جوى للانتاج الفني
الرئيسيةفي الصالاتسعاد: لو كنت أعرف خاتمتي ما كنت بدأت

سعاد: لو كنت أعرف خاتمتي ما كنت بدأت

بات يجد الكثير من المخرجين المصريين في البيئات الشعبية ضالتهم ومنجمهم للبحث عن الحكايا والشخصيات القريبة من الأرض والمثيرة للأهتمام لتشريح واقع حال المجتمع المصري , بيئات تراكم فيها الزمن مخلفاً الكثير من الفوضى والتضاد والعشوائية العمرانية والنفسية على حد سواء , أفلام مثل ( ورد مسموم ) لفوزي صالح عام 2018 و( يوم الدين ) لأبو بكر شوقي سنة 2018 و ( ريش ) لعمر الزهري عام 2021 والفيلم القصير الحاصل على سعفة كان الذهبية ( ستاشر ) لعلاء سامح عام 2021 وهو أول فيلم مصري ينال تكريما رفيعا من مهرجان أوروبي مرموق كمهرجان كان , ومؤخرا فيلم ( البحث عن منفذ خروج للسيد رامبو ) الذي تم افتتاحه مؤخرا في مهرجان فينيسيا محققا أصداءاً جيدة.

ايتن أمين ( 1978 – ) مخرجة مصرية سبق ان قدمت فيلمها الأشهر ( فيلا 69 ) عام 2013 تعود ( لسوء حظها ) مع فيلمها سعاد في الفترة التي اجتاح فيها الكوكب فايروس كوفيد 19 , ولكن لحسن حظنا فإن الفيلم يعتبر من القلائل الذي دخل في المسابقة الرسمية لمهرجان كان ( رغم توقفه ) وفي مسابقة بانوراما الموازية للمسابقة الرسمية في مهرجان برلين , مهرجانان أوروبيان من الصف الأول وهذا من النادر أن يحدث في السينما عموما ليس فقط في السينما العربية.

لقطة من الفيلم

اقتحمت ايتن بيئة من تلك التي باتت محببة في المهرجانات , بيئة مدببة بكل شيء فيها , تبدو للوهلة الأولى وكأنها تعبير عن الفلوكلورية الشرقية , ولكن غايات الفيلم تجاوزت هذه الاعتبارات نحو التشريح المجتمعي من وجهة نظر مراهقة تراقب كل تلك الفوضى الاجتماعية وتعكسها داخليا على شكل هرمونات غير متوازنة , ما بين الشكل المحافظ دينيا , والأبواب المغلقة التي فتحتها السوشال ميديا على مصرعيها . ليبدو الفيلم وكأنه اقتحم هذه البيئة بإيحاء وثائقي مقصود رافض للجماليات المزيفة او المكيجة العلنية على ذات النهج الذي سبق ان اتبعته عدد من الأفلام التسجيلية المصرية في الآونة الأخيرة مثل التسجيلي الشهير ( البنات دول ) عام 2006 للمخرجة تهاني راشد والوثائقي ( في الليل يرقصن ) عام 2010 للمخرجين ايزابيل لافين وستيفان ثيبولت.

 

 

فيلم صنع برمته للمواجهة دون تحقيقها علانية

 

 

لعب الفيلم مع شخصياته لعبة الكراسي الموسيقية على طريقة ألفريد هيتشكوك في فيلم ( سايكو 1960 ) لتتناوب البطولات وتتناوب الوقفات من الحياة والحب والمدينة التي يزخر لحمها بالقصص , لتبدأ سعاد بصفة ( البطلة ) في باص نقل داخلي عتيق تتجاذب أطراف الحديث مع الغرباء , افتتاحية ذكية وضعتنا بسرعة ضمن دوامة هواجس مراهقة وردة الفعل الاجتماعي تجاهها , نتعرف على صراع غير واضح الملامح لبلوغ فتاة تجاوزت مرحلة الدراسة الثانوية العامة وبدأ اختلاطها بالذكور واقعا , في بيئة ذكورية لاشك , ولكن كاميرا أمين زارت الغرف الخلفية للبنات دول , حيث احترفت كل واحدة منهن ارتداء الأقنعة , سواءً كان هذا القناع على شكل طرحة او صفحة على الفايس بوك , وهنا اتقنت كاميرا امين كسر قواعد الصورة والمونتاج وتحررت منهما تماما بأسلوب يُذكرنا بستايل دوغما ( لارس فون ترير وتوماس فانتربرغ ) الدنماركية وقواعد عفتها العشرة . فالكاميرا كانت شديدة التنقل بين الشخصيات باستخدام الإضاءة الطبيعية والحركة المستمرة المضادة للمسرحة , لتبدو اشبه بتعبير بصري عن الفوضى الداخلية لشخصياتها المراهقة وأفقهم المسدود , سواءً على الصعيد الاجتماعي أو العاطفي.

نحن أمام فتيات معرضن بشدة لشتى أشكال المغريات ليبدو معها الحب وكأنه شكل من أشكال الخطيئة حتى ولو لم تُمارس بشكلها الجسدي , فأصبحت لهذه العاطفة رهبة تمارس في الخفاء لا عين ترصدها سوى كاميرا ايتن أمين المهزوزة والتي كشفت مكنونات عميقة لدى ( سعاد ) الضحية التي لم ترتكب الذنب فآثرت تحقيق العقاب الذاتي , ففي بيئة مليئة بالعيون , أفعال من هذا النوع لا تختفي من تلقاء نفسها بل هي مهيئة لإحداث الأثر لكل المراقبين , وهنا أتى دور شخصيتنا الثانية ( رباب ) التي بدأت رحلتها بالاكتشاف.

لقطة من الفيلم

فيلم سعاد لا يكتفي فقط بالرصد وتتبع الأفعال , بل أعطى الأولوية لدراسة الأثر أيضا , رباب لم تفهم معاني الحب وخطورته , وبدافع من فضولها البريء آثرت ان تكتشفه بنفسها ليأخذنا معها الفيلم في رحلة رصدت عالم الذكورة ( غير المدان ) بالمطلق في شوارع المدينة, ليبدو رجل الفيلم الوحيد وكأنه أيضا ضحية , ولكن ضحية ماذا ؟ , فهو لا زال يراقب الفتيات ويحترف السوشال ميديا في منزل فارغ ينتظر الزوجة التي لن تأتي قريبا مع توفر الكثير من الفتيات التي تشبه ( سعاد ).

هذه النوعية من الأفلام باتت تُعرف في السينما العالمية باسم Coming of Age الأفلام التي تختار لنفسها شخصيات تبلغ الآن ( تبلغ امام عدسة الكاميرا ), هي أفلام عن البلوغ والاكتشاف , كحال شخصياتنا في هذا الفيلم , ولكن تحت تأثير البيئة الاجتماعية تجاوز ( سعاد ) هذا التصنيف , وبات يصور الأستثناء داخله , يصور العلاقات المشوهة الناتجة عن التباين بين أسرة محافظة لدرجة التعصب , وواقع افتراضي باتت شخصياته تعيش داخله بالكامل وكأنه أصبح الملجأ ً للهرب والتقوقع , السوشال ميديا لدى شخصيات هذا الفيلم تشبه الصندوق الأسود القادر على تقديم الإجابات الوافية عن أسباب الحوادث الكارثية كالتي عانت منها سعاد .

الحب مدان والضحايا دون جلاد واضح

لايبدو الفيلم متصالحا للغاية تجاه شخصياته , ولكنه لم يقدّم على المقلب الآخر مسؤولأ واضحاً عن أزماتهم ولا عن سبب التقوقع الشديد والاختباء والتواري عن الأنظار , لم يقدم لنا جلاداً واضحا نُدينه او نُحمله تبيعات كل تلك الكوارث والانقلابات الشديدة في حيوات شخصياته النسائية , ترك الفيلم لحظات الاشتباك مفتوحة , وفي ذلك تحميل المسؤولية للجميع , مع انحياز الفيلم عاطفيا لنسائه , كونهم محصورين في مساحة رد الفعل , يجتمعن لمناقشة اسرارهن الجنسية , يرقصن على انغام أغاني محمد منير وجورج وسوف ونانسي عجرم , كونها ربما تنطق بما يعجزون عن التصريح به , كونهن يحبسن الكثير من العاطفة التي لا سبيل لخروجها من عقالها الحديدي , ولأنها على جانبٍ آخر تذكرهم بما تبقى لديهم من عفوية أو حرية.

 

 

ينتمي “سعاد” إلى جانرة أفلام تصل شخصياتها إلى البلوغ أمام عين الكاميرا

 

 

تقصّد فيلم ( سعاد ) أن يضعنا أما شخصيتين تنتميان لجيلين مختلفين , سعاد التي اختبرت بعض الأمور , وعايشتها ووضعتها في صندوقها الأسود , ورباب التي لا ترى سوى أثر كل هذه المواربة على اختها الكبيرة , لتبدوان وكأنهما معزولتان حتى عن اسرتهما , لم نر لقطة واحدة تؤثر فيها الأم أو الأب على وجهة نظر البنات من العالم والحب , لم نر لقطة واحدة تجتمع فيها الاسرة على مائدة طعام او حول المدفأة مثلا , نحن امام شخصيات تجاهد للحصول على بدائل , تلجأ للصمت بديلا للبوح , تلجأ للهرب بديلا للمواجهة , تكتفي بالاختباء بديلا للصدق , هذا خلق فجوة كبيرة على الصعيد النفسي والأسري , وبالمقابل كان حجم الفضول للاكتشاف اعقد واعمق.

لقطة من الفيلم

لاشك أن طرح معالجة من هذا النوع يتطلب جرأة كبيرة , صحيح ان الفيلم لم يسمح لشخصياته بالمواجهات العلنية , ولكن الفيلم برمته صُنع للمواجهة , دون نبرة نسوية معيقة او مؤدلجة للمشكلة , دون خطابية كانت ستودي بالفيلم نحو الوعظ , ودون توظيف مجاني للشخصيات المُساومة , ومع الكثير من اللحظات الآسرة عاطفيا , وهذا ما سمح للفيلم بطرح مشكلة جيل تائه محترف في خلق البدائل بغض النظر عن صوابيتها النفسية , جيل يعبث بشبابه الذي يضيع في الحيرة ما بين الصح والخطأ , ما بين الخوف والاختباء , ما بين الأرضية الدينية التي وجدها فجأة هذا الجيل تتناقض مع طبيعته العاطفية وفضوله الجنسي وعلاقته الاسرية , ولهذا السبب , كانت أحدى ذرى الفيلم , بأن رمت رباب الجنيه في بئر تحقيق الاحلام , وتمنت ألا تختبر الحب مطلقاً.

فراس محمد – صحفي وناقد فني سوري

مقالات ذات صلة

- Advertisment -

الأكثر شهرة