جوى للانتاج الفني
الرئيسيةنقد تلفزيونيسره الباتع ... لـ خالد يوسف

سره الباتع … لـ خالد يوسف

سلمان عز الدين

عن الهوية الوطنيةالخالدة.. وأساطير أخرى

في العام 1958 أصدر يوسف إدريس مجموعته القصصية “حادثة شرف”، وضمت سبع قصص، تدور ست منها في عوالم إدريس المألوفة، وحول ثيماته الأكثر تكراراً. أما القصة السابعة فكانت مختلفة، إذ غاب عنها مبضع الجراح الذي يُعمل التشريح في جسد المجتمع المكبل بعادات حديدية راسخة، والموسوس بهواجس “الحرام” و”العيب” و”الشرف”..

في “سره الباتع”، القصة السابعة، يبدو القاص الشهير وكأنه يعيد الاعتبار للمجتمع الذي أنهكه نقداً، فيتحدث عن “عبقرية الشعب” الفطرية، وروح المقاومة الأبدية لديه، وعن “معجزة البقاء” التي تمكنه من هزيمة جميع الغزاة وتذويب كل الهويات والحضارات الوافدة، ليبقى جوهر الهوية الوطنية خالداً، وشعلة الحضارة الأزلية متقدة على الدوام..

كانت هذه نغمة سائدة، انطلقت مع ثورة يوليو (1952)، واستمرت بقوة طيلة الخمسينات والستينات، عندما تم اكتشاف مفردة “الشعب” السحرية وتحميلها بدلالات وصفات إيجابية لا تحصى. ولم يقتصر الأمر على الحاضر الناهض أو المستقبل الواعد وحسب، بل وطال أيضاً حقبات الماضي التي أُعمل فيها التنقيب الدؤوب بحثاً عن “مآثر الشعب العظيم”، مع غض النظر عن أن مفهوم “الشعب” لم يكن موجوداً فيها أصلاً!.

تتحدث القصة عن فلاح مصري (السلطان حامد) قاد مقاومة شعبية ضد جيش الحملة الفرنسية على مصر (1798 ـ 1801)، وسطر بطولات خارقة صارت أساطير يرددها الشعب المصري في كل مكان.. وإذ استطاع الفرنسيون قتله في النهاية، فإن المصريين ردوا بأن جعلوا قبر حامد (أسموه السلطان تكريماً) مقاماً يُزار للتبرك، وعندما نبش الفرنسيون المقام وقطعوا الجثة إرباً ونثروها في أمكنة متباعدة، فإن رد المصريين كان سريعاً إذ أقاموا مقاماً للسلطان في كل موضع يحوي قطعة من جسده.

نستطيع، وإن على سبيل التكهن، أن نعرف ما الذي أغرى خالد يوسف في هذه القصة ليحولها إلى مسلسل من ثلاثين حلقة (بالعنوان نفسه)، مدشناً علاقته بالدراما التلفزيونية، وهو القادم من السينما حيث حقق عدداً من الأفلام نجح بعضها في إثارة شيء غير قليل من الاهتمام والجدل.

فالقصة تدور في زمانين مختلفين (خط معاصر بطله شاب يبحث عن سر مقام السلطان حامد، بموازاة خط السلطان نفسه أثناء الحملة الفرنسية)، وبحكاية فيها غموض وبحث عن سر، كما تحتوي على بذور ملائمة لعمل درامي ملحمي: جيوش ومجاميع ومعارك ومغامرات..

ومع ذلك فلقد احتاج المخرج (كتب السيناريو والحوار بنفسه) إلى تمديد الصفحات

الأربعين للقصة، فأضاف إليها شخصيات كثيرة ووقائع وأحداثاً وتفاصيل.. وخطوطاً كاملة لا أثر لها في النص الأصل.. وكل هذا كان ليسير بسلام لولا أن خالد يوسف قرر، لسبب غامض، إضافة مسلسل آخر إلى المسلسل الذي نتج عن قصة إدريس، ذلك الذي يدور حول ثورة يناير المصرية (2011) ودور التيارات الدينية ورعونة الشباب الثوري في إفشالها.. لنحصل على عملين مختلفين منفصلين لم ينجح المخرج في إقناعنا بأنهما عمل واحد، ويحتاج المشاهد إلى صبر وتسامح وسعة صدر ملائكية ليتجاوز هذا الفصام وليعثر على الرابط العجيب بين

الخطين/ المسلسلين!.

على العكس من ذلك، فإن المخرج ـ الكاتب حافظ بأمانة متناهية على الخطاب الأيديولوجي للقصة الأصل والقادم من الخمسينات، فجميع الشخصيات المصرية تقريباً، وخاصة في زمن الحملة  الفرنسية (1800 تحديداً)، يكررون العبارة ـ الاسطوانة ذاتها: “مصر هزمت جميع الأعادي وظلت هي هي بلا تغيير.. دوخت اليونان والرومان والمماليك والعثمانيين..”، وبدا غريباً للغاية أن يظهر فلاحو القرن الثامن عشر في قرية شطانوف (مكان الحدث) وكأنهم، جميعاً، أساتذة في التاريخ القديم والحديث والمعاصر!.

ومقولة “الشخصية الوطنية الخالدة”، المنظور إليها على أنها جوهر ميتافيزيقي ثابت وأبدي، هي أمر يحتاج إلى مراجعة، ذلك أنها تنتمي إلى مفهوم عتيق وغير تاريخي، وتخبرنا الكتب الجادة (والفن الجاد كذلك)، أننا جميعاً، في مختلف بلداننا، نتاج تلاقح مستمر، سواء كان هذا التلاقح قد تم سلماً أم حرباً.. وبمعنى ما فإن حضاراتنا وثقافاتنا جميعها هي نتاج امبراطوريات، والامبراطوريات صنعها غزاة. ولن يضيرنا الاعتراف بهذه الحقيقة التاريخية، وكذلك لن ينقص من مشروعية حبنا لأوطاننا.

وفضلاً عن ثقافتهم التاريخية الرفيعة، فقد كان فلاحو المسلسل مصابين بجنون عظمة جماعي، لا يتوانون، كل ما قابلوا جندياً فرنسياً، عن إلقاء درس في الأخلاق والوطنية والشجاعة.. وبالمقابل استعار المخرج لـ “الآخر” النسخة الأكثر ابتذالاً وبؤساً من التعاطي الدرامي العربي، فجميع الجنود الفرنسيين (باستثناء واحد فقط)، وضمنهم القادة الكبار، جبناء “خرعون” وعصبيون وحمقى وأنذال وقليلو الحيلة..

القائد بيلو (نضال نجم) ظل حتى مقتله متشنجاً وأسير سورات غضب لا تنتهي، وفجأة عندما تم أسره (حدث غير موجود في قصة إدريس) تحول إلى بكّاء يثير التقزز.. ونابليون نفسه  ظهر كأحمق كبير دائم الغضب والحرد، فضلاً عن الروح الشريرة التي تسكنه، ما يدفع إلى التساؤل: كيف استطاع قائد هش مثل هذا القائد، يقود جيشاً جباناً مثل هذا الجيش، أن يحقق الانتصارات اللاحقة في أوروبا والتي جعلت من نابليون أسطورة حربية وسياسية؟!.

السلطان حامد (أحمد السعدني) ورفاقه من المقاومين (وهم مجرد فلاحين يرزحون تحت أشد أنواع السلطة ظلاماً وظلماً) أظهروا من الرزانة والتعقل والدهاء الحربي وبعد النظر السياسي، ما جعل نابليون يغدو قزماً أمامهم، وبالطبع فالتجهم في الدراما العربية هو قرين المقاومة، ولهذا ظهر مقاومو خالد يوسف وكأنهم مبتلون بحموضة دائمة في المعدة.

والواقع أن مفردة المقاومة، التي ألصقها المخرج بثوار “شطانوف” القرن الثامن عشر، مستوردة بكامل عتادها من حاضرنا الراهن، مع كل مستلزماتها العصرية من هتافات وأهازيج وجمل طنانة، والأهم أن المسلسل عالج المقاومة كقيمة مكتفية بذاتها، كهدف نهائي وليس كوسيلة، كأغنية تمجيدية عابرة للعصور. نحن نقاوم لأننا نعشق المقاومة ولأننا خلقنا مقاومين. كنا كذلك منذ القدم وسنبقى كذلك إلى ما لا نهاية، فينتفي مفهوم أكثر غنى وعقلانية: المقاومة رد فعل اضطراري أملاه فعل كريه هو الاحتلال، وحالما ينتهي الفعل المسبب علينا أن نعود إلى حياتنا الطبيعية.. وأما أن يكون تعريفنا الوحيد لـ “شخصيتنا الوطنية الخالدة” هي أنها مقاومة أبدية، فهو يضيف وهماً إلى الوهم، ويثير تساؤلاً مشروعاً عن هذا النوع من العظمة!.

المسلسل حافل بالأخطاء والعثرات: مشاهد اقتحام القلعة لخطف بيلو، وصيد الجنود بالشبكة، ودخول فلاحين مصريين إلى ثكنة فرنسية مرتدين زي العسكرية الفرنسية مع اتقان تام للغة المحتلين.. وغيرها الكثير، بدت كفواصل كوميدية جاءت لتكسر جهامة الرطانة الوطنية..

ولغة العمل كانت مشكلة واضحة، وهو أمر يواجه، للأمانة، كل الأعمال الدرامية التي تُظهر أجانب. وقد اعتادت الدراما العربية تقليدياً أن تجعل الغرباء يتحدثون الفصحى، فيما تترك العامية للأهالي. خالد يوسف اتبع أسلوباً آخر، إذ جعل الجميع يتحدثون العامية المصرية (بما فيهم نابليون نفسه)، وهذا ليس عيباً بذاته، لو أن يوسف انتبه إلى أنه من غير المنطقي أن يتقن الفرنسيون مفردات الردح البلدي، فيقول، مثلاً، جندي فرنسي ابن فرنسي: “يا لهوي.. يا خرابي”.. ويخاطب القائد بيلو شيخ البلد، وهو يتقصع ويتمايل: “جرى إيه يا عم الوطني”..

الحملة الفرنسية حدث مفصلي في التاريخ العربي. إنها غزو. هذا صحيح، ولكنها أيضاً كانت الصدمة التي جعلتنا نصحو على العالم الحديث الذي كان قد نشأ خارج حدودنا وخارج أفق وعينا. ومفاعيل الحملة الثقافية والحضارية والسياسية أكبر بكثير من أن يتم اختزالها في هذا التبسيط: غزاة حمقى تجرؤوا على دخول أرضنا فلقناهم درساً و”اديناهم على قفاهم” ففروا صاغرين!.

كان بإمكان خالد يوسف أن يقدم معالجة أكثر تركيباً وغنى تليق بحدث إشكالي كبير كهذا، ولكنه اختار الطريق الأسهل، معيداً أسطوانة عتيقة، وضعناها على المُشغّل منذ نصف قرن، ولا تزال، للأسف، تدور..

المادة السابقة
المقالة القادمة

مقالات ذات صلة

- Advertisment -

الأكثر شهرة