عن الــدرامــا التي تــقــرن الــــشر بــالتــشــوه الجســدي
تعمد صناع المسلسلات السورية، في السنوات الأخيرة على وجه الخصوص،
تصدير التشوهات الخلقية كما لو أنها أحد أهم الحوامل الأساسية لنجاح المسلسلات الدرامية،
وأقصد التشويه المتعمد في شكل الشخصية المؤداة من الممثل، على حساب اشتغال الممثل على شخصيته،
فما هي الحكمة من هذا التشويه؟!
ولماذا كل هذا التلاعب بالشكل؟ هل يحق لنا العبث بالشخصيات إلى هذا الحد؟!
أضرب أمثلتنا بدايةً من الموسم الدرامي الحالي المرتبط بالعام 2023 فيما نشاهده معاً،
مثل: ثلاث شخصيات في مسلسل “مربى العز” جسدها الممثلون خالد القيش، أيمن عبد السلام، كرم الشعراني،
وكذلك مسلسل “زقاق الجن”: شخصية جسدها الممثل سعد مينه،
ومسلسل “العربجي” كذلك الأمر: شخصية جسدها الممثل محمد قنوع.
تتفق هذه الشخصيات على مظهر خارجي مشوه للشكل البشري المألوف،
والاتكاء على الشكل الخارجي كالأسنان الخربة، والبشرة المحترقة، والشعر الأشعث، والعيون المفقوءة، والأصوات المزعجة، والمشية غير المتوازنة،
وثياب تدل على امتلائها بالأوساخ والقذارة،
وإلى ما هنالك من اجتهادات لن تحمل إلا صورة مرعبة يتلقاها المشاهد، تاركةً لديه أثراً سلبياً في لا شعوره،
ودلالاتٍ غير إيجابية،
وبوجهٍ خاص لدى أبناء الجيل الجديد، المندهش بصناعة الدراما والصورة المؤثرة والرقميات والديجتال” وغيرها..
ما يزيد من الطين بلة أن هذه التشوهات الخارجية التصقت بشخصيات سلبية،
كما لو أن الشر هو قدر البشاعة، وفي هذه الثنائية استسهال، إن لم نقل عنصرية تجاه من هم أقل حسناً وجمالاً ودلالاً.
لا مبالغة في هذا التأويل، إذ تشير دراسات علم النفس الإعلامي إلى أن الصورة،
أو المقطع المصور – فيديو، يؤثران في عمق المتلقي، لدرجة أنه في حال أتقن صانع المحتوى ما يصنعه سيجعل من الجمهور أداةً طيعةً،
كما يفعل الساحر بالناس، بلفت نظرهم عبر ألاعيبه السحرية وإدهاشهم وكسب ما في جيوبهم،
لكن في الحقيقة الفكرة أخطر من ذلك،
حيث أخذت هذه الدراسات وقتها وعمقها في تسريب معلومات مسمومة تتقصدها،
من خلال رسائل خفية تضيفها في “فريم” واحد من مجموعة الفريمات التي تشكل اللقطة الواحدة، عبر ثانية زمنية،
فتمر بسرعة لا يمكن للعين العادية التقاطها إلا أن لاشعور المتلقي يكون قد ابتلعها،
كما تبتلع السمكة طعم الصنارة، معتقدةً أنه طعامها وصدفتها السعيدة،
في حين أن الصنارة ستبدأ بجرها لتلقى حتفها بعد حين.
تلعب المصانع الخفية للمدرسة الهوليودية هذه اللعبة،
وهي أول من طبقها في الإعلانات، انتقالاً إلى الأفلام التي غزت تدريجياً عقول البشر في كل أقطاب الأرض. وبالعودة إلى درامانا المحلية،
لا أعتقد أن تكون مثل هذه الدراسة قيد التطبيق إنما هناك انجرار وراء فكرة الاستعراض أكثر، وجذب المتلقي بكافة الطرق، وبالتالي السعي لبث حالة تشويه بعيدة كل البعد عن المنطق الجمالي والتعامل الراقي مع المتلقي والخوف عليه فكراً وشعوراً،
بل يمكن القول أن العمى هنا أصبح بوجهين،
الأول هو الانجرار نحو إثبات الأنا في السوق والمطمع المادي وكسب بعض القروش،
والثاني هو التأثير السلبي في الجيل الجديد الذي سيتقبل فكرة وجود مثل هذه الشخصيات المُعاقة والشريرة، والتعامل معها بقسوة بل وإهانتها لأنها تنضح بالشر!.
أعود سريعاً لمسلسلات الدراما السورية في مرحلة نهوضها،
فلا أجد مساحة واضحة فيها للشخصيات المشوهة كما اليوم،
بل كانت مساحة المثال الطيب والإيجابي تأخذ الصدارة فيها،
بل ما زالت تؤثر في الأجيال إلى يومنا الحالي،
فها هي ضحكة الراحل خالد تاجا تجلجل في زوايا قصر العدل في دمشق،
وهو شخصية محدودة المشاهد عميقة الحضور والمعنى،
وما زالت صرخة منى واصف في أسعد الوراق الأكثر صدقاً في التعبير عن قهر المرأة ورغبتها في التعبير والتغيير،
وتلك أمثلة من عدد لا ينتهي من الشخصيات، التي لو تم الاعتماد على تشويه شكلها لما عاشت ولا ولدت في ذاكرتنا المثال الذي نريده لنا ولأجيالنا المستقبلية..
وحتى إن وجدت فك تكن بشكلها المشوه تقدم الوجه الآخر لعملة الشر كما في دور الأحدب لأيمن زيدان في جواد الليل.
الإنسان كائن محب للتعاون، ولكنه أيضاً مفطور على التنافس مع الأقران،
وبذلك هو يخلق لنفسه حوافز للارتقاء المستمر. مدرّس القرية، طبيب الحي، ابن الجيران الموسيقي.. نماذج تقتدى، وبالتالي هي تحفز روح المنافسة عند الآخرين..
ولا شك أن صناع الدراما لا يجهلون هذه البدهية، فلماذا إذاً يصدرون نماذج مختلفة تماماً لتكون قدوة وتثير الرغبة في التقليد: البلطجي، المهرب، المدمن..؟!.
ليس المطلوب، بالطبع، أن تقتصر الدراما على الشخصيات الإيجابية الخيرة والناجحة،
وأن يُطرد كل الأشرار والضائعين خارج مسلسلاتنا..
وإلا سنكون بذلك قد حصلنا على دراما وعظية ساذجة، تنتمي إلى مدرسة فنية بالية عفى عليها الزمن.
المقصود هو طريقة ذكية في توزيع المساحات، وتحديد الصدارة، وإدارة الحبكة ليكون اتجاه المقولات واضحاً،
ما يلخصه سؤال: هل نريد تعزيز النماذج السلبية في أعين المتلقين،
أم نريد مساعدتهم لإدانة هذه النماذج؟.
وما لا يقل أهمية عن ذلك هو فك هذا الارتباط القسري بين الشر والتشوه الخَلقي،
والذي صار صيغة مبتذلة تثير السخرية، فضلاً عما تتسبب به من ضرر.
باختصار: تحتاج الدراما السورية إلى حلول إبداعية لتتلافى هذه الظاهرة التي صارت سائدة..
تحتاج إلى من يفكر بالجديد والمختلف، من أجل منع هذا التشويه،
وكبح من يسعى لتقديم الفكر العابث عبر هذه الشخصيات المصدرة باسم درامانا،
من دون نسيان التركيز على فكرة: إن الصورة مادة خطيرة يمكننا أن نصنع بها أشياء جسيمة، إيجابية وسلبية على حد سواء، والفيصل هو طريقة صناعتنا واستخدامنا لها.
ويبقى البحث عن أصحاب الفكر الواعي هو مهمة نبيلة بإمكان الدراما أن تقوم بها إنقاذاً لما يمكن إنقاذه