جوى للانتاج الفني
الرئيسيةمساحة حرةزمن عادل إمام

زمن عادل إمام

سلمان عز الدين

في كتابه “المضحكون”، الذي صدر أوائل السبعينات من القرن الماضي، يستعرض محمود السعدني أجيال الكوميديا المصرية، من نجيب الريحاني وعلي الكسار إلى المدبولي والمهندس ومحمد رضا..
وصولاً إلى ما كانوا، يومئذ، جيل الشباب الواعد.
وعن هؤلاء يكتب: “هذا هو آخر فوج من المضحكين، ولا نستطيع أن نتكهن بالمستقبل لهم، لأن المستقبل بالنسبة لهم ما زال في علم الغيب، وقد تأتي الرياح بما يشتهي المضحكون، وقد تأتي بما لا تشتهي السفن..”.
ويتوقف مطولاً عند أحدهم: “وهؤلاء المضحكون الجدد هم شلة العيال،
ولا شك أن عادل إمام هو أبرزهم وأقدرهم وأشهرهم و.. أنجحهم أيضاً..
ولقد أدرك تجار السينما المدربون أن هذا الطائر الجديد يصلح ليكون مصيدة لجمهور السينما. فأدخلوه في مفرمة السينما، وفي أدوار تصنع لهم فلوساً ولكنها لا تصنع من عادل إمام نجماً،
ولعله هو أول من يدرك هيافة هذه الأدوار وسطحيتها.. وعادل إمام فلتة فنية ولا شك،
ودخوله السينما المصرية ليس بالأمر السهل خصوصاً في سوق لا يعترف كثيرا بالمواهب ويفضل عليها الأشكال.
فالوجه الجميل خير من العقل الذكي، والأناقة خير من الثقافة، والمصنوع أعظم من الوهوب”. ويختم: “ولو أدرك عادل إمام كم هو موهوب وكم هو مطلوب لنجا بنفسه من الكمين الذي أعدوه له”.

ونجا عادل إمام بالفعل، محققاً نبوءة السعدني التي صاغها على شكل أمنية،
مغادراً إلى الأبد شخصية المهرج السنيد الذي يقتصر دوره على إضافة شيء من التوابل إلى قصة البطل الوسيم والبطلة الفاتنة. لم يعد ذلك الشاب الأحمق الذي يفسد غراميات رشدي أباظة وينال منه “العُلق” لقاء ذلك،
كما لم يعد المساعد الظريف للص الدونجوان أحمد مظهر..
صار بطلاً كامل النجومية، تُصنع الأدوار على مقاسه، وتؤلف الأفلام من أجله،
وغدا، في مفارقة صارخة للمألوف، “حبيباً” تقع في غرامه حسناوات الشاشة المصرية: سعاد حسني وميرفت أمين ولبلبة ويسرا..
متجاوزاً بذلك عائق الشكل ومقاييس الأناقة، ومتحدياً طواقم عديدة

من النجوم المتسلحين بكامل العدة القديمة، من ذوي القامات الممشوقة والعيون الساحرة والشعور الصفراء المهفهفة..
في الثمانينات، يوم دخلنا الجامعة وخرجنا من قرانا وحاراتنا الشعبية إلى العالم الأرحب،
كان عادل إمام هو فارسنا. كنا أيضاً سمراً عديمي الأناقة، بقامات هزيلة وعيون محرومة،
فصار هو مندوبنا إلى أحضان الفاتنات،
وممثلنا في قصص الحب المشتهاة. وعبر أدواره نفسّنا كثيراً عن رغباتنا المكبوتة، وأنعشنا أحلام يقظتنا.
وكذلك فقد جعلنا “المضحك الكبير” نضحك، بل ونقهقه. ضحكنا معه من ظروفنا ومن سذاجتنا ومن أهلنا وأساتذتنا، ومن أولي الأمر المتنفذين الذين نالوا نصيباً كبيراً من سخريته، ومن شماتتنا بهم.
والأهم أن عادل إمام كان أداتنا في الانتقام الطبقي. فابن الشريحة الدنيا من الطبقة الوسطى نجح في أن يزعج الأغنياء (غير المستحقين) ويقض مضاجعهم، سخر منهم وكشف زيفهم ووقف أمامهم نداً لا يهاب ولا يخجل من انتمائه المتواضع، بل أنه كان، أحيانا، ينجح في جعل نسائهم يقعن في غرامه.

كان في “شاهد ماشفش حاجة” ذلك الغلبان الذي تقوده ملابسات معينة إلى الوقوف في قاعة محكمة لا يعرف عن شروطها وقواعدها شيئاً، فيظل على سذاجته إلى آخر لحظة، وحتى عندما قرر التمرد فهو لم ينجح إلا في إثارة ضحكنا المتعاطف.. لكنه فيما بعد صار شخصاً آخر. نبتت له أنياب وأظافر وصار قادراً على العراك، فنراه في “الواد سيد الشغال” ينجح في تخريب حفلة لبعض الأثرياء الجدد، ويقف بينهم ليلقي عليهم خطبة تقريع نارية، مندداً بسلوكياتهم الشائنة وممارساتهم “التي خربت البلد وأفقرت أهله”.. قبل أن يخطف قلب أجمل بناتهم ويجعلها زوجة له..
ولم نكن ننتبه إلى أن بطلنا قلما دعا إلى تغيير جذري للأوضاع، وأنه كان يكتفي بمثل هذه الاحتكاكات الطارئة، قبل أن يعود إلى موقعه سالماً ويترك خصومه سالمين في مواقعهم..

في فيلم “المنسي” يلعب دور عامل بسيط في محطة تحويل للقطارات، وفي ليلة تقام في الفيلا المجاورة حفلة صاخبة لعدد من رجال الأعمال، وتقوده أحداث غير متوقعة إلى أن يقع ضحية للمحتفلين. وإذ يرفض ابتلاع الإهانة فهو يقرر الانتقام ومواجهة هؤلاء المتنفذين وحيداً، وبعد مغامرات ليلية فيها كر وفر.. ينجح في رد الإهانة وإعادة الاعتبار لنفسه (عبر إنقاذ المرأة التي لجأت إليه هرباً من الحفلة). ولكن الصباح التالي سرعان ما يعيد الأمور إلى سيرها المعتاد. يعود هو إلى وظيفته وإلى وضعه البائس، ويعود رجال الأعمال إلى شركاتهم ومصانعهم، وكل ما هنالك أنهم أخذوا إنذاراً وتذكيراً بأن لهم شركاء في هذه الحياة.. بسطاء وغلابة ولكن لهم كرامة ولديهم أظافر يمكن أن “تخربش”..
كنا لا ننتبه، أو كنا ننتبه ونسامح عادل إمام على هذه النهايات، ربما لأن هذا أقصى ما كنا نتوقعه من واقع حالنا، أو لأننا كنا نعرف أن هذا هو أقصى ما تتيحه الرقابات لنجمنا أن يقوله..

تحاول نظريات عديدة تفسير ظاهرة “الزعيم” الكاسحة وتربعه على عرش “نجم الشباك” لأكثر من أربعة عقود.. أكثرها وجاهة هي التي تقول أن هناك دوراً هائماً كان يبحث عن ممثل، وأن هذا الدور عثر أخيراً على مبتغاه في عادل إمام.. أو الأصح أن عادل إمام عرف بذكائه أن يلتقط هذا الدور الهائم ويمسك بتلابيبه.. ذلك هو دو البطل الشعبي، الصعلوك الظريف، النصاب الطيب.. الذي ينطق باسم الفقراء ويرافع عن قضاياهم في وجه المتنفذين والأثرياء. الشاطر حسن، أو علي الزيبق المعاصر الذي يجيد الحيل ويصنع المقالب ويتحدى “علية القوم”، لينتقم لأهله وذويه ومواطنيه البسطاء..
صحيح أنه صار لاحقاً يلعب دور الرجل المتنفذ، المنتمي إلى طبقة الأثرياء الجدد الفاسدة (مثل أفلام: بوبوس، مرجان أحمد مرجان، عريس من جهة أمنية).. لكنه هنا أيضاً لم يخرج كثيراً عن مهامه الأولى، إذ راح يعري هذه الطبقة من الداخل، مقدماً نماذج صارخة عن عيوبها..

يقول البعض “إن عادل إمام قد تم استثماره من قبل السلطة.
أعطي هامشاً واسعاً لكي يقول في النهاية،
وإن بطرق غير مباشرة، ما تريد هذه السلطة أن تقوله”..
والأقرب إلى الدقة هو القول أن إمام صنع نجومية كبيرة شكلت له حصانة استثمرها هو جيداً،
وشاركه مبدعون آخرون في استثمارها (وحيد حامد، لينين الرملي، شريف عرفة، نادر جلال..)..
وإذا كان من صفقة فقد تجلت على هذا النحو: أن يرفع السقف في نقد الجماعات المتطرفة وبالمقابل يرفع السقف، بالقدر نفسه، في نقد دوائر الحكم.
وقد أنتجت هذه “الصفقة” أعمالاً مثل: “طيور الظلام” و”الإرهاب والكباب”.. وغيرهما من روائع السينما العربية.
ومن أين يأتي عادل إمام بهذه القدرة على الإضحاك؟
سؤال صعب، يشبه أن نسأل: من أين أتى محمود درويش بكل هذا الشعر.. أو نجيب محفوظ بكل هذه الروايات؟!.
ولكن هل انتهى زمن عادل إمام؟

لقد تغيرت الظروف كثيرا في العقد الأخير، فلم نعد نقف أمام تلك السلطات المستقرة المسترخية التي كانت تغض البصر عن كوميديا ذات هوامش سياسية واجتماعية واسعة..
وكذلك فلا شك أن تكنولوجيا المعلومات المستجدة ووسائل التواصل الاجتماعي قد غيرت في مفاهيم عديدة،
بينها مفهوم النكتة والضحك..
ولكن عادل إمام، مع ذلك، لا يزال يضحك الكثيرين.
وإذا ما كان قد بدأ ينحسر حقاً.. إذا ما كان قد صار قديماً، فإن الجديد لم يولد بعد..
ولا يبدو أن أحداً يقدر على ملء هذه الفجوة الكبيرة في وقت قريب.

مقالات ذات صلة

- Advertisment -

الأكثر شهرة