب عليها من إيجابيات وسلبيات. من خلال الحديث ستعرض الكاتبة والمخرجة اختلاف شخصيات النساء المغتصبات الضحايا المقموعات المهمشات، فمنهن الغاضبة الناقمة التي تريد الثأر والانتقام رغم إدراكها عدم قدرتها على المواجهة والقتال، ومنهن المستكينة للقدر المستسلمة، وأخرى تريد الهرب ونسيان كل شيء والبدء بحياة جديدة. (هؤلاء النساء وجدناهن في فيلم «هي قالت» النساء اللواتي كنّ ضحايا تحرش هارفي وينستن).

ومن خلال هؤلاء النساء ونقاشهن عن البقاء أو الرحيل تستعرض المخرجة أفكارا حياتية فلسفية، يوثقها أستاذ المدرسة «أوغست» المتواجد معهن ليكتب محضر جلستهن، شاب جامعي خرج مع أمه التي رفضت هذا المجتمع وبعد انتهاء دراسته عاد إلى المستعمرة، غير واضح سبب عودته هل هو لتدريس أطفال المستعمرة الذكور!، أو بسبب حبه لإحدى فتيات المستعمرة التي أصبحت حاملاً بعد اغتصابها وترفض الهروب معه رغم حبها له!. فقدره يحتم عليه تدريس ما تبقي من أطفال ذكور بعد مغادرة النساء المستعمرة، كي يغير طريقة تفكيرهم لأنهم مفتاح التغير في المستعمرة، أوغست يرمز للفكر التنويري القادم لإنارة مجتمع الظلمات ولإحداث الثورة والتغير المجتمعي نحو الحرية والنهضة الفكرية والمساواة المجتمعية عبر الجيل الجديد.

قرار الرحيل يأتي كضرورة مجتمعية للتغير السلمي، فالبقاء والقتال يعني حربا خاسرة لأنهن أضعف من الرجال، والغفران يعني استمرار الاعتداءات الجنسية، ولكن الرحيل وبناء مجتمع جديد قائم على الحرية والعدالة والمساواة والمحبة والعلم هو الحل الوحيد، ويأتي القرار ببساطة على لسان طفلة حاملة لفكر التغيير من الجيل الجديد: «سنغادر لأننا لا نستطيع البقاء».

تغادر النساء حاملات معهن التغيير الخارجي لمجتمع المستعمرة، ويبقى «أوغست» معلم الأطفال حاملاً التغيير الداخلي له.

تلتقي فكرة مغادرة النساء عند تعرضهن للتحرش الجنسي مع فيلم «هي قالت»، فجميع النساء اللواتي تعرضن للتحرش في شركة ميراماكس رحلن عن الشركة، وحاولن طي هذه الصفحة من حياتهن وبناء حياة جديدة تماماً، سواء كانت ردة فعلهن بعد الحادثة المواجهة أو القتال أو المغادرة، كلهن فضلن الابتعاد وطي الصفحة بصمت، إلى أن نجحت الصحفيتان بكسر صمت بعضهن وكتابة المقال، الذي – كما قلنا – أطلق حملة عالمية بكسر صمت عدد كبير من النساء حول العالم تعرضن للتحرش الجنسي الوظيفي، لتكون خطوة كبيرة جديدة نحو تغيير فكر ونظرة مجتمعية لقضايا التحرش الجنسي.

وفي الخاتمة الفيلمان قدما قضية التحرش الجنسي دون عرض أي مشهد يحوي حادثة تحرش، لأن الفيلمين أرادا التركيز على الحالة المجتمعية التي غضت النظر عن التحرش وجعلت المُتحرِش يستمر بفعلته مراراً وتكراراً ومدى تأثير ذلك على النساء الضحايا، فكان تركيز الغضب ليس على المُتحرِش بل على المجتمع الذي سمح له بتكرار فعلته دون معاقبته وردعه، بهدف الوصول إلى ثورة فكرية مجتمعية تغير القوانين السائدة للحد من التحرش الجنسي وفي الوقت نفسه إنصاف النساء الضحايا.

مقالات ذات صلة

- Advertisment -

الأكثر شهرة