جوى للانتاج الفني
الرئيسيةعلى الخشبةسفر برلك (أيام الجوع) قراءة معاصرة لحقبة قاسية من تاريخ البلاد

سفر برلك (أيام الجوع) قراءة معاصرة لحقبة قاسية من تاريخ البلاد

د. ميسون علي

يُعيد المخرج عجاج سليم عرض “سفر برلك ـــ أيام الجوع” الذي سبق له أن قدمه في المسرح القومي عام 1994، للكاتب ممدوح عدوان (1941-2004)،
ولكن هذه المرة كمشرف ومخرج لعرض تخرّج الدفعة الأولى من قسم التمثيل في الجامعة العربية الدولية، والعرض حدث مميّز لأنه بوابة عبور لمجموعة من الممثلين من مرحلة الدراسة واكتساب المعرفة، إلى مرحلة الاحتراف وتراكم الخبرات.

حكاية النص محمولة على أحداث حقيقية تتعلّق بمرحلة قاسية من حياة بلاد الشام، حكم جمال باشا السفّاح، الذي جهّز حملة من أبناء البلاد لمحاربة الإنجليز في مصر 1914، وأطلق على هذه الحرب اسم سفر برلك، وهي مرحلة مهمة في التاريخ العربي المعاصر سياسياً واجتماعياً واقتصادياً انتهت بانهيار الإمبراطورية العثمانية ومجيء الاستعمار الأوربي.

سفر-برلك-ل-ممدوح-عدوان
سفر-برلك-ل-ممدوح-عدوان

كتابة التاريخ

يطرح النص إشكالية كتابة التاريخ، إذ اعتمد الكاتب ثلاثة مصادر تحكم بنية النص التاريخية من حيث هو سرد مختلف للتاريخ 
1- الروايات الرسمية عن الحرب (وثائق تركية وعربية عن المرحلة) وروايات الكتّاب الذين عايشوا المرحلة ذاتها.
2- الروايات الشعبية عن الحرب  ومنها “قصيدة الجوع” التي تقع في أكثر من مئتي مقطع، وكل مقطع خمسة أشطر.
3- الروايات الحديثة عن الحرب التي تعتمد على كل الروايات السابقة بشقيها.

في بناء النص أجرى الكاتب عملية انتقاء للمصادر السابقة، ليركّز على مقاربة خطين:
أحدهما يحتوي الآخر هما الحرب والجوع. واعتبر البعض أن النص يُقدم وجهة نظر مختلفة على المستوى التاريخي، يقول ممدوح عدوان: “المؤلف لا يؤرّخ بل يستخدم التاريخ ويطوّعه لوجهة نظره الفنية والفكرية.”
وعن موقع النص في أعماله “نتيجة سنوات من البحث، أحسّ أنني أكتب عمل العمر”. 

نلمس في النص محاولة لبناء أسلوب عربي مختلف عن البنية الملحمية،
عبر وجود إطار عام للحكاية (لوحات لا رابط بينها سوى خط الحكاية العام أي الخط التاريخي ووجود عدة رواة) ويبدو هذا الأسلوب هو الأفضل لتقديم تلك الأحداث،
فالعمل الفني يفرض شكله ولغته من خلال مضامينه ومناخه، دون الخضوع لمواصفات مُسبقة.

العرض

تتضافر في العرض أربعة مستويات: تاريخي ومعرفي وفولكلوري وفني، قراءة معاصرة للتاريخ تتضح من خلال رواة الحدث:
1- الراوي (أحمد حميدي) يروي الحدث من وجهة النظر الشعبية
2- الشيخ عبد الرحمن (غدير أحمد) الذي يروي الحدث من وجهة نظر دينية رسمية
3- الممثل الذي يأخذ عبر شخصيته ومشهده دور الراوي إما قولاً أو عبر وضع مشهده في سياق سرد الراوي الأول للأحداث.
ودخول الفولكلور كجزء من الوثيقة،
بمعنى تلمّس كيفية رؤية الناس في ذلك الحين لتلك الأحداث.
ينتصر العرض لحكاية الناس، حين يطلب أحد الممثلين من الراوي أن يحكي عن الناس وليس عن الحكومة،
مما يعزز الاستنتاج القائل بأن أية رواية معاصرة للتاريخ لا بد أن تمر بقراءة العلاقات الاجتماعية بين البشر في المرحلة التاريخية ذاتها.

أعتقد أن النص كان بحاجة إلى إعادة صياغة قبل تقديمه، والمُلاحظ أن المخرج تبنى الرؤية الفكرية لنص عدوان بشكل كامل، دون أي تغيير او تبديل. ونجده في خطته الإخراجية قد حاول أن يقدم تجسيداً فنياً يتناغم مع فكر النص ومع أحداثه وشخصياته وعوالمه، بل نجده لا يكاد يشذ عن الملاحظات الاخراجية للمؤلف إلا قليلاً، وإذا كانت الخطة الإخراجية قد حاولت أن تقدم حلولاً تنفيذية إلى حد بعيد، فإلى أي مدى نجح المخرج في تحقيق ذلك من خلال عناصر العرض المسرحي؟

 لا بد من الإشارة بدايةً إلى أن النص المكتوب عام 1994 قد كُتب للعرض،
وهو صياغة درامية غنائية لمعاناة الفلاحين،
تشمل المجاعة والعلاقة مع الأرض والدولة والدين والاقطاع،
وتحاول استقراء أسباب هذه المعاناة على حكمة الشعب وفولكلوره،
وتشكّله الاجتماعي والاقتصادي، حمل العرض كما النص عنواناً فرعياً هو (أيام الجوع)،
ليكون الجوع هو المحرّك الدرامي للأحداث،
وقد انطلق العرض من فكرة الجوع ليرسم صورة للصراعات التي كانت تدور آنذاك،
والقوى التي أوصلت البلاد إلى قعر الهاوية،
وولادة الوعي ولو من قلب الكارثة (مقتل غانم على يد عبّاس، بعد أن ظن أنه جندي عثملي).

يًقدم العرض عدة حكايات هي حكاية جفلة وصالح (ريم حرفوش وأنور حيدر)، وحميدة وعبّاس (حنين جريان وبدر مكارم)، وريما (نورهان حمد)، وريما وغانم (زين عبد الحميد) ومعاناة كل رجل من هؤلاء الثلاثة،
ثم حكايات أقل منها طولاً:
سليم وإبراهيم (يحيى دراوشة ومحمد حمد) والبدوي (يحيى دراوشة) وآرتين (عبد الحميد شيخي) وزلفا وعامر (سارة عيسى ومحمد شعبو)،
ولكن نتيجة الحذوفات نجد أن الحكاية الوحيدة المكتملة درامياً هي حكاية (جفلة وصطوف) وجاءت حكايات هؤلاء الناس المتميّزة متعددة وفي مجرى سردي طويل،
مما ولّد لدينا الإحساس بالملحمة،
وكأن العرض يقدم قصة الشعب ولكن ليس ككتلة مبهمة، بل كأفراد نعرف كلاً منهم بمواصفاته ومعاناته.

بدا أن العرض يلامس بعض المحظورات لدى المتلقي (الدينية والأخلاقية وأحياناً السياسية) والارتداد نحو الدين كخلاص نهائي، في أغنية “لازمنا الله ومولازمكن”،
فهناك أناس يتاجرون مع الدول الأوربية، وأناس مستفيدون من السلطة العثمانية،
وكل منهم يريد أن يجر الشعب إلى صفه، بينما الشعب مخنوق وجائع إلى درجة لا يجد فيها ملجأ إلا الله، وحين يسخر منهم الغني وينعتهم بقلة العقل،
يجيبونه بالأغنية التي تقول “نحن نحتاج إلى الله بسبب كذا وأنتم لا تحتاجونه لسبب كذا”.
وأعتقد بأن العرض لا يمس محظورات عند الناس،
بقدر ما يعرض الحالة التي وصلوا إليها، والصراع الذي انتقل إلى النفوس والمفاهيم،
بعد أن كان صراعاً على الملكية والسلطة.

الأداء الملحمي

لجأ المخرج إلى الأسلوب الملحمي في الأداء، الذي كان يتغيّر مع تغيّر نوع الخطاب،
فتارة نجد الممثل يؤدي الدور المعطى له،
وتارة نجده يخاطب الجمهور بشكل مباشر كراوٍ ومُعلق على الأحداث،
ثم يعود للدخول في دوره، أو يبدأ بالمشهد من بين الجمهور في الصالة،
كما شارك الجميع كجوقة في السرد والتعليق والغناء،
من خلال بنية الحكاية غير المتسلسلة، هذا الأسلوب يخلق بين الممثل والمتفرّج بعداً يساعد على كسر الإيهام،  ليظل المتفرج متيقظاً يحاكم عقلانياً ما يجري أمامه أو حوله.
كما تم كسر العلاقة الأحادية بين الممثل والشخصية،
فالممثل يلعب عدة شخصيات مختلفة، وتخلل سرد الحكاية وقفات من الرقص والغناء الشعبي سواء من المغنين (يوسف الخليل وريف حسن) بمصاحبة الفرقة الموسيقية (موسيقى محمد عزّاوي، إشراف غادة حرب) أو من الممثلين أنفسهم،
هذا الفصل بين الخطاب اللغوي والمسموع (موسيقى وغناء) كمصدرين مختلفين للمعلومات التي تُعطى للمتفرج، أدى إلى نوع من التغريب.
وبدا الممثل في العرض وكأنه يبرهن على ما يؤديه أكثر من كونه يعيش الدور،
ساعده على ذلك التقنية المستخدمة (الشاشة السينمائية) التي تعرض وتؤكد ما يتم تقديمه في كل لوحة.

حافظ العرض على اللهجة المحكية، وهي لغة النص الأصلي.
يقول ممدوح عدوان: “وثائق كتبها فلاحون على شكل قصائد وأغانٍ ومذكرات مكتوبة بالعامية أو الفصحى المكسّرة،
وجدت أن أية محاولة لإرجاع هذه الوثائق إلى الفصحى،
سوف تقتل روحها العفوية وتعبيرها الصادقين، رؤية الفلاحين لواقعهم وأنفسهم”.

اللغة في العرض دلالية تمييزية،
من حيث تنوّع الشخصيات وانتماءاتها الاجتماعية والعرقية (عثمانيون- أرمن- عرب)
أو مستوياتها الطبقية (فلاحون ــ بيك).
شكلّت اللهجة العامية حاملاً لروح الفولكلور والتراث والذات المُعبّرة في تلك المرحلة.
تنوّع اللهجات إلى جانب بعضها، أعطى العرض دفقاً درامياً وحيوياً. وإذا كانت اللغة تمييزية،
لكن أداء الممثلين لم يؤسّس للتمايز بين الشخصيات على اختلافها،
وافتقرت الشخصيات إلى العمق المطلوب.. هذا من جهة،
ومن جهة أخرى نحا الأداء نحو المبالغة في الحزن والفجائعية،
ودخلت عليه عناصر ميلودرامية عملت على إثارة الانفعالات والمشاعر،
ما لا ينسجم مع جوهر الأداء، وهو “التمازج بين المُضحك والمبكي،
أي رواية الفاجعة بطريقة مُضحكة” كما يقول ممدوح عدوان.

العمل على الإلقاء كان ضعيفاً للغاية، وشكّل ثغرة واضحة في العرض،
مخارج الحروف لم تكن صحيحة في مواضع عديدة، وإلقاء الجمل بشكل متصل أحياناً،
مع غياب لحظات التقييم للجملة،
ولعل أحد أسباب هذا الإلقاء المتعثر هو الأداء المتسم بالتوتر والمبالغة في الانفعالات، دون مبرر في مواضع عديدة.

سينوغرافيا العرض

تميّز ديكور العرض (ريم الماغوط) بالبساطة والغنى،
واتسم بالأسلبة ليكون عنصراً من عناصر التغريب،
وليلبي بديناميكية تنوع الأحداث والمشاهد والنقلات المكانية الزمانية (القرية، الحرش، الجبهة، السجن) إذ تم تقسيم الفضاء بما يناسب ذلك،
تشكيلات بسيطة تمثل القرية وبيوتها، والساحة هي المكان البؤرة،
حيث تجري الأحداث ومكان اجتماع أهالي القرية المعتاد،
عبارة عن مستويين،
المصطبة في الأعلى للبيك (محمد السليمان) والمختار (فراس علي) والشاويش (أحمد عباس)
والمستوى الأسفل للأهالي،
مما يعكس السيطرة الطبقية والسلطوية على أهالي القرية،
وتبدو القرية المكان الأكثر حضوراً في الفضاء، وكأن حكاية القرية هي الأهم.
وفي مقدمة الخشبة أسلاك شائكة كمكان للجنود الذين أخذهم الدرك من القرية إلى ساحات القتال.
أما الأيمن فمكان المرأة العجوز ـــ الراوي (جودي قرواني) والأيسر للسجن،
بينما جلست الفرقة الموسيقية في مكان أقرب إلى الصالة.
وتداخلت الفنون في الفضاء ففي عمق الخشبة شاشة عُرضت عليها (اليهود في فلسطين، جلد السجناء وتعذيبهم، اغتصاب النساء، إعلان حرب السفر برلك المطبوع الذي يمثل السيف والمدفع، صورة جمال باشا السفاح)
وذلك ضمن رؤية ما بعد حداثية، يتجاور فيها التاريخ والتراث والمعاصرة.

أما الإضاءة (ليوناردو الأحمد) فاستخدمت لتقطيع اللوحات،
وكانت عامة تخفت تدريجياً وتتحوّل إلى سبوت، عند التركيز على ممثل أو مشهد معين يُعتبر من المفاصل الأساسية في العرض.
حاول المخرج تقديم قراءة معاصرة للحرب ولأيام الجوع السابقة،
وكيف أن الناس ما زالوا يفكرون كما كان أجدادهم يفكرون في مطلع القرن،
في محاولة لفهم أسباب التفكير الآن بهذه الطريقة،
خاصة موضوعة الشرف “الحرب خلصت إلا الشرف”،
وليشير من خلال الماضي (التاريخ) إلى الحاضر،
تاركاً للمتفرج أن يُحاكم ويستنتج أن الأوضاع والقوانين التي تحكم الشخصيات في الحكاية على الخشبة،
هي ذات القوانين التي تحكمه في الواقع،
في ظل ما يعيشه هذا المتفرج من أوضاع اجتماعية واقتصادية وسياسية متردية.  

مقالات ذات صلة

- Advertisment -

الأكثر شهرة