جوى للانتاج الفني
الرئيسيةقضيةصالات العرض السينمائي الدمشقية.. بين ماضٍ من الزمان وآتِ

صالات العرض السينمائي الدمشقية.. بين ماضٍ من الزمان وآتِ

تمام بركات

عام 1912، تعرف الجمهور الدمشقي على السينما للمرة الأولى،
عندما شاهد عرضا للصور المتحركة في ساحة الحجاز.
عام 2023، شاهد ويشاهد جمهور السينما في العاصمة صالات العرض السينمائي تحتضر الواحدة تلو الأخرى،
حتى لم يبق من معظم تلك الدور إلا أشباحها حرفيا،
وخيالات لأشخاص يروحون ويجيئون في عمق مظلم ما، وربما كانوا «وهما».

هذا الواقع الحالي لهذه الدور ليس من مآلات الحرب، فالهجر بدأ قبل ذلك.

العاطفة والسينما

لن يكون الحفاظ على المهنية سهلا بالنسبة لشخص مثلي، وهو يعمل على تحقيق صحفي عن دور العرض السينمائي في دمشق، دون الانحياز للعاطفة ولو في أكثر طبقاتها سطحية وهشاشة، فصالات العرض السينمائي في دمشق هي من ملاعب المراهقة الخلفية، ومجرد الذهاب إليها كان مغامرة لا تقاس متعتها بما يقابلها من عقاب، لأنها تستمر، وأثر «القشاط» يزول! ثم أصبحت مقصدي بشكل منتظم، منذ بداية المرحلة الثانوية وحتى اليوم، رغم بعد المسافة التي تفصلني عنها، وهذا العائق، إن صح الوصف، يبدو أنه من أول الأسباب الفعلية للتراجع، فالمسافة البالغة من أقرب نقطة خارج الحدود الإدارية لمحافظة دمشق، ولتكن «المعضمية»، حتى سينما «دمشق» «سينما سيتي حاليا»، الأقرب من مثيلاتها، هي 10 كم تقريبا، ما تسبب بخسارة تلك الصالات لزبائن كثر يجدون المسافة عائقا، ومنهم: الأطفال، الفتية، كبار السن، النساء بشكل عام.. وهذا من العيوب الفادحة التي أثرت سلبا على حركة تلك الدور التجارية، كما تسببت في حرمانها من تطورها الطبيعي، والذي كان يمكن أن يصل للإنتاج السينمائي، كما العديد من دور السينما العربية والعالمية!

سوء توزيع جغرافي وانحسار نظر

تقع معظم صالات العرض السينمائية في قلب العاصمة، وفي محيط دائرة لا يتجاوز قطرها الـ كم الواحد، ويمكن اعتبار هذا من العيوب الفادحة التي لم يتم التعامل معها ومع توزيعها الجغرافي بشكل منطقي نسبة إلى التوزع السكاني، ففي حين نجد معظم صالات العرض السينمائي تقع على صف واحد، من ساحة الحجاز حتى ساحة السبع بحرات، لا نجد ولو شبهة صالة سينما في «المزة» مثلا! ما باعد بين هذا الفن وسكان تلك المنطقة وما يجاورها من ريف، (المسافة بين المعضمية والمزة، قرابة الـ 2كم)، وهذا الحرمان وغياب الصالة السينمائية كحالة فنية ثقافية اجتماعية كرس السمعة السيئة التي لحقت ببعض الدور الدمشقية، وجعلها من الأمكنة التي يحذر الأهل أبناءهم منها ومن الذهاب إليها، وهكذا انخفض عدد رواد دور المدينة، وهذا سبب تراجعا كبيرا في عملها وأصابها بسوء فهم مزمن لمفهوم الصالة السينمائية!

دور سينما وفنادق

التراجع المادي سبب تنافسا بين تلك الدور المتقاربة، وعدم قدرة بعضها على مجاراة هذه المنافسة جعلها تنحدر في مستوى ما تقدمه من أفلام، وتعتمد اعتمادا كليا على صيد الزبون، خصوصا في فترة الأعياد، وعلى الطلاب الهاربين من مدارسهم – وكنت واحدا منهم- صباحا، وهناك أيضا عدد من النساء يتناثرن فوق المقاعد المتباعدة، «فتيات الليل» اللواتي كن يقصدنها للنيل من فرائس سهلة أذاب ركبها مشهد يظهر فيه ثدي البطلة لثوان، مثلا! ثم صارت دور العرض هذه تعتمد كليا على الزبائن الذين صاروا يقصدونها للتنفيس عن مشاعرهم «المحتقنة»، ثم تحولت إلى ملاذ رخيص لرواد الليل وأولاد «أدو» بشكل رئيسي، أو منامة رخيصة لمجند لديه «24»ساعة وهو من محافظة بعيدة، فيبيت ليلته فيها بعد أن يشاهد أفلامها عدة مرات باليوم.

منامة للمقطوع

منير، 45 عاما، مدرس، الحسكة.

يحكي منير عن تلك المرحلة التي قضى فيها خدمته الإلزامية في دمشق، تسعينيات القرن الماضي، عندما تعرف على السينما لأول مرة، وكاد الانبهار بها يدخله السجن عقوبة على التأخير عن الالتحاق بالقطعة بعد أن قضى أكثر من 9 ساعات فيها دون أن يشعر بالوقت يمر، ثم صارت مقصده الأسبوعي، وفي واحدة من الإجازات التي اعتاد أن يقضيها مع عائلته رجع الرجل في اليوم الثاني من إجازته التي تمتد لأسبوع، وسبب عودته أنه لم يجد قومه، فهم «بدو» رُحل رحلوا طلبا للكلأ والماء ولن يعودوا إلى مكانهم الذي يعرفه منير قبل 3 أشهر.

غفى منير في واحدة من زياراته الليلية للسينما وعندما استيقظ صباحا وجد العديد من الأشخاص ينامون مثله فوق الكراسي، ومنهم من افترش المسرح أسفل شاشة العرض، ثم صار كلما تأخر ليلا، حتى لو لم يكن في السينما، يعود ليقطع تذكرة بـ «5» ليرات «دخولية» وينام حتى الصباح!

في استعراض عاطفي أيضا لتلك الصالات الساحرة يمكن، وخلال جولة على الأقدام، أن نمر على معظم تلك الصالات، والبداية أيضا من حيث تقود العاطفة.

«أوغاريت» سينما الأحلام

القادم من جهة ساحة الحجاز باتجاه جسر «فكتوريا»، سيجدها تحت اللافتة العريضة التي تحمل اسم «سينما أوغاريت»، تنفرج بوابة عريضة من البلور عن ردهة تحمل جدرانها بوسترات لأفلام عالمية، ولا بد من بوستر عريض تتركز عليه إضاءة خاصة، ويحمل «مُنع من العرض» لامرأة شبه عارية، تدخن، أو في حالة غرامية مع البطل، مع بوسترات لعدة خيارات أخرى من الأفلام، كالهندية، أو العربية، هذه البوابة مغلقة منذ عام 2005 بحجة الصيانة، ولمّا تنتهي أزمنة صيانتها بعد!

«سينما سيتي»

سينما «دمشق» سابقا، وهي على مسافة أقل من 50 مترا عن «أوغاريت»، وتعرضت للإهمال والهجر، قبل أن ينقذها القطاع الخاص ويحولها إلى صالة سينمائية بشروط فنية عالية تتمتع بديكور عصري، وفيها مقهى حديث أيضا، ما جعل المؤسسة العامة للسينما تعتمدها أيضا في افتتاح وعرض بعض أفلامها!

لا تزال تعمل اليوم رغم الانخفاض الكبير لعدد زبائنها المعتادين، وفيها بين الفينة والأخرى يُعرض فيلم لأحد النجوم السوريين، في عرض إطلاق الفيلم.

مربع راميتا، السفراء، الزهراء، الكندي

على بعد أقل من 200 متر من سينما أوغاريت، تأتي سينما «راميتا»، وهي تجاور مقهى الهافانا الشهير في ضفة شارع «بور سعيد» وهو جوار وقاها، نوعا ما، من السمعة السيئة، وبقيت في العطل مقصدا للعائلة الدمشقية، وأكثر ارتيادا من غيرها، إن كانت سينما «السفراء»، أو سينما «الزهراء». السفراء التي تحولت إلى مسرح أيضا، وتحمل اسم سينما ومسرح السفراء، ولولا وجود مقهى في الطابق الثاني منها لما شوهد عندها إلا الذين يدفعهم فضولهم لرؤية ماذا يوجد خلف كل تلك البوسترات التي تغطي الواجهة الزجاجية؟ ومعرفة هل هي نفسها أم تتغير؟

في الجهة المقابلة، وعلى القرب من مبنى البرلمان السوري، تقع واحدة من أشهر وأهم وأجمل دور العرض السينمائي في دمشق، سينما «الزهراء» التي تتسع لقرابة الـ 1500 كرسي، ومؤلفة من عدة طبقات، مع مقصورات مطلة على الشاشة، وشخصيا اعتقد أن وجود سينما «الشام» قربها هو السبب في تراجعها كصالة سينمائية مفضلة عند الناس.

اليوم سينما راميتا هي عبارة عن سوق صغير، فيه كاشير و»سكيروتي» والعديد من نظرات الاستغراب التي تحدق بشخص مثلي يحاول أن يلتقط صورة تظهر فيها اللافتة التي تحمل الاسم، سينما راميتا، مع تشكيلة من معروضات الخزف والهدايا التي تعرضها!

أما الزهراء، فلها حكاية محزنة، توقفت مع بداية الحرب ثم عادت للعمل وإن يكن بشكل خجول ومسرحي أكثر منه سينمائي، عام 2018، وبعد 3 أعوام، توقفت وعرضت للبيع!

سينما الفردوس
سينما الفردوس

«الكندي» ساقية جارية ولا نهر مقطوع

لسينما الكندي، الواقعة على بعد أمتار من مقهى الهافانا، موقعها المميز عند الجمهور السوري، أو «جمهور المثقفين» كما كان أهل السوق المحيط يصفونهم، فهي صالة العرض السينمائية الحكومية الوحيدة، وهذا لا يعني أنها مدللة، لكنها نجت وبقيت مستمرة حتى اليوم في ممارسة نشاطات سينمائية تدعمها المؤسسة العامة للسينما، وإن كان مفهوم العرض السينمائي لا يتحقق فيها، من جهة جمهور تلك النشاطات ونوعية وعمر الأفلام التي تقدم.

الميديا والضربة القاضية

تطرقنا للحديث عن الموقع وأثره لا يعني أن ما حصل لمختلف الفنون لم يحصل للسينما، وفق منطق التطور التقني، وكما هددت هي فن المسرح، جاء من يهددها. ظهر العالم الافتراضي وظهرت سينماه و»يوتيوبه»، والسينما صارت حاضرة بلمسة وفي أي وقت دون أن تنهض من مقعدك أمام التلفاز المطفأ عادة، أو على الوضعية الصامتة، وضعية «السايلنت»، فهناك مجموعة أفلام على شاشات جوالات العائلة الجالسة في الصالة تشاهد التلفاز، على وشك أن تبدأ ومنها ما بدأ بالفعل، وهذا برمزيته جاء بمثابة الضربة القاضية لصالات السينما السورية والعربية والعالمية عموما.

مقالات ذات صلة

- Advertisment -

الأكثر شهرة